الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد التاسع عشر بعد المائة:
(119)
إنًّ محلًا وإنَّ مرتحلًا
…
وإنَّ في السَّفر إذا مضوا مهلا
على أن "إذ" فيه أيضًا للتعليل. ورواه سيبويه "وإن في السفر ما مضى مهلًا" فلا شاهد فيه، قال سيبويه في "باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة" لإضمار ما يكون مستقرًا لها .. إلى أن قال: وذلك إن مالًا، وإن ولدًا، وإن عددًا، أي: إن لهم مالًا، فالذي أضمرت "لهم" ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحد؟ إن الناس [ألب] عليكم! فيقول: إن زيدًا، وإن عمرًا، أي: إن لنا، قال الأعشى:
إنَّ محلًا وإنَّ مرتحلًا
…
وإنَّ في السَّفر ما مضى مهلا
انتهى. وفي نسخة أخرى: "إذ مضى مهلا" والأولى نسخة الأعلم، والثانية نسخة السيرافي. قال السيرافي: ويروي "مضوا" ومعناه: إن لنا محلًا، يعني: في الدنيا إذا عشنا، وإن لنا مرتحلًا إلى الآخرة إذا فنينا، ويقال: إن في الدنيا محلًا ومرتحلًا إلى الآخرة، والسفر: المسافرون، يعني به من مات. قال أبو عمر: مهلًا: مهلة لمن بقي بعدهم، أي: يستعد ويصلح من شأنه، قال أبو عبيدة.
إنَّ مقيمًا وإنّ مسافرًا
…
وإنّ في السفر إذا مضى مهلا
قال: ذهابًا لا يرجعون، وقيل: وإن للسفر، يريد: من قدم لآخرته فاز وظفر، والمهل: السبق. انتهى. وقال الأعلم: وأراد بالسفر: من رحل من
الدنيا، يقول: في رحيل من رحل ومضى مهل، أي: لا يرجع، ويروى "مثلًا" أي: فيمن مضى مثل لمن بقي، أي: سيفنى كما فني. انتهى.
وتقدير الخبر مقدمًا في البيت إنما هو لكونه أولى، وليس بواجب لتنكير الاسم، لأن الإخبار عن النكرة في باب إن جائز مع تأخير الخبر كما قاله ابن مالك والرضي. وزعم ابن الملاك أن الخبر إنما قدر مقدمًا وجوبًا لتنكير الاسم، و"ما" في رواية سيبويه مصدرية، والمصدر المؤول بدل اشتمال من السفر، والضمير المستتر في مضى راجع للسفر على أنه اسم جمع لمسافر، واسم الجمع يجوز أن يعود عليه ضمير المفرد وضمير الجمع، وعليه الرواية الأخرى:"ما مضوا" أو أنه جمع سافر حقيقة، قال الجوهري: يقال: سفرت أسفر سفورًا: خرجت إلى السفر، فأنا سافر، وقوم سفر، مثل: صاحب، وصحب، وسفَّار: مثل راكب وركاب
…
إلى أن قال: وسافرت إلى بلد كذا مسافرة وسفارًا. انتهى. وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" عن الأصمعي: السفر: جمع سافر، كما يقال: شارب وشرب، ويقال: سافر وسفر أيضًا. وغفل صاحب "القاموس" فقال: السافر: المسافر، ولا فعل له، وتبعه ابن الملا.
وقول المصنف: أي إن لنا حلولًا في الدنيا، وإن لنا عنها ارتحالًا إلى الآخرة، أشار به إلى أن "محلًا" و"مرتحلًا" مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال، وأن متعلقهما وخبر إن في الموضعين – محذوفان. وقول المصنف: وإن في الجماعة الذين ماتوا قبلنا إمهالًا لنا .. إلخ، أشار إلى أن المراد بالسفر: الذين ماتوا، وأن متعلق مهلًا محذوف، وأن مهلًا اسم مصدر بمعنى إمهال.
وهذا مأخوذ من كلام ابن الحاجب قال في "أماليه": بمعناه: إنهم يقولون: إن لنا محلًا في الدنيا، وارتحالًا بالموت، وإن فيمن مضى قبلنا – يعني: موت من يموت – مهلة لنا، لأنا نبقى بعدهم، وهو معنى الإمهال. انتهى.
وهذا غير موجود في كتب اللغة، فإن المهل – بالتحريك – لازم والإمهال متعد، والجيد أن يكون المهل – بالتحريك – بمعنى المهل – بسون الهاء – وهو البطء. قال الأزهري في "التهذيب" عن الليث: تقول مهلًا يا فلان، أي: رفقًا وسكونًا لا تعجل، ونحو ذلك كذلك، ويجوز التثقيل، وأنشد:
فيا ابن آدم ما أعددت في مهل
…
لله درُّك ما تأتي وما تذر
انتهى. وإلى هذا أشار السيرافي في كلامه السابق. ويأتي المهل – بالتحريك – بمعنى التقدم، وهو مناسب هنا، وإليه أشار أبو عبيدة، كما نقل عنه السيرافي. وقول المصنف: لأنهم مضوا، إشارة إلى معنى "إذ" التعليلية، والجيد أن تبقى على ظرفيتها، ويكون "إذ مضوا" بدل اشتمال من السفر، كما قيل به في قوله تعالى:(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ)[مريم/ 16] أن "إذ انتبذت" بدل اشتمال من مريم، وفي كلام ابن الحاجب إشارة إلى البدلية فتأمله.
والبيت مطلع قصيدة للأعشى مدح بها سلامة ذا فائش الحميري، وبعده:
استأثر الله بالوفاء وبالـ
…
ـعدل وولَّى الملامة الرَّجلا
والأرض حمَّالة لما حمل الله
…
وما إن يردُّ ما فعلا
يومًا تراها كشبه أردةي الـ
…
ـعصب ويمًا أديمها نغلا
إلى أن قال:
يسير من يقطع المفاوز والـ
…
ـبعد إلى من يثيبه الإبلا
والهيكل النَّهد والوليدة والـ
…
ـعبد ويعطي مطافلًا عطلا
أصبح ذو فائش سلامة ذو الـ
…
ـتَّفضال هشًّا فؤاده جذلا
أبلج لا يرهب الهزال ولا
…
ينقض عهدًا ولا يخون إلا
يا خير من يركب المطيَّ ولا
…
يشرب كأسًا بكفِّ من بخلا
قلَّدتك الشِّعر لا سلامة ذا التَّفضال والشِّعر حيثما جعلا
والشِّعر يستنزل الكريم كما اسـ
…
ـتنزل رعد السَّحابة السَّبلا
لو كنت ماءً عدّا جممت إذا
…
ما نزل القوم لم تكن وشلا
قد علمت فارس وحمير والـ
…
أعراب بالدست أيّكم نزلا
ليث لدى الحرب أو تدوخ له
…
فسرًا وبذَّ الملوك ما فعلا
روى صاحب "الأغاني" بسنده إلى سماك بن حرب أن الأعشى قال: أتيت سلامة ذا فائش. وأطلت المقام ببابه، حتى وصلت إليه بعد مدة، وأنشدته هذه القصيدة، قال: صدقت! الشعر حيث ما جعل. وأمر لي بمائة من الإبل، وكساني حللًا، وأعطاني كرشًا مدبوغًا مملوءة عنبرًا، فبعتها بالحيرة بثلاثمائة ناقة حمراء.
وقوله: استأثر الله بالوفاء وبالعدل، أي: اختص بهما، وولاه: جعله واليًا. وروي "وأولى" وقوله: يومًا تراها كشبه
…
إلخ، استشهد به أبو علي الفارسي على أنه يجوز للشاعر أن يأتي بمثل: هذا ضارب زيد اليوم، وغدًا عمرا؛ على قبحه في غير الشعر، للفصل بالظرف بين حرف العطف وما عطف به قال: لأن هذه الحروف تنزلت منزلة ما هو من نفس الحرف المعطوف بها، بدلالة قولهم: وهو وهي، وقد أقيم مقام العامل، فينبغي أن يكون أقل تصرفًا، والظروف التي أقيمت مقام الأفعال أقل تصرفًا. فأما قراءة من قرأ:(سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)[الطلاق/ 12] فنصب مثلهن، فإنه أراد الفعل، فحذفه وهو يريده، كما حذف كلًا
في قوله:
أكلَّ امرئ تحسبين امرًا
…
ونار توقَّد بالليل نارا
قال ابن بري في شرح أبيات "الإيضاح": وهذا الذي منعه أبو علي فيه نظر، لأنه أمر لابد منه لأمثاله، ولا انفكاك لنظائره عنه، ألا ترى أنك تقول: أعطيت زيدًا درهمًا وعمرًا دينارًا، فقد عطفت اسمين على اسمين، ولابد أن يكون أحد الاسمين فاصلًا بين الواو وما عطف بها، لاسيما والفصل بالظرف أقرب إلى الجواز، لاتساعهم فيه، وقد جاء في شعر النابغة:
تطلِّقه حينًا وحينًا تراجع
انتهى. والكاف زائدة، وأردية جمع رداء، والعصب بمهملتين، كفلس: برد يصبغ غزله، ثم ينسج، ولا يثنى ولا يجمع، وإنما يقال: بردا عصب، وبرود عصب. ويجوز أن يجعل وصفًا فيقال: ضربت بردًا عصبًا، وقال السهيلي: العصب: صبغ لا ينبت إلا باليمن، كذا في "المصباح". وقال شارح شواهد أبي علي: العصب ضرب من برود اليمن يعصب غزله، أي: يدرج ثم يحاك، وهو في الأصل مصدر سمي به كما سمي المخلوق بالخلق. لأنه معصوب، أي: مشدود مدرج، شبه به الأرض إذا أخصبت، وبالأديم النغل إذا أجدبت، والنغل: بفتح النون وكسر الغين المعجمة: وصف من نغل الأديم نغلًا، من باب تعب: فسد فهو نغل – بالكسر – وقد يسكن للتخفيف، ومنه قيل لولد الزنية: نغل، لفساد نسبه، وجارية نغلة، كذلك، وقيل: زانية. ويثيبه: مضارع أثابه، أي: جزاه.
والهيكل: الفرس الطويل، والنهد: المرتفع، والوليدة: الجارية، ومطافل:
جمع مطفل، كمحسن؛ وهي ذات الطفل من الإنس والوحش، وعطل بضمتين: واحد الأعطال، وهي من الخيل والإبل التي لا قلائد عليها، ولا أرسان لها، والتي لا سمة عليها.
وفؤاده: فاعل هشًا، من هش الرجل هشاشة: إذا تبسم وارتاح. والأبلج: النقي ما بين الحاجبين، وهو من صفات السادة الكرام. والهزال بالضم: نقيض السمن، يريد: هزال أولاد الأمهات التي يهبها أو ينحرها. وقوله: ولا يخون إلَاّ بكسر الهمزة: مخفف "إلّ" بالتشديد، وهو العهد. والسبل بفتحتين: اسم من أسبلت السحابة، وهو المطر، والعد بالكسر: الماء الذي لا انقطاع له مثل ماء العين، وماء البئر. وقال أبو عبيد. العد بلغة تميم هو الكثير، وبلغة بكر بن وائل هو القليل، كذا في "المصباح" وجم الشيء جمًا: كثر، والوشل: الماء القليل. أراد: لو كنت من الماء عدًا جممت ولم تبرح، والدست بالسين المهملة: الأرض المستوية الصحراء، معرب دسَّت بالفارسية، بالمعجمة.
يقول: قد علمت الفرس وحمير والأعراب أيكم غلب على الصحراء ونزل بها، وأشار بهذا إلى الحرب التي كانت بين حمير والحبشة، وكان سيف بن ذي يزن الحميري قدم على كسرى، فاستمده على الحبشة، فبعث معه وهزر الفارسي.
وقوله: ليث لدى الحرب .. إلخ، أو: بمعنى إلى، وتدوخ: مضارع داخ، أي: ذل، وفاعله ضمير الملوك، والقسر: القهر، وبذَّهم غلبهم: وما: فاعل بذّ، والملوك تنازعه تدوخ وبذ، فالأول يطلبه فاعلًا، والثاني يطلبه مفعولًا، فأعمل الثاني، وأضمر في الأول.
والأعشى: اسمه ميمون، وكنيته: أبو بصير بن قيس بن جندل، وينتهي
نسبه إلى بكر بن وائل، وكان أبوه قيس يدعى قتيل الجوع، وذلك أنه كان في جبل فدخل غارًا، فوقعت صخرة من الجبل، فسدت فم الغار فمات فيه جوعًا، وكان الأعشى من فحول شعراء الجاهلية، سلك في شعره كل مسلك، وقال في أكثر أعاريض العرب، وليس فيمن تقدم من فحول الشعراء أكثر شعرًا منه، قالوا: وكانت العرب لا تعد الشاعر فحلًا حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره. وسئل ابن أبي حفصة: من أشعر العرب؟ قال: شيخا وائل: الأعشى في الجاهلية، والأخطل في الإسلام. وسئل يونس النحوي: من أشعر الناس؟ قال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكني أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا وهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.
وهو أول من سأل بشعره، وكانوا يسمونه صناجة العرب لجودة شعره، وقيل: لأنه أول من ذكر الصنج في شعره، وهو ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، وقد كانت العرب ممن أقام على دين إسماعيل إذا حلفت تقول: وحق الملكين، وكان الأعشى ممن أقام على دين إسماعيل، والقوم بالأنبياء عليهم السلام. قالوا: والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية، من ذلك قوله:
استأثر الله بالوفاء وبالعدل
…
البيت
ومدح نبينا صلى الله عليه وسلم، بقصيدة دالية، وقصده من اليمامة ليسلم، ولما كان بمكة صدَّه مشركوا قريش، فرجع، فلما كان بناحية اليمامة ألقاه بعيره فوقصه، ومات على كفره. وسيأتي شرح هذه القصيدة، وذكر صدهم إياه في حرف اللام إن شاء الله تعالى.
قال ابن قتيبة في كتاب "الشعراء": وكان الأعشى يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره. انتهى.