الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه سرق، ويقال: إن حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله:
جزاك إله الناس خير جزائه
…
فقد قلت معروفًا وأوصيت كافيا
أشرت بأمر لو أشرت بغيره
…
لألفيتني فيه لغيرك ماضيا
وفي "كامل المبرد" أنه غرق في ولاية عبد الله بن الحارث على العراق، وذلك في سنة أربع وستين، وذلك أنه أمر على قتال الخوارج، فهزموه بنهر تيرى، فلما أرهقوه دخل سفينة بمن معه، فأتاه رجل من أصحابه، فصاح: يا حارثة، ليس مثلي يضيع! فقال للملاح: قرب، فطفر الرجل بسلاحه في السفينة، فساخت بحارثة ومن معه، فغرقوا جميعًا. انتهى.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الواحد والثلاثون بعد المائة:
(131)
وقبل غد يا لهف نفسي من غد
…
إذا راح أصحابي ولست برائح
على أنهم قالوا: إن "إذا" في موضع جر بدلًا من غد، قال ابن جني في "إعراب الحماسة": حديث إذا في هذا البيت طريف، وذلك أنها وقعت هنا موقعًا غريبًا، لأنها عندنا بدل من غد، وفي موضع جر، فكأنه قال: يا لهف نفسي من إذا راح أصحابي، إلا أن هذا بغير توسط المبدل منه يقبح، لأن إذا قلما تباشر الجار. على أن أبا الحسن قد ذهب في نحو قولنا: "حتى إذا كان كذا
جرى كذا" إلى أن إذا مجرورة الموضع بحتى، وهذا البيت يؤكد الاعتداد بالمبدل منه، وأنه ليس في حكم الساقط البتة، ويجوز أن تكون إذا بدلًا من قوله: من غد، فتكون إذا على هذا منصوبة المحل نصب المفعول به، أي: أتلهف من هذا، كقولك: أتظلم من زيد، وأرغب في جعفر، ألا ترى أن عبرة أتظلم من زيد: أشكو زيدًا، كما أن عبرة مررت بزيد: جزت زيدًا. وقد أجاز أبو العباس أن تقول: إذا يقوم زيد إذا يقوم جعفر، على أن تكون الأولى مرفوعة بالابتداء، والثانية مرفوعة لكونها خبرًا عن الأولى، حتى كأنه قال: وقت يقوم زيد وقت يقوم عمرو، فإذا جاز رفعهما من هذين الوجهين، كان نصبهما على مذهب المفعول به أقرب مأخذًا. ولا يجوز أن تكون إذا ظرفًا للهف، لانقلاب المعنى، ألا ترى أنه لا يريد أن يتلهف وقت رواح أصحابه وتأخره عنهم، وإنما يريد: أتلهف الآن لغد، ومن أجله وأجل ما يحدث فيه. انتهى كلام ابن جني.
وقد يقال: لم لا يجوز أن يريد أنه يتلهف إذا دفن، وراحوا في اليوم الذي يموت فيه لغد ذلك اليوم الذي لا يعودون إليه فيه، وإن عادوا راحوا ثانيًا كما راحوا أولًا. فإن قيل: كيف يتلهف من دفن؟ قلنا: هو إنما نسب التلهف إلى نفسه، مريدًا بها الروح، كما في حديث:"إن الميت يتبع بصره نفسه" لا الحقيقة والذات، فتأمل. وكذا قال المرزوقي والتبريزي والطبرسي في شروحهم.
ولم يلتفت ابن الشجري كالمصنف لما قاله شراح "الحماسة" وجعل إذا ظرفًا،
ولم يجعلها مجرورة ولا مفعولة، فإنه قال في المجلس السابع والثلاثين من "أماليه" في جواب السؤال السابع من الأسئلة الثمانية التي وردت إليه من الموصل ما نصه: العامل في الظرف المصدر الذي هو اللهف، وإن جعلت "من" زائدة، على ما كان يراه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في الواجب؛ فالتقدير في هذا القول: يا لهف نفسي غدًا، فإذا قدرت هذا جعلت إذا بدلًا من غد، فهذان وجهان واضحان، ولك وجه ثالث، وهو أن تعمل في إذا معنى الكلام، وذلك أن قوله: يا لهف نفسي، لفظه لفظ النداء، ومعناه التوجع، فإذا حملته على هذا؛ فالتقدير: أتأسف وأتوجع وقت رواح أصحابي وتخلفي عنهم. هذا كلامه. ولا يخفى أنه لا يظهر الفرق من الأول والثالث، وإنما هما شيء واحد.
وقبل هذا البيت:
ألا علِّلاني قبل نوح النَّوائح
…
وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح
وهذان البيتان أوردهما أبو تمام. والأعلم الشنتمري في باب النسيب من "حماستيهما" لأبي الطمحان القيني، وزاد صاحب "الأغاني" وابن عبد ربه في "العقد الفريد" بعدهما:
إذا راح أصحابي تفيض دموعهم
…
وغودرت في لحد عليَّ صفائحي
يقولون هل أصلحتم لأخيكم
…
وما الرَّمس في الأرض القواء بصالح
أورد صاحب "العقد" هذه الأبيات الأربعة في فصل "من رثى نفسه، ووصف قبره، وما يكتب على القبر".
قوله: ألا عللاني
…
إلخ، علله بكذا: أشغله وألهاه به. والنوح: رفع
الصوت بالبكاء، والنوائح: جمع نائحة، وروي:"قبل صدح النوائح" قال المرزوقي وغيره، الصدح: شدة الصوت، للديك والغراب ونحوهما. والجوانح: الضلوع، جمع جانحة. وارتقاء النفس فوقها: بلوغها التراقي.
وقوله: وقبل غد، أي: قبل موتي في غد، والتلهف: التحسر. ووقع في بعض النسخ: "وبعد غد" قال الدماميني: ظرف لمحذوف، أي: يروحون، أو لتلهف. انتهى. والرواية هي الأولى. وقوله: على غد، أي: على نفسي إذا مت في غد، ويروى:"من غد" وهو أبين، وإذا الثانية بدل من إذا الأولى، أو مؤكدة لها. وتفيض دموعهم، أي: تسيل بكثرة ودفع. وغودرت: تركت، والصفائح: حجارة عراض رقاق، أراد بها ما يجعل غطاء على اللحد يحول بين الميت والتراب، وجملة "علي صفائحي": حال، والرمس: القبر، والقواء بالكسر: القفر.
وأبو الطمحان القيني، بفتح الطاء والميم بعدها حاء مهملة؛ وهو شاعر إسلامي، اسمه حنظلة بن الشرقي، وكان فاسقًا، قيل له: ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدير، نزلت بدير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلًا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كأسها. قال الآمدي: كذا وجدت اسمه في كتاب بني القين بن جسر، وهو شاعر محسن، وهو القائل:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
…
دجى الليل حتى نظَّم الجزع ثاقبه
وهو من المعمرين، عاش مائتي سنة، وقال في ذلك:
حنتني حانيات الدَّهر حتَّى
…
كأنِّي خاتل يدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني
…
ولست مقيَّدًا أنِّي بقيد
وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين، قال أبو عبيد البكري: إنه كان نديمًا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، وأدرك الإسلام.
وهدبة بن خشرم، بضم الهاء وسكون الدال بعدها موحدة، وخشرم بفتح الخاء المعجمة وسكون الشين المعجمة، وينتهي نسبه إلى قضاعة، وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، وكان شاعرًا راوية لشعر الحطيئة، وكان جميل راوية شعره، وهو أول من قنل قصاصًا بالمدينة المنورة، وسببه أن زيادة بن بدر جاء مع هدبة من الشام في ركب من قومهما، فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، ومع هدبة أخته فاطمة، فنزل زيادة، فارتجز فقال:
عوجي علينا واربعي يا فاطما
فغضب هدبة، فنزل، فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أم خازم، وقيل: أم قاسم، فقال:
متى تقول القلص الرَّواسما
…
يبلغن أمَّ خازم وخازما
فتشاتما طويلًا، فتحاجز بينهما القوم، ولما رجعا إلى عشائرهما جعلا يتهاديان الأشعار، ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها، فقتله وهرب، وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص، فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم، فلما بلغ هدبة