الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثامن والأربعون بعد المائة:
(148)
كنواحِ ريشِ حمامةٍ نجديَّةٍ
على أن فيه قلبًا، والأصل: ومسحت اللثتين بعصف الإثمد: قال ابن خلف: وقوله: ومسحت باللثتين .. الخ، أراد: مسحت اللثتين بعصف الإثمد فقلب، لأن الكلام لا يدخله لبس، ومثله في القلب لعروة بن الورد:
فَديَتُ بنفسه نفسي ومالي
…
ومَا ألوكَ إلَاّ ما أُطيقُ
وإنما هو: فديت نفسه بنفسي، ومثله للقطامي
فلّما أن جري سمن عليها
…
كما بطَّنت بالفدن السيَّاعا
وإنما هو: كما بطنت الفدن بالسياع، والفدن: القصر، والسياع: الطين، وقال الشاعر:
كانت فريضة ما أتيت كما
…
كان الزّناء فريضة الرَّجمِ
فقلب، وإنما الوجه أن يقول: كما كان الرجم فريضة الزناء، ولكن جاز هذا لما كان الشاعر يعلم أن مفهوم، ومثله قول الشاعر:
لقد خفت حتى ما تزيد مخافتي
…
على وعلٍ في ذي المطارة عاقل
والمعني: حتى ما تزيد مخافة وعل علي مخافتي، وكذا قول الآخر:
حتى لحقنا بهم تعدي فوارسنا
…
كأنَّنا رعن قُفٍّ يرفعُ ألآلا
أي: يرفعه الآل، فقلب على أصل ما ذكرنا، ومثله قول الآخر:
ويكسو المجنَّ الرخو خصراً كأنّه
إهان ذوي عن صفرةٍ فهو أخلق
وكان الوجه أن يقول: ويكسو الخصر مجنًا على ما ذكرنا، وكما قال أبو النجم:
قبل دُنوِّ الأفق من جوازائه
وإنما تدنو الجوزاء إلى الأفق. وقال آخر:
ولا تهَّيبني المواماة أركبها
…
إذا تجاوبت الأصداء بالسحر
وإنما هو: ولا أتهيب الموماة، وقال آخر:
فصبَّحته كلابُ الغوث يوسدها
…
مستوضحون يرون العين كالأثرِ
والوجه: يرون الإثر كالعين، وكذا قول الآخر:
يرون الجمر مثل ترابها
أي: يرون ترابها مثل الجمر، وقال الفرزدق:
غداة أحلَّت لابن أصرم طعنةَ
…
حصينٍ عبيطات السَّدائف والخمر
فنصب الطعنة وهي الفاعلة، ورفع عبيطات وهي مفعولة، وقال آخر:
فلا تكسروا أرماحهم في صدروكم
…
فتغشمكم إن الرماح من الغشم
ومثله: {خلق الإنسان من عجلٍ} [الأنبياء/37] المعني، والله أعلم: خلق العجل من الإنسان، وقال المبرد: معناه: خلق منه العجلة، وقال أبو عمرو: خلق الإنسان من عجل، أي: من طين، والعجل من أسماء الطين، وقول العرب: أعرض الناقة على الحوض، وإنما الحوض يعرض على الناقة، هل تختار الشرب منه أو لا، ولا معني لعرض الناقة عليه، لأنه لا خبرة له في ذلك، فكان عرض الحوض على الناقة هو الأصل، ومثله: أدخلت الخف في رجلي، والخاتم في إصبعي، والقلنسوة في رأسي، ومثل ذلك أنتقول: أدخل فوه الحجر، فيكون المعني: إن الفم أدخل في الحجر، وإنما حقيقته أن الحجر
أدخل في الفم، وكذلك قول الشاعر:
تري الثَّور فيها مدخل الظّلِّ رأسه
…
وسائره بادٍ إلى الشمس راجعُ
فجعل الظل يدخل الراس، وإنما يجوز أن يقال: يدخل رأسه الظلّ، فقلب لأنه لا يشكل، وقد أجازوا في الكلام فضلاً عن الشعر، أجازوا: أعطي الدرهم زيدًا، فجعلوا الدرهم آخذًا لزيد، والوجه أعطي زيد الدرهم، لأنه القابض له، ولكن هذا لا يشكل، وقال الشاعر.
فإنّ بني شراحيل بن عمروِ
…
تماروا والفجور من التَّماري
وإنما هو: والتماري من الفجور، وقوله:
فدعا دعوة المحنِّق والتلَّبيبُ منهُ في عاملٍ مقصود
وإنما العامل في التلبيب، وكذلك قوله:
أسلموهَا في دمشق كما
…
أسلمت وحشيَّية وهقا
والوهق يسلم الوحشية، فلما كان أحدهما يسلم الآخر جاز، وقوله:
ولما رأيت الهون والعير ممسك
…
على رغمه ما أمسك الحبل حافره
وقوله:
وتركبُ خيل لا هواده بينها
…
وتشقي الرماح بالضَّيا طرة الحمرة
أي: يشقي هؤلاء بهذه الرماح، وقوله:
وإذا تعاورت الأكفُّ رجاجها
…
نفحت فنال رياحها المزكوم
والرياح تنال شامها، فإذا نالته نالها، وقوله:
أقبُّ طمرُّ كسيد الغضا
…
إذا ما الخبارُ انتحاهُ وثب
والفرس ينتحي الخبار، وقوله:
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت
…
نجرانُ أو بلغت سوآتهم هجرُ
وقوله:
متاليفُ يسَّارون والليلُ مسدف
…
إذا الليلُ بالعوج الهدان تحيرا
ومعناه: أن العوج الهدان بالليل تحير، وقوله:
ما كنت في الحرب العوان مغمراً إذا شب حر وقودها أجزالها
والأجزال تشب النار، وقوله:
يا طول ليلي وعادني سهري
…
ما تلتقي مقلتي على شفري
والشفران يلتقيان على المقلة، ونحو:{لتنوء بالعصبة} [القصص/76] فلما كانت العصبة تنوء بالحمل، والحمل ينوء بها، لم تبل أيهما تقول، ومثلها: إنها تنوء بعجيزتها، ومثله:{كماء أنزلناهُ من السماء فاختلف به نبات الأرض} [الكهف/ 45] وإنما الماء يختلط بالنبات، إلى هناك كلام ابن خلف. وكأنه أراد استقصاء أمثله القلب، شكر الله صنيعه، وإنما هذا الذي ساقه المشهور منه.
والبيت من شواهد سيبوية، وهو ثاني بيت من أبياته أورده في أول كتابه في باب ما يحتمل الشعر، قال: أعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبهونه بما ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف، يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفاً، كقول العجاج:
قواطنًا مكّة من ورق الحمي
يريد: الحمام، وقال خفاف بن ندبة: كنوح ريش حمامة .. البيت قال أبوجعفر النحاس: قال علي بن كيسان: إنما كان حقه أن يكون: كنواحي ريش، لأن هذه الياء إنما يحذفها التنوين، ولكنه اجترأ على حذفها إذا كان مضافاً إلى اسم ظاهر، بناه على أن يصل إلى الوقف عليه، قال محمد بن يزيد: جعلها بمنزلة الياءات التي تحذف في الوقف في الفواصل والقوافي، انتهي.
وقال الأعلم: أراد كنواحي ريش، فحذف الياء في الإضافة ضرورة، تشبيهاً لها بما في حال الإفراد والتنوين وحال الوقف، وصف في البيت شفتي المرأة، فشبهها بنواحي ريش الحمامة في رقتها وإطافتها وحوَّنها، واراد أن لثانها تضرب إلى السمرة، فكأنها مسحت بالإثمد.
وعصف الإثمد: ما سحق منه، وهو من عصفت الريح: إذا هبت بشدة، فسحت ما مرت به وكسرته، وهو مصدر وصف به المفعول، كما قيل: الخلق بمعني المخلوق، والرواية الصحيحة:"ومسحت" بكسر التاء، وعليه التفسير، ويروي:"مسحت" بضم التاء، ومعناه: قبلتها فمسحت عصف الإثمد في لثتها، وكانت العرب تفعل ذلك، تغرز المرأة لثاتها بالإبرة، ثم تمر عليها الإثمد والنؤوو، وهو دخان الشحم المحرق حتى يثبت باللثات، فتشتد وتستمر، ويتبين بياض الثغر، ويكون المعني: باشرت من سمرتها مثل عصف الإثمد، وإنما خص الحمامة النجدية، لأن الحمام عند العرب كل مطوق كالقطا وغيره، وإنما قصده إلى الحمام الورق المعروفة، وهي تألف الجبال والحزون - والنجد: ما ارتفع من الأرض - ولا تألف الفيافي والسهول كالقطا وغيره، انتهي كلام الأعلم، وقال ابن خلف: الشاهد فيه حذف الياء من نواحي، وحذف الياء في الإضافة ردئ وحذفها في غير الإضافة أسهل، ونواحي: جمع ناحية، مثل: سارية وسواري، والعصف: ورق الزرع، والإثمد: هذا الكحل المعروف، والكحل: حجر يؤخذ من معدن من المعادن، وليس بشيء ينبت فيكون له ورقن، ولم يكن الإثمد من الأشياء التي ببلاد العرب، وهم لا يقفون على حقيقته إلا ممن عرفه، وقيل: العصف: الغبار، وهذا لا إشكال فيه.
وظن أن الكحل من النبات كالنِلج، كما ظن أبو نخيله أن الفستق من البقول، فقال:
جارية لم تأكل المرقَّقا لم تذق من البقول الفستقا
وكقول الشاعر:
والشيخ عثمان أبو عَفّانا
وظن أن عثمان يكني أبا عفان، وإنما هو أبو عمرو، كقول الآخر:
مثل النصاري قتلوا المسيحا
وإنما اليهود على ما قالت اليهود والنصاري قتلوا المسيح، وقد أكذبهم الله تعالي بقوله:{وما قتلوهُ وما صلبُوهُ ولكن شُبهَّ لهم} [النساء/ 157] وموضع الإنكار على الشاعر أن الذين اعتقدوا قتله، اعتقدوا أن الذين قتلوه هم اليهود، غير أنه ظن أنه لما كانت اليهود والنصارى مخالفين لمله الإسلام، وجاحدين لمحمد (صلي الله عليه وسلم)؛ أنهم جميعًا مشتركون في سائر ما ينكرونه من الأنبياء، انتهي، وقد كشف عن العصف في "التهذيب" و"العباب" و"القاموس" فلم أر ما يناسب هذا الموضع، فثبت قول ابن خلف أن الشاعر ظن أن الإثمد من النبات، وأما قوله: إن العصف بمعني الغبار، فلم أره بهذا المعني، والله تعالي أعلم.
والبيت نسبه سيبويه وغيره إلى خفاف بن ندبة، وقد فتشت ديوانه فلم أجده فيه، وقال ابن خلف: هو لخفاف بن ندبة، وليس في ديوانه، وقال أبو العلاء المعري في شرح "شرح ديوان البحتري" عند قوله:
يا صقيل الشِّعر المقلَّد بالذي
…
يختارُ من قلعيِّه ويما به
القليعة: ضرب من السيوف، وقوله: بيمانه، يجب أن يكون على حذف الياء، أراد: ويمانيه، وذلك رديء جداً، لأن هذه الياء تثبت في الإضافة، وحذفها قليل في هذا الموضع، صنعه ابن المقفع، والبيت: كنواح ريش حمامة
…
البيت، وحذف الياء في المضاف إلى الظاهر أحسن منه في المضاف إلى المضمر، لأن الظاهر منفصل، والمضمر يجري مجري ما هو من الأمم، فقوله: ويمانه، أقبح من قول القائل: كنواح ريش، ونواح ريش، أقبح من قول
الآخر.
فطرتُ بمنصلي في يعملاتٍ
…
دوامي الأيد يخبطن السَّريحا
لأن الألف واللام قد سوغها حذف الياء حتى قيل: [إنها] لغة للعرب، وقد قرأ بها القراء، انتهي كلامه.
وقال الزمخشري في "شرح شواهد سيبويه": البيت عزاه قوم لابن المقفع، وليس كما قالوا، هذا كلامه.
واللثه: بكسر اللام، وثاء مثلثة مخففة: ما حول الأسنان من اللحم، وأصلها: لشيء، والهاء عوض من الياء.
وخفاف ابن ندبة شاعر فارسي صحابي، وهو بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء، وهي في اللغة بمعني الخفيف، وندبة، بفتح النون وضمها، وسكون الدال بعدها موحدة، قال ابن خلف: خفاف: أخو خفيف في الوصف، يقال: شيء خفيف وخفاف، ومثله سريع وسراع، وشجيع وشجاع، وطويل وطوال، وكبير وكبار، وعريض وعراض، وندبة، من قولهم: رجل ندب، إذا كان سريع النهوض في الأمور، وندب الميت، أي: بكي عليه وعدد محسانه، يندبه ندبًا، والاسم الندبة، بالضم، وندبة: أم خفاف، وهي سوداء بنت شيطان بن قنان من بني الحارث بن كعب، وأبو خفاف: عمير بن الحارث بن الشريد، وكنية خفاف: أبو خراسة، وإياه عني أبو العباس بن مرداس بقوله:
أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفر
…
البيت
وهو ابن عم الخنساء وصخر ومعاوية، وخفاف هذا فارس مشهور، وشاعر
مجيد أدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه، قال الأصمعي: شهد خفاف حنينًا، وقال غيره: شهد مع النبي (صلي الله تعالي عليه وسلم)، فتح مكة، ومعه لواء بني سليم، وشهد حنينًا والطائف.
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب": لخفاف بن ندبة حديث واحد، لا أعلم له غيره، قال: أتيت رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أين تأمرني أن أنزل، أعلى قرشي، أم علي أنصاري، أم أسلم أم غفار؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"يا خفاف! ابتغ الرفيق قبل الطريق، فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفد".
وكان خفاف أسود حالكًا، وهو القائل:
كلانا يسوِّده قومه
…
على ذلك النسَّبِ المظلم
قال أبو عبيدة: وهو أحد الأغربة الثلاثة في الجاهلية، وإنما سموا أغربة، لأن أمهاتهم سود: عنترة بن شداد العبسي، وأمه زبيبة، وخفاف بن عمير الشريدي من بني سليم، وأمة ندبة، وإليها ينسب، والسليك بن السلكة السعدي، انتهي.
تتمة مما له تعلق بالبيت المتقدم: قول النابغة الذبياني:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
بردًا أسفَّ لثاته بالإثمدِ
كالأقحوان غداة غبِّ سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندي
قال الخالديان في "شرح ديوان مسلم بن الوليد": شبه شفتيها واللمي الذي فيها بقادمتي حمامة، والقوادم أشد سودًا من الخوافي، فلذلك خص القوادم.
وأسف: ذرَّ، والثة: اللحم الذي في الأسنان، هذا قول الأصمعي، وقال ابن الأعرابي: إنما عني أصبعيها، وشبهها بقادمتي حمامة وأن أطرافها مخضبة، فذكر أنها تستاك بإصبعين كقادمتي الحمامة، وأخذ هذا المعني الأعشي فقال:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
بردًا أسفَّ لثاته بسواد
ذكر أنها حماء الشفتين، وهي الليمياء، والعرب إذا وصفت بياض الثغر خلطت بذلك سواد اللثة، وأول من اخترع ذلك امرؤ القيس بقوله:
منابته مثل السَّدوس ولونه
…
كشوك السَّيال وهو عذب يفيص
السدوس: النيلج، فأراد أن منابته تضرب إلى السواد، والسيال: نبت له شوك أبيض أصوله مثل الثنايا، وقد أخذ الأعشي قول امرئ القيس فقال:
باكرتها الأغراب في سنة النَّو
…
م فتجري خلال شوك السَّيال
وما أحسن ما أخذه أبو تمام بقوله:
كان شوك السَّيال حسنًا فأمسي
…
دونه للبعاد شوك القتاد
وأخذ الأخوص معني النابغة فقال:
تجلو بقادمتي قمرَّية بردًا
…
غرّاً تري في مجاري ظلمة أشرًا
وقد ذكر الصولي في بعض كتبه بيتي النابغة، وفسره تفسيراً أضافه إلى نفسه، وذكر الصولي في بعض كتبه بيتي النابغة، وفسره تفسيراً أضافه إلى نفسه، وذكر أن أ؛ داً من العلماء لم يشركه فيه، ونحن نذكر تفسيره قال: أول من وصف الثغر وأحسن النابغة بقوله:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة
…
البيتين
هذه صفات وشروط لم يهذبها النابغة، ولكنه بالغ في الوصف، ويحتاج إلى تفسير، وما أعلم أن أحداً من العلماء الذين عملوا شعر النابغة فسره على حقيقته، قوله: بقادمتي، يريد يجلو شفتاها ثغرها إذا ضحكت وتكلمت، وشبهه شفتيها بريش قادمتي حمامة، يريد في الرقة واللين، بردًا، يريد ثغرًا كالبرد، أسف
لثاته: جمع لثة، بالإثمد كحل، وكانوا يجعلون الكحل في أصول الأسنان حتى يشرق بياض الأسنان بسواد الكحل، وهم يصفون اللثة بالحمرة لتخالف لون الثغر، قال: هذا الثغر كالأقحوان، شبه به لبياض الأقحوان وطيبة، جفت أعاليه وأسفله ندي: هذا موضع حذق النابعة في وصفه، لأن الأقحوان إذا روي بالمطر ولم تطلع عليه الشمس كان ملتفًا مجتمعًا، وكذا كل الأنوار، فلو شبه الثغر به في هذه الحال كان قبيحًا لأنه يركب بعضه بعضًا، فقال: جفت أعاليه، يريد: الورق الأبيض المشبه بالثغر إذا تبسط، ثم قال: وأسفله ندي، فاحترس من أن يكون جافاً من الريق، لأن الجاف الريق أبدًا متغير النكهة، والكثير الريق أبدًا طيبها، هذا قول الصولي قد أوردناه بلفظه، وهو وجه حسن.
والذي عندنا في قوله: جفت أعاليه وأسفله ندي؛ أنه يريد قرب عهده بالمطر، وقد صقل ورقة فحسن عند ذلك، ولم يطل عبده بالمطر فيتغير، ويدل عليه قوله: وأسفله ندي، وبنداوته أيضًا يشرق ويحسن، لأنه إذا عطش تغير وقبح منظره، أنتهي.
وقد أخذ البيت الأول القتال الكلابي وغير قافيته فقال:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
بدراً أسفَّ لثاته مثبلوج
وأراد بمثلوج: برد ريقها.
وأخذه أيضًا سنان بن عميرة الباهلي فقال:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
برداً منا بته لثات سود
وهو من شعر أورده أبو تمام في كتاب "مختار أشعار القبائل".
وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب "النبات": والعرب يستحسنون أن يكون في لثة المرأة وشفتيها حوة، وهي حمرة إلى سواد يسير، وإذا كانت
كذلك فهي اللعساء واللمياء، وتلك الحمرة لعس ولمي، قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوَّة لعس
…
وفي اللِّثات وفي أنيا بها شنبُ
وكانت المرأة إذا لم تكن لعساء تكلفت ذلك بالنؤور، قال النابغة في وصف شفتي جارية بارقة واللعس:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
البيت
وقال آخر في مثله:
كنواح ريش حمامةٍ نجديةٍ
…
ومسحت بالشفتين عصف الإثمد
انتهي. وهذه رواية أخرى "بالشفتين" بدل "اللثتين" وفي كتاب في نقد الشعر، ولا أعرف مؤلفه، وذكر بيتي النابغة: شبه شفتيها، واللمي الذي فيها، بقادمتي الحمامة، وهذا الريش الذي في القوادم أشد سواداً من الخوافي، فلذلك خص القوادم بالتشبيه، وذكر الأصمعي أنه عني بالسواد لحم الأسنان، وذلك أنهم كانوا يدمون اللثة، ويذرون عليها الكحل لتسود، ويكون سوادها مع بياض الأسنان حسنًا، انتهي.
وقد ضمن بعضهم البيت الثاني من بيتي النابغة في هجو، فجعله آبدة من الأوابد، فقال:
يا سائلي عن جعفر علمي به
…
رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غبِّ سمائه جفَّت أعاليه وأسفلهُ ندي
ومن شعر طرفه في هذا المعني:
وتبمس عن ألمي كأنّ منورِّراً
…
تخلَّل حرَّ الرَّمل دعص له ندي
سقته إياه الشمس إلَاّ لثاته
…
أسفَّ ولم تكدم عليه بإثمد
أي: تضحك عن ثغر ألمي اللثات، أي: أسمر اللثات، وقوله: كأن منوراً، أي: كأن به منوراً، فأضمر الخبر لأنه مفهوم، واراد بالمنور أقحوانًا قد ظهر نوره، فشبه بياض الثغر ببياض نور الأقحوان، وقوله: تخلل حر الرمل، أي، توسطه ونبت بينه، وذلك أنعم لنبته ونوره، وحر الرمل: أكرمه وأحسنه لونًا، والدعص: كثيب من الرمل ليس بكبير، وقوله: له أي: للمنور، والندي: الذي في أسفله الماء، وإذا كان كذلك تنعم الأقحوان وصفاً لونه، وإياه الشمس: ضوؤها وشعاعها، وقوله: أسف، أي: ذر على لثاته الإثمد، واراد: أسف بإثمد، ولم تكدم عظمًا فيؤثر في ثغرها ويذهب أشره، أي: تحديده، والكدم: العض، وقوله: سقته، أي: سقت الثغر، والمعني: أحسنته وبيضته، وهذا مثل، وإنما أراد أن ثغرها أبيض براق، ولثانها سمر، فاشتد لسمرتها بياض الثغر، ومن شعر طرفة أيضًا:
وإذا تضحك تبدي حبباً
…
كرضاب المسك بالماء الخصر