الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا تلتمس مالًا بعيش مقتر
…
لكلِّ غد رزق يعود جديد
قال ابن قتيبة: وما سبق إليه فأخذ منه قوله:
إذا كان بعض المال ربًّا لأهله
…
فما لي بحمد الله مال معبَّد
أخذه حطائط بن يعفر فقال:
ذريني أكن للمال ربًّا ولا يكن
…
لي المال ربًّا تحمدي غبَّه غدا
أريني جوادًا مات هزلًا لعلّني
…
أرى ما ترين أو بخيلًا مخلَّدا
وأنشد بعده:
أما والَّذي أبكى وأضحك والَّذي
…
أمات وأحيا والَّذي أمره الأمر
وتقدم الكلام عليه في الإنشاد الرابع والسبعين.
وأنشد بعده وهو الإنشاد التاسع والتسعون:
(99)
ألا طعان ألا فرسان عاديةً
…
إلَاّ تجشُّؤكم حول التَّنانير
على أن "ألا" فيه للتوبيخ والإنكار، وهي مركبة من الهمزة للاستفهام، ولا النافية للجنس مع بقاء عملها، قال سيبويه: واعلم أن "لا" في الاستفهام تعمل فيما بعدها
كما تعمل فيه إذا كانت في الخبر فمن ذلك قول حسان بن ثابت:
ألا طعان ألا فرسان
…
.. البيت
وزعم الزَّجاي في "الجمل" أن ألا في هذا البيت للتمني، وليس كذلك، لأن البيت من الهجو، ولو كان تمنيًا لما كان ذمًا.
قال الخفاف في شرح "الجمل": ألا: هي لا النافية دخلت عليها همزة الاستفهام الدالة على التقريع والتوبيخ، وأبو القاسم الزجاجي استشهد به على أن لا هذه للتمني، وهو وهم منه وغلط. فإنه ليس في قوله:"ألا طعان ولا فرسان" تمنّ، وإنما هو توبيخ وتقريع، ونفي أن يكون لهم هذان الوصفان. وعادية: نعت لفرسان، ويمكن أن يكون فيه التمني على وجه بعيد، وهو أن يكون الهاجي تمنى أن يكون لهم طعان وفرسان، ويدلّ تمني ذلك لهم على عدمه عندهم، لأن المتمنَّي معدوم، وهو بعيد من جهة أنّ الهاجي لا يتمنى للمهجو خيرًا. انتهى.
وزعم ابن هشام اللخمي أن ألا في البيت عند سيبويه للتقرير، وعند أبي القاسم للتمني، وهو غلط، لأن التمني يفسد المعنى، وإنما قرّرهم على ما علم من أمرهم. وقال الأعلم في شرح أبيات "الجمل": قد رأيت بعضهم يقول: ألا في هذا البيت ليست للتمني، لأنه هجو، والتمني يزيل معنى الهجو، لأنه غير حقيقي، قال: وإنما هي لا النافية، دخل عليها ألف التقرير، واحتج بقول سيبويه: لا إذا دخل عليها ألف الاستفهام على معنيين، أحدهما: أن يكون
دخولها كخروجها. والثاني: أن يكون تمنيًا، وهذا عندي حسن، وكذا قال في شرح شواهد "سيبويه" إن الهمزة للتقرير.
وعندي نسختان جليلتان من "كتاب سيبويه" وفيهما: كذا: "ألا طعان ولا فرسان" بواو العطف، وكذا رأيته في شروح شواهده، وفي شروح شواهد "الجمل الزجَّاجية" وهي أكثر من عشرة شروح، ولم أر:"ألا طعان ألا فرسان" بتكرير "ألا" إّلا في نسخ "المغني" وشروحه. قال الأعلم في شرح أبيات "الجمل": ولا فرسان معطوف على: ألا طعان، وخبر ألا محذوف وتقديره: ألا طعان لكم، ولا فرسان فيكم. والطعان: مصدر طاعن بالرمح، وفرسان: جمع فارس. وقال اللخمي: عادية: نعت للفرسان على اللفظ، ومن روى بالرفع كانت نعتًا على الموضع. انتهى.
وأجاز غيره في نصبه أن يكون حالًا، وفي رفعه أن يكون خبرًا، قال الخفاف: روي "عادية" بالعين غير المعجمة، وبالغين المعجمة، فمن رواه بغير معجمة، احتمل وجهين، أحدهما: أن يكون من العدو الذي هو شدة الجري، فكأنه قال: ألا فرسان عندكم تسرع إلى الغارات والحرب. ويحتمل أن يكون من العدوان الذي هو عبارة عن الظلم، لأنهم كانوا يفخرون بالظلم لأن ذلك مما يدل على العزّ، فنفى عنهم ذلك، أي: لا فرسان عندكم تقدر على ظلم أحد، ويكون في المعنى مثل قول الآخر:
قبيِّلة لا يخفرون بذمَّة
…
ولا يظلمون الناس حبَّة خردل
ومن رواه بغين معجمة، كان معناه من الغدوِّ، أي: ليس عندكم فرسان تبكر للغارات. انتهى.
قال النحاس: وعند أبي الحسن الأول هو الأحسن، لأن العادية تكون بالغداة وغيرها، وكذا قال اللخَّميُّ.
وقوله: إلا تجشؤكم. قال اللخمي: نصب على الاستثناء المنقطع، ويجوز رفعه على البدل من موضع "ألا طعان" على مذهب بني تميم. انتهى. واقتصر عليه ابن السيد فقال: وتجشؤكم مرفوع على البدل من موضع "ألا طعان ولا فرسان". والتجشؤ: خروج صوت من الفم ينشأ من امتلاء المعدة، مصدر تجشأ، والاسم: الجشاءة، بضم الجيم وفتح الشين، ويقال الجشاء أيضًا كالسعال والعطاس. قال اللخمي والخفاف: ويروي: "تحشؤكم" بالحاء المهملة، مأخوذ من المحشاء، وهو الكساء الغليظ الذي يشتمل به، فمعناه على هذا: أنكم تشبعون وتلتفون في الأكسية، وتنامون عند التنانير. انتهى. والمحشاء على وزن مفعال، والجمع: المحاشئ بالهمز على مفاعل. والتنانير: جمع تنُّور، وهو ما يخبز فيه الخبز. وقال الخفاف: التنور هنا: وعاء يطبخ فيه الطعام، ويكون في غير هذا الموضع: وجه الأرض، وقد فسِّر به قوله تعالى:(وَفَارَ التَّنُّورُ)[هود/ 40]. انتهى. قال اللخمي: جعلهم أهل أكل وشرب لا أهل غارة وحرب، يقول: ألا خيل تعدون بها على الأقران، ولا طعان لكم في نحور الشجعان إّلا الأكل والجشاء عند التنانير، فليس لكم رغبة في طلب المعالي، وإنما فعلكم فعل البهائم، كما قال الآخر:
إنِّي رأيت من المكارم حسبكم
…
أن تلبسوا حرَّ الثِّياب وتشبعوا
وإذا تذوكرت المكارم مرَّة
…
في مجلس أنتم به فتقَّنعوا
وكما قال الحطيئة.
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنَّك أنت الطَّاعم الكاسي
انتهى. وهذا البيت قد اختلف في قائله، فقال سيبويه: هو لحسان بن ثابت، وكذا قال جميع خدمة "الجمل الزجاجية" وقال السيرافيُّ في شرح "الكتاب" وأما البيت المنسوب في "الكتاب" إلى حسان بن ثابت الذي أوله:"ألا طعان ولا فرسان عادية" فذكر الجرميّ أن البيت لعصام الزِّماني. انتهى. وقال يوسف بن السيرافي في "شرح شواهد سيبويه" وتبعه الأسود الغندجاني في كتاب "فرحة الأديب" وهو تعقُّبات على ابن السيرافي فيما أخطأ في شرح تلك الشواهد، وتبعه الزمخشري أيضًا في "شرح شواهد الكتاب": إنه من قصيدة لخداش ابن زهير. أما من قال بالأوَّل، فمنهم ابن السِّيد البطليوسيّ قال: هو آخر أبيات حسان، هجا بها بني الحارث بن كعب، وهم بنو عبد المدان بن الديان وهي:
حاربن كعب ألا أحلام تزجركم
…
عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
لا عيب بالقوم من طول ومن عظم
…
جسم البغال وأحلام العصافير
كأنَّهم قصب جوف مكاسره
…
مثقَّب فيه أرواح الأعاصير
دعوا التَّخاجؤ وامشوا مشية سجحًا
…
إن الرِّجال ألو عصب وتذكير
لا ينفع الطُّول من نوك القلوب ولا
…
يهدي الإله سبيل المعشر البور
إنِّي سأنصر عرضي من سراتكم
…
إنِّ الحماس نسيٌّ غير مذكور
ألفى أباه وألفى جدَّه حبسا
…
بمعزل عن مساعي المجد والخير
ألا طعان ولا فرسان عادية
…
إلا تجشُّؤكم حو التَّنانير
وأما اللخمي فقد أورده بعد قوله: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم
…
البيت.
وكان السبب في هجو حسان إياهم أن النجاشي، وهو من رهط الحارث بن كعب، هجا بني النجار من الأنصار بشر يقول فيه:
لستم بني النَّجَّار أكفاء مثلنا
…
فأبعد بكم عنّا هنالك أبعد
فإن شئتم نافرتكم عن أبيكم
…
إلى من أردتم من تهام ومنجد
ألم يك فيكم ينفخ الكير باسته
…
كأنّ بشدقيه نفاضة إثمد
روى السكري عن ابن حبيب قال: ذكروا أن الأنصار اجتمعوا في مجلس، فتذاكروا هجاء النجاشي إياهم، فقالوا: من له؟ فقال الحارث بن معاذ بن عفراء: حسان له، فأعظم ذلك القوم، وقالوا: نأتي حسان، وإن طعامه ليغلبه من ضعف حنكه! نعرضه للنجاشي فلعله يغلبه، ولم يغلبه أخد قط! ؟ لا نفعل. قال: والله لا أنزع عني قميصي حتى آتيه، فأذكر له. فتوجّه نحوه، والقوم كلهم معظم لذلك، فلما دخل عليه كلمّه فقال: أين أنتم عن عبد الرحمن؟ ! قال: إياك أردنا، قد قاوله عبد الرحمن فلم يصنع شيئًا، فوثب وقال: كن وراء الباب واحفظ ما ألقي، فضربته زافرة الباب فثجته على حاجبه، فقال: بسم الله، اللهم اخلف فيَّ رسولك، صلى الله تعالى عليه وسلم اليوم. فقال الحارث: فعرفت حين قالها ليغلبنَّه، فدخل وهو يقول:
أبني الحماس أليس منكم ماجد
…
إنَّ المروءة في الحماس قليل
وهي أبيات ستة ثم مكث طويلًا في الباب يقول: والله ما أبحرت، أي: لم أبلغ ما أريد، ثم ألقى عليه فقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم
…
إلى آخر الأبيات التي تقدمت
وقد راجعت ديوان حسان الذي عندي، وهو مجلد ضخم قديم تاريخ خطه شهر ربيع الأول من سنة أربع وثلاثين وثلمائة، فلم أجد البيت الشاهد فيه، لا في آخر تلك الأبيات ولا في أثنائها، ولا في موضع آخر من ديوانه، والله تعالى أعلم.
ثم قال حسان: اكتبوها صكوكًا إلى غلمان الكتاب، قال الحارث: ففعلت، فما مر بنا بضع وخمسون ليلة حتى طرق بنو عبد المدان حسان بالنجاشي موثقًا معهم، وقالوا: هذا صاحبنا قد جئناك به وحكمناك فيه، فقال حسان: نادوا في الناس، فانجفل الناس إلى أطم حسان ومعهم السلاح، ووضع لحسان منبر، فقعد عليه وبيده مخصرة، وأتي بالنجاشي وأقعد بين يديه، واعتذر القوم ثم نظر إلى النجاشي ساعة، فقال حسان لابنته: هاتي البقية التي بقيت من جائزة معاوية، فأتته بمائة دينار إلا دينارين، ثم قال: حلوا عنه وثائقه فحلوه، فقال له: دونك هذه يا ابن أخي، وحمله على بغلة ابنه عبد الرحمن، فشكروه على عفوه وكرمه، فقال له ابن الديان: كنا نفتحر على الناس بالعظم والطول، فأفسدته علينا! قال: كلا، أليس أنا الذي أقول:
وقد كنّا نقول إذا رأينا
…
لذي جسم يعدُّ وذي بيان
كأنَّك أيُّها المعطى بيانًا
…
وجسمًا من بني عبد المدان
وعبد المدان: هو ابن الديان، من بني الحارث بن كعب، وبنو الديان سادات الحارث بن كعب، وكان بنو الحارث إحدى جمرات العرب. وقال السيوطي هنا: البيت الشاهد من قصيدة لحسان بن ثابت، يهجو الحارث بن كعب المجاشعي من بني عبد المدان، لأنه كان هجا بني النجار من الأنصار،
فشكو ذلك، إلى حسان، فقال هذه القصيدة، فبلغ ذلك بني عبد المدان فأوثقوا الحارث، وأتوا به إلى حسان.
وتبع السيوطي في هذا الكلام ابن الملا وابن وحيي، وهو كلام مضطرب، فإن الهاجي للأنصار إنما هو النجاشي، والحارث بن كعب قبيلة، وبنو عبد المدان منهم لا العكس، والحارث بن كعب أزدي لا مجاشعي، والذي أوثقوه وجاؤوا به موثقًا إنما هو النجاشي كما ذكرنا، وما نقلناه مسطور في جميع شروح أبيات "الجمل" وشروح شواهد سيبويه.
وقوله: حار بن كعب، هو مرخم حارث، وبه استشهد الزجاجي في "جمله" قال الخفاف في شرحه: وشاهده ترخيم حارث على لغة من ينوي المحذوف، ويجوز فيه البناء على الضم والفتح إتباعًا لحركة النون من ابن في لغة من يضم، كقولهم: يا زيد بن عمرو. والهمزة للاستفهام لفظًا، وللتقرير والتقريع معنىّ. "ولا" للنفي، والأحلام: جمع حلم بالكسر، وهو العقل. ومعنى تزجركم: تنهاكم، والجوف: جمع أجوف، وهو العظيم الجوف بالجيم، يريد أنهم فارغون من العقل، والجماخير: جمع جمخور، بضم الجيم والخاء المعجمة وسكون الميم بينهما، وهو العظيم الجسم، وحذف حرف النداء ورخم، فكان الأصل: يا حارث بن كعب. انتهى. وزاد ابن السيد في تفسير الجمخور: الخوار، وفسره النحاس بالضعيف. وقال الأعلم في شرح أبيات "الجمل": وقبله:
ألا طعان ولا فرسان عاديةً .. البيت
…
وبعده:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم .. البيت ..
فعنده شاهدنا أول أبيات حسان. وقوله: لا عيب بالقوم .. إلخ، روي أيضًا لا بأس بالقوم، يريد: أن أجسامهم لا تعاب، هي طويلة عظيمة، ولكنها كأجسام البغال لا عقول لها، ورواه صاحب "الكشاف": جسم الجمال، وأورده عند تفسير قوله تعالى:(حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[الأعراف/ 40] على أن الجمل مثل في عظم الجرم. والبيت مثل قول آخر:
وقد عظم البعير بغير لبِّ
…
فلم يستغن بالعظم البعير
وقول آخر:
فأحلامهم حلم العصافير دقَّة
…
وأجسامهم جسم الجمائل أو أجفى
وهذان البيتان، على أن قائله رفع الجسم والأحلام على إضمار المبتدأ لما أراد من تفسير أحوالهم، دون القصد إلى الذم، والتقدير: أجسامهم أجسام البغال، وأحلامهم أحلام العصافير عظمًا وحقارةً، ويجوز، أن يريد لا أحلام لهم، كما أن العصفور لا حلم له. ولو قصد به الذم فنصبه بإضمار فعل لجاز، قال ابن خلف: ذكر سيبويه هذا الشعر بعد أبيات أنشدها، وذكر فيها أسماءً قد نصبت على طريق الشتم والتحقير، ورفع قوله: جسم البغال وأحلام العصافير. وقوله: ولم يرد أن يجعله شتمًا؛ يريد أنه لم يجعه شتمًا من طريق اللفظ إنما هو شتم من طريق المعنى، وهو أغلظ من كثير من الشتم، وأفرد الجسم وهو يريد الجمع ضرورة كقوله:
في حلقكم عظم وقد شجينا
وقوله: كأنهم قصب .. إلخ، هو جمع قصبة، والجوف: جمع أجوف، كما مرَّ، ومكاسره: مبتدأ، جمع مكسر، أي: موضع الكسر، ومثقب خبره، والأرواح جمع ريح. والتخاجؤ، بتقديم الخاء المعجمة على الجيم، وبعد الجيم همزة: هو مشي فيه تبختر، والمشية السجح، بضم السين والجيم بعدها حاء مهملة: السهلة الحسنة، وألو: بمعنى أصحاب. والعصب: شدة الخلقة، يقال: رجل معصوب الخلق، أي: مدمجه. والتذكير: كونهم على خلقة الذكور، والنوا بضم النون: الحماقة، والبور: جمع بائر، وهو الهالك، والحماس، بكسر الحاء المهملة بعدها ميم: فرقة من بني الحارث بن كعب، والنسي: المنسي الخامل الذكر، وقوله: حبسا، بالبناء للمفعول من الحبس، والمجد: الرفعة، والخير بكسر المعجمة: الكرم.
والنجاشي: اسمه قيس بن عمرو، وكان فيما روي ضعيف الدين، ذكر أنه شرب الخمر في رمضان، وثبت خبره عند أمير المؤمنين علي، رضي الله تعالى عنه، فبعث إليه، وجلده مائة جلدة، فلما رأى قد زاد في جلده على الثمانين، صاح به: ما هذه العلاوة يا أبا الحسن؟ ! فقال علي، رضي الله تعالى عنه: لجرأتك على الله في رمضان! والعلاوة: الشيء الزائد على حمل الدابة.
وحسان: هو أبو الوليد حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري من بني النجار، وأمه الفريعة – بضم الفاء بالتصغير وآخره عين مهملة – وهي بنت خنيس من بني الخزرج.
قال ابن قتيبة: حسان متقدم الإسلام إلا أنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهدًا لأنه كان جبانًا، وكان له ناصية يسدلها بين عينيه، وكان حسان يضرب
بلسانه روثة أنفه من طوله ويقول: والله لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه. وعاش في الجاهلية ستين سنة، وعاش مثلها في الإسلام فهو من المخضرمين، ومات في زمن معاوية، وكفَّ بصره في آخر عمره، ومات في سنة أربع وخمسين.
وأما من قال: إن البيت الشاهد لخداش، فهو من قصيدة خاطب بها قومًا من بني تيم الأدرم من أجل مسابقة كانت بين بني العرقة من تيم الأدرم، وبين كرز بن ربيعة بن عمرو بن عامر، وهو من رهط خداش بن زهير.
قال الأسود الأعرابي أبو محمد الغندجاني: وكان من قصة هذا الشعر أنه كان أول ما هاج بين قريش وبين بني عامر بن صعصعة أن كرز بن ربيعة راهن أسيدًا وعمرًا وعبد الله بن العرقة من بني تيم بن غالب، وهم تيم الأدرم، على فرس لهم يقال له: البرق، والسبق ثلاثون ناقة، وجعلوا المدى والمضمار إلى كرز فجعل المدى ما بين السجسج إلى ذات الفلج، وجعل المضمار البياض، فأرسلوا الفرسين، فجاء فرس كرز سابقًا، وهلك البرق، فأخذ السبق، فناشدوه في رده فأبى، فلبثوا قريبًا من سنتين، ثم ركب بنو العرقة، فلقوا أسيد بن مالك، وعمرو بن مالك، وعثمان بن أسيد من بني عامر بن ربيعة بأسفل العقيق في إبل لهم، فيها بكرة يقال لها: العنب، عشراء، فطردوا الإبل، فاستقبلها عثمان بن أسيد ينفَّر بها بثوبه، وبعث الأمة نحو أبيه وعمه مغوِّثًا، فركب أبوه فرسًا كبيرة، وركب عمه بنتها فرسًا صعبة، فلما لحق بالقوم قال عمرو بن مالك: أعلمونا من أنتم؟ قالوا: قريش، قالوا: وأيهم؟ قالوا: بنو العرقة. قالوا: فهل كان من حدث؟ قالوا: لا إلا يوم البرق، فقال لهم: احبسوا العنب، احبسوا اللقحة لقحة من لا يغدر! فقال لهم عمرو: لا والله لا ترضع منها قادمًا ولا آخرًا! قال: إنا لا نرضع الإبل ولكن نحتلبها،
وحمل عليه فقتله، وحمل أسيد بن مالك على أسيد بن العرقة فقتلة، فقال في ذلك:
إنِّي كذاك أضرب الكميّ
…
ولم يكن يشقى بي السَّميّ
فذلك يوم العنب، وقال خداش بن زهير في ذلك:
نكبُّ الكماة لأذقانها
…
إذا كان يوم طويل الذَّنب
كذاك الزَّمان وتصريفه
…
وتلك فوارس يوم العنب
ثم وقع بينهم بعد ذلك التغاور والقتال، فقال في ذلك خداش بن زهير:
أبلغ أبا كنف إمَّا عرضت به
…
والأبجرين ووهبًا وابن منظور
ألا طعان ولا فرسان عادية
…
إلَّا تجشُّؤكم عند التَّنانير
ثمَّ احضرونا إذا ما احمرَّ أعيننا
…
في كلِّ يوم يزيل الهام مذكور
تلقوا فوارس لا ميلًا ولا عزلًا
…
ولا هلابيج روَّاثين في الدُّور
تلقوا أسيدًا وعمرًا وابن عمّهما
…
ورقاء في النَّفر الشُّعث المغاوير
من آل كرز غداة الرَّوع قد عرفوا
…
عند القتال إلى ركن ومحبور
يجدون أقرانهم في كلِّ معترك
…
ضربًا وطعنًا كشقّ بالمناشير
وبقي من هذه القصيدة أربعة عشر بيتًا.
وخداش بن زهير: أورده ابن حجر في "الإصابة" في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجتمعوا به. قال: خداش بن زهير العامري: شهد حنينًا مع المشركين، وله في ذلك شعر، يقول فيه: