الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقرينة المصراع الثاني، وأراد بمناه: الأمور الممكنة، لأنّ المستحيل لا يدرك، ولا ينقاد لأحد، وأراد بالانقياد: وجدانها موافقة لمراده، وكان الظاهر أن يقول: فما انقادت إلا لصابر، بإسناد الفعل إلى ضمير المنى، لكنه أتى بالظاهر المرادف، إذ الآمال هي المنى.
[ألا]
أنشد بعده في "ألا" بفتح الهمزة وتخفيف اللام، وهو الإنشاد الثامن والتسعون:
(98)
أما والَّذي لا يعلم الغيب غيره
تمامه:
ومن هو يحيي العظم وهو رميم
على أن "أما" مثل "ألا" من مقدمات اليمين، وجواب القسم قوله بعده:
لقد كنت أطوي البطن والزَّاد يشتهي
…
محافظةً من أن يقال لئيم
وإنِّي لأستحيي رفيقي ودونه
…
ودون يدي داجي الظَّلام بهيم
كما أنشدها القالي في "أماليه" عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي أنه سمعها من أعرابي. ورواها بهذا السند أيضًا أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في ترجمة الأصمعي من كتاب "طبقات النحويين" عن ابن مطرف عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي لأعرابي.
واليمني هذا: أديب نحوي، كان مقيمًا بمصر، وصنف "أخبار النحويين" و"مضاهاة كليلة ودمنة" ومات في سنة أربعمائة.
وقال السيوطي: ما بعد المصراع:
ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا
…
محاذرة من أن يقال لئيم
قال: وهما لحاتم الطائي، ولقد صدق، فإن مثل هذا الشعر لا يليق بغيره من الأعراب، وإنما هذا الشعر من لهجته، الدالة على كرم طبعه وبهجته.
والغيب كما في "المصباح: " كل ما غاب عنك، والرميم: البالي، من رمَّ العظم يرمُّ من باب ضرب: إذا بلي. وفي الرواية الثانية: "ويحيي العظام البيض" أي: التي فني لحمها، وظهر بياض العظم، وهذا كقوله تعالى:(مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)[يس/ 87] ووجهه أن فعيلًا وفعولًا قد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع، نحو: صديق وظهير وعدوّ ورسول، وعليه الجوهري. وهذا كلام يدل على أن قائله ممن يؤمن بالحشر من أهل الجاهلية.
وقوله: لقد كنت أطوي البطن، أي لم آكل شيئًا، وهو من باب طوى. يطوي طيًا، من باب رمى إذا ترك الأكل وتعمد الجوع، وأما طوي يطوي طوى من باب فرح، فمعناه جاع جوعًا، كذا في "الصحاح" وقوله: والزاد يشتهي، بالبناء للمفعول، والأصل: يشتهيه الناس، وذلك عند الجدب والقحط. والزاد: ما يؤكل. وفي الرواية الثانية: "أختار القرى طاوي الحشا" والقرى: إكرام الضيف بالطعام، وطاوي: حال من فاعل اختار، وهو من باب رمى، أي: مجيع البطن، قال صاحب "النهاية": ومنه الحديث: "يبيت شبعان وجاره طاوٍ" والحديث الآخر "يطوي بطنه عن جاره" أي: يجيع نفسه،
ويؤثر جاره بطعامه. انتهى. والحشا كما في "المصباح": هو المعا، والجمع أحشاء وأمعاء. ومحافظة: علة لأطوي، ومحاذرة: علة لطاوي، و"من" في الأولى متعلقة بمحافظة، وفي الثانية بمحاذرة، والمعنى: لأجل المحافظة لنفسي، والمحاذرة لها من أن يقال في حقي: هو لئيم، وفي الدنيء الأصل الشحيح النفس.
وقوله: لأستحيي رفيقي، في "المصباح": واستحيا منه، وهو الانقباض والانزواء، قال الأخفش: يتعدى بنفسه وبالحرف فيقال: استحييت منه واستحييته. انتهى. يقول: إذا أكلت مع ضيفي في زمن الجدب استحيي منه، فأدع الأكل وأوثره بالطعام حتى يشبع وأوهمه أني آكل معه، والحال أن ظلام الليل مانع من أن يرى كل منا يد الآخر، فجملة "ودونه" إلى آخر البيت: حال من الفاعل والمفعول معًا. وقوله: ودونه، أي: دون يده، بقرينة: ودون يدي. وداجي الظلام: من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، والداجي: الساتر، قال الأصمعي: دجا الليل إنما هو ألبس كل شيء وليس هو من الظلمة، ومنه داجيته، أي: داريته، كأنك ساترته العداوة. والبهيم، قال الأزهري في "التهذيب": هو الذي لا يخلط لونه لون سواه من سواد كان أو غيره.
وحاتم الطائي: هو حاتم بن عبد الله الطائي الجواد المشهور المضروب بجوده المثل، أدرك مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات قبل مبعثه. ونقل ابن وحيي عن "تاريخ القدس الشريف" أنه مات سنة ثمان من الهجرة فعليه يكون أدرك البعثة، والله تعالى أعلم. وابنه عدي بن حاتم صحابي جليل مشهور. روى ابن قتيبة في كتاب "الشعراء" أن امرأته النوار قالت: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، وضنت المراضع على أولادها، فوالله إني لفي ليلة شديدة البرد، بعيدة ما بين طرفيها، إذ تضاغى أولادنا عبد الله وعدي وسفانة، فقام إلى الصبيين، وقمت إلى الصبية، فوالله ما سكتوا إلا بعد هدأةٍ من الليل، ثم ناموا ونمت
إنا معه، فأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت وما يأتيني نوم، فقال: ما لها، أنامت؟ فسكت، فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت، فقال: ما هذا؟ قالت جاريتك فلانة، قال: ما لك؟ قالت: الشر، أتيتك من عند صبية يتعاوون تعاوي الذئاب من الجوع، قال: أعجليهم. فهببت إليه فقلت: ماذا صنعت؟ فوالله لقد تضاغى صبيتك من الجوع فما أصبت ما تعللهم به! فقال: اسكتي، وأقبلت المرأة تحمل اثنين، ويمشي جانبها أربعة، فقام إلى فرسه فنحره، وكشط عن جلده، ودفع المدية إلى المرأة ثم قال: سوأةً تأكلون دون أهل الصِّرم! ثم جعل يأتي بيتًا بيتًا ويقول: دونكم النار، فاجتمعوا، والتفع بثوبه ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق منها مزعة، وإنه لأحوجهم، وأصبحنا وما على الأرض إلا عظم أو حافر، فعذلته على ذلك فقال:
مهلًا نوار أقلِّي اللَّوم والعذلا
…
ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال يومًا: سبحان الله، ما أزهد كثيرًا من الناس في خيرٍ! عجبًا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلًا! فلو كان لا يرجو ثوابًا، ولا يخاف عقابًا، لكان ينبغي أن يسارع إلى مكارم الأخلاق، فإنها تدلّ على سبيل النجاح! فقام إليه
رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أسمعته من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال: نعم لما أتي بسبايا طيّ، وقفت جارية عيطاء لعناء، فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت لأطلبنّها من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما تكلمت أنسيت جمالها بصفاحتها، فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنةً سيّد قومي، وإنَّ أبي كان يفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفشو السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي! فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"يا جارية! هذه صفة المؤمن، ولو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق".
وأخرج الديملي في "مسند الفردوس" عن علي هذه الحكاية من قوله: لما جيء بسبايا طيَّ إلى آخرها بألفاظ متقاربة.
وأخرج ابن حنبل عن عدي بسنده أنه قال: قلت لرسول الله، صلى تعالى عليه وسلم: يا رسول الله، إنّ ربي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا، فقال:"إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني: الذكر.
وأخرج ابن عساكر عن أبي عبيدة قال: لما بلغ حاتم طي قول المتلمس.
قليل المال تصلحه فيبقى
…
ولا يبقى الكثير مع الفساد
وحفظ المال خير من فناه
…
وعسف في البلاد بغير زاد
قال: قطع الله لسانه: حمل الناس على البخل، فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه
…
ولا البخل في مال الشحيح يزيد