الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعدد من اسمه الأعشى من الشعراء سبعة عشر، ذكرهم الآمدي في "المؤتلف والمختلف". والأعشى في اللغة، الذي لا يبصر بالليل، والضعيف البصر، وصار هذا الأعشى في آخر عمره أعمى، وكان له قائد يقوده.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد العشرون بعد المائة:
(120)
استقدر الله خيرًا وارضينَّ به
…
فبينما العسر إذ دارت مياسير
على أن "إذ" للمفاجأة. وهذا البيت من مقطوعة لحريث بن جبلة العذري: أوردها أبو حاتم السجستاني في كتاب "المعمرين" قال: قالوا: عاش عبيد بن شرية الجمرهمي ثلاثمائة سنة، وقال بعضهم مائتين وعشرين سنة، إلا أنا نظن أنه عاشها في الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم، وقدم على معاوية، فبلغنا أن معاوية قال له: أخبرني كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة. إلى أن قال: قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته، قال: أعجب شيء رأيته أني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من عذرة، يقال له: حريث بن جبلة، فخرجت معهم، حتى إذا واروه، انتبذت جانبًا عن القوم وعيناي تذرفان، ثم تمثلت شعرًا كنت رويته قبل ذلك:
يا قلب إنّك في أسماء مغرور
…
أذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحبِّ ما تخفيه من أحدٍ
…
حتى جرت بك أطلاقًا محاضير
تبغي أمورًا فما تدري أعاجلها
…
خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرًا وارضينَّ به
…
فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط
…
إذ صار في الرِّمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلاّ تذكُّره
…
والدَّهر أيَّتما حال دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه
…
وذو قرابته في الحيِّ مسرور
وذاك آخر عهد من أخيك إذا
…
ما المرء ضمَّنه اللحد الخناسير
والخناسير: جمع خنسير، ويقال: الخناسرة، وهم الذين شيعوا الجنازة. فقال رجل إلى جانبي يستمع ما أقول: يا عبد الله من قائل هذه الأبيات؟ قلت: ما أدري، إلا أني قد رويتها منذ زمان. قال: قائله الذي دفناه، وإن هذا ذو قرابته، أسرُّ الناس بموته، وإنك الغريب الذي وصف تبكي عليهّ فعجبت لما ذكره في شعره والذي صار إليه في قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره! فقلت:"إن البلاء موكل بالمنطق". انتهى كلام السجستاني باختصار.
وأورد الحريري هذه الحكاية في كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" عن أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: روى بإسناده إلى هشام بن الكلبي، قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلاثمائة سنة، فأسلم ودخل على معاوية بالشام وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، قال: مررت بدار قوم يدفنون ميتًا لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر: يا قلب إنك من أسماء مغرور .. الأبيات المذكورة إلا البيت الأخير. قال: فقال لي رجل: تعرف من بقول هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: إن قائله هذا الذي
دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه ولست تعرفه! وهذا الذي خرج من قبره أمسُّ الناس رحمًا به، وأسرهم بموته! فقال له معاوية: لقد رأيت عجبًا، فمن الميت؟ قال: عثير بن لبيد العذري. انتهى.
وأورد أبو علي القالي في أواخر "أماليه" ستة أبيات منها عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي مبتورة، ولم يذكر حكايتها ولا حاكيها ولا قائلها.
وقوله: يا قلب إنك في أسماء، أي: حبها، وباح بالشيء: إذا أفشاه، وما: نافية، وأخفيته منه: سترته منه، ومن متعلقة بتخفيه، وحتى: غائية بمعنى إلى، وجرت بك، أي: بإفشائك الحب وبخبرك، والجري هنا: العدو، وأطلاقًا: ظرف، جمع طلق – بفتحتين – وهو الشوط، وقال ابن خلف وغيره: جمع طلق – بضمتين – وهي التي لا تُعقل ولا تُقيّد، وهذا غير مناسب هنا، والمحاضير: الخيل السراع، جمع محضير، مأخوذ من الحضر، بالضم، وهو شدة العدو، ومحاضير: فاعل جرت، يريد: إن حبك لأسماء قد شاع ووصل إلى البلدان والبقاع. وقوله: فاستقدر الله خيرًا، أي: اطلب منه تعالى أن يقدر لك خيرًا، والعسر: مبتدأ خبره محذوف، وهو موجود. ومياسير: فاعل دارت، أي: حدثت وحلت في موضع العسر، يقال لأحوال الدنيا المختلفة: هي تدور، لأن بعضها يأتي في إثر بعض، وهو جمع ميسور بمعنى اليسر.
وهذا البيت من شواهد سيبويه، أورده في باب من أبواب مباحث نون التوكيد، قال: اعلم أن الياء التي هي لام، والواو التي بمنزلتها، إذا حذفتها في الجزم، ثم ألحقت الخفيفة أو الثقيلة أخرجتها كما تخرجها إذا جئت بالألف للاثنين، لأن الحرف يبنى عليها كما يبنى على تلك الألف، وما قبلها مفتوح كما يفتح ما قبل الألف، وذلك قولك:
ارمينَّ زيدًا، وأخشينَّ زيدًا، واغزون: قال الشاعر:
استقدر الله خيرًا
…
البيت
وقوله: وبينما المرء
…
إلخ، الأحياء: جمع حي، خلاف الميت، ويجوز أن يكون بمعنى القبيلة، والمغتبط: اسم فاعل من الاغتباط، وهو التبجح بالحال الحسنة، والرمس: القبر، ويعفوه: يدرسه ويمحو أثره، والضمير للرمس. والأعاصير: جمع عصار، وهي الريح التي تهب بشدة.
وهذا البيت والذي قبله أوردهما ابن جني في بحث الفاء من "سر الصناعة" على أن "إذ" و"إذا" فيهما بمنزلة الفاء الرابطة للجواب، فإنه قال بعد تقرير الفاء الرابطة: هذا كله يؤكد لك أن جواب الشرط سبيله أن يكون كلامًا لا يحسن الابتداء به، ولهذا أيضًا ما جاز أن يجازى بإذا التي للمفاجأة، نحو قوله تعالى:(وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)[الروم/ 36] فقوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) في موضع قنطوا، وإنما جاز لإذا هذه أن يجاب بها الشرط، لما فيها من المعنى المطابق للجواب، وذلك أن معناها المفاجأة، ولابد هناك من عملين، كما لابد للشرط وجوابه من فعلين، حتى إذا صادفه ووافقه؛ كانت المفاجأة مسببة بينهما، حادثة عنهما، وذلك قولك: خرجت فإذا زيد، فتقدير إعرابه: خرجت فبالحضرة زيد، فإذا التي هي ظرف في معنى قولنا: بالحضرة زيد، فزيد: مرفوع بالابتداء، والظرف قبله خبر عنه، فهذا تقدير الإعراب. وأما تفسير المعنى فهو: خرجت ففاجأت زيدًا، وإن شئت: ففاجأني زيد، لأن فاعلت في أكثر أحوالها إنما تكون من اثنين، فلما ذكرت لك من حال إذا هذه، وأن معناها المفاجأة والموافقة، ووقوع الأمر مسببًا من غيره؛ ما جاز أن يجازى بها.
ويزيد حالها في ذلك وضوحًا ما أنشدناه أبو علي عن أبي بكر، عن أبي العباس، عن أبي عثمان، عن الأصمعي، عن أبي عمرو: أن شيخًا من أهل نجد أنشده:
استقدر الله خيرًا وارضينّ به
…
إلى آخر البيتين
فهذا كقولك: بينما المرء في الأحياء مغتبط؛ عفته الأعاصير فوقوع الفعل في موضع إذا يؤكد عندك جواز وقوعًا جوابًا للشرط، لأن أصل الجواب أن يكون بالفعل، ليعادل به الفعل الذي قبله، إذ كان مسببًا عنه، والعلل بيننا والأسباب لا تتعلق بالجواهر، إنما تتعلق بالأعراض والأفعال، فلما كانت عبرة إذ في هذا البيت وفي غيره، ما يطول الكتاب بذكره، عبرة الفعل، فكذلك قوله تعالى:(إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) أيضًا عبرته: قنطوا؛ فافهم ذلك. انتهى كلام ابن جني.
وقوله: حتى كأن لم يكن إلا تذكره
…
إلخ، قال ابن خلف:"يكن" من كان التامة، كأنه قال: حتى كأن الإنسان لم يوجد في الدنيا، ولم يحدث إلا تذكره، وفي يكن ضمير المرء. وكأن: يريد: كأنه، وأصل الكلام: حتى كأنه لم يكن إلا تذكره، ويكون تذكره بدلًا من الضمير في يكن، على طريق الاستثناء، وحذف الضمير من كأنه وخففه. ويجوز أن يكون "تذكره" رفعًا بيكن، ولا يكون فيه ضمير، يقول: إن الإنسان قصير العمر، وما مضى من عمره، إذا مات، كأنه لم يوجد. وأينما: حال نصب على الظرف من الزمان، والعامل فيه ما في دهارير من معنى الشدة، والدهر: مبتدأ، ودهارير: خبره، وهي الدواهي، كأنه قال: والدهر دهارير في كل
حال. وحكي عن محمد بن يزيد: في واحد الدهارير "دهرور". وقال أبو الحسن: يجوز أن يكون واحده "دهرار" مثل: أسطار، واحد الأساطير. وقيل: واحد الدهارير: دهر، على غير قياس، كما قالوا: دكر ومذاكير، وسبه ومشابه، كأنهما جمع مذكار ومشبه. انتهى كلامه.
وهذا البيت أنشده سيبويه في "باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره" وقال: فإنما هو بمنزلة قولك: والدهر دهارير كل حين وكل مرة، أي: في كل حال، وفي كل مرة فانتصب لأنه ظرف، كما تقول: القتال كل مرة. انتهى.
قال الأعلم: الشاهد فيه نصب أيتما على الظرف، والعامل فيه الدهارير، وهي الدواهي، واحدها: دهور أو دهرار، ويقال: الدهارير أول الدهر، والمعنى: والدهر متجددًا أبدًا على ما عهد منه لا يبلى. ويقال: [الدهارير] جمع دهر على غير قياس. والمعنى على هذا: والدهر متقلب من حال إلى حال، ومتصرف بخير وشر، فكأنه قال: دهور، لاختلافه. وقبل هذا البيت:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط
…
البيت
روي أن الفرزدق شهد دفن رجل، فأنشد منشد هذا الشعر، فقال الفرزدق: ما تدرون من اقائل هذا الشعر؟ فقالوا: لا، فقال: الموضوع في حفرته. انتهى.
ولقد أخطأ في نسبة هذه الحكاية إلى الفرزدق، وإنما حصل له اشتباه بحكاية أخرى للفرزدق مع الحسن البصري.
وقوله: وذو قرابته في الحي مسرور، قال الحريري في "درة الغواص": يقولون هو: قرابتي، والصواب أن يقال: هو ذو قرابتي، كما قال الشاعر، وأنشد هذا البيت، وأورد تلك الحكاية والأبيات بهذه المناسبة. وما أنكره صحيح فصيح، وقد ورد في حديث صحيح:"هل بقي أحد من قرابتها" قال ابن الأثير في "النهاية" أي: أقاربها، فسموا بالمصدر كالصحابة، وإطلاق المصدر على الوصف مطرد مقيس للمبالغة التي فيه. وفي "تهذيب اللغة" للأزهري: ويقال: فلان ذو قرابتي، وجائز أن تقول: فلان قرابتي بهذا المعنى. وفي "الأساس" للزمخشري: وهو قريبي وقرابتي، وهم أقربائي وقرابتي. والعجب من صاحب "القاموس" فإنه تبع الحريري، وقال: لا تقل: هو قرابتي.
وقوله: إذا ما المرء ضمنه
…
إلخ، ما: زائدة، والمرء: هو الميت، واللحد: مفعول ثان لضمن، والخناسير: فاعل ضمن، وقد فسره أبو حاتم، وليس ما ذكره موجودًا في "التهذيب" للأزهري، وفي "القاموس".
وقائل الشعر جاهلي، واسمه في رواية أبي حاتم: حريث – مصغر حارث – ابن جبلة – بفتح الجيم والموحدة – العذري، نسبة إلى عذرة؛ قبيلة باليمن. وعلى رواية ابن الأنباري: اسمه عثير بن لبيد العذري، بكسر العين المهملة، وسكون
المثلثة، وفتح المثناة التحتية. ولبيد: بفتح اللام وكسر الموحدة. وحكاها ابن خلف قال: الشعر لحريث بن جبلة، ويقال: عثير بن لبيد العذري.
وراوي الحكاية والأبيات: هو عبيد – بالتصغير – ابن شرية، بفتح الشين المعجمة، وسكون الراء، بعدها مثناة تحتية، كذا رأيته مضبوطًا فيهما بالقلم في نسخ متعددة صحيحة، لكن شيخنا الخفاجي قال فيما كتبه على "درة الغواص": شرية كعطية، ولا أدري من أين هذا الضبط، والصواب الأول، وهو منقول من اسم الحنظل، نقل الأزهري في "تهذيب اللغة" عن أبي عبيد عن الأصمعي أنه قال: الشري بفتح فسكون: الحنظل، والواحدة شرية، وهو منسوب إلى جرهم، قبيلة باليمن وعبيد بن شرية: صحابي أورده ابن حجر في "الإصابة" وعاش إلى مدة عبد الملك بن مروان.
ونظير حكاية الشعر ما ذكره ابن خلكان في "الوفيات" في ترجمة الشريف الرضي الموسوي، واسمه محمد، قال: ولقد أخبرني بعض الفضلاء في مجموع، أن بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي بسر من رأى، وهو لا يعرفها، وقد أخنى الزمان عليها، وذهبت بهجتها، وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة، وحسن الإشارة، فوقف عليها متعجبًا من صروف الزمان، وتمثل بقول الشريف الرضي، رحمه الله تعالى:
ولقد وقفت على ربوعهم
…
وطلولها بيد البلى نهب
فبكيت حتى ضجَّ من لغب
…
نضوي ولجَّ بعذلي الرَّكب
وتلفَّتت عيني فمذ خفيت
…
عنَّي الطُّلول تلفَّت القلب