الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس عشر بعد المائة:
(115)
إذا ما لقيت بني مالك
…
فسلِّم على أيِّهم أفضل
على أن "أيًا" الموصولة فيه مبنية على الضم، وروي بالجر أيضًا، كما يأتي في بحث الصلة من الباب الثاني. وصدر الصلة محذوف، تقديره: على أيهم هو أفضل، وبه استدل الرضي وشراح الألفية. وإذا: شرطية، وما: زائدة، وجملة "فسلم" جواب الشرط.
وهذا البيت حجة على ثعلب في زعمه أن أيًا لا تكون موصولة، قال ابن الأنباري في "مسائل الخلاف": حكاه أبو عمرو الشيباني بضم أيهم عن غسان، وهو أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب. انتهى. ونسبه العيني فقال: قائله غسان بن علة بن مرة أحد بني مرة بن عبَّاد.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السادس عشر بعد المائة:
(116)
أيَّ يوم سررتني بوصال
…
لم ترعني ثلاثة بصدود
على أن أيًا فيه - وهو للمتنبي - ليست موصولة، لأن الموصولة لا تضاف إلا إلى المعرفة، وإنما هي للاستفهام الإنكاري.
وقد أورد ابن الشجري هذا البيت في المجلس الثاني عشر من "أماليه" وقال: إنما أذكر من شعره ما أهمله مفسروه، فأنبه على معنى أو إعراب أغفاؤه. وهذا البيت لبعده من التكلف، وخلوه من التعسف، وسرعة انصبابه إلى السمع، وتولجه
في القلب؛ أهملوا تأمله، فخفي عنهم ما فيه، والذي يتوجه فيه من السؤال أن يقال: ما وجه تعلق عجزه بصدره؟ وهل للجملة الأخيرة موضع من الإعراب؟ فإن قيل: نعم؛ قيل: ما هو، وكم وجهًا من وجوه الإعراب تحتمل؟ وهل يجوز أن تكون أي فيه شرطية؛ لتعلق الجملة بالجملة تعلق الجزاء بالشرط، كقولك: أي يوم لقيني زيد لم أعرض عنه، تريد: أي يوم لقيني أقبلت عليه. والجواب عن هذا السؤال: أنه لا يصح حمل أي على معنى الشرط، لأن في ذلك مناقضة للمعنى الذي أراده الشاعر، فكأنه قال: إن سررتني يومًا بوصالك؛ آمنتني ثلاثة أيام من صدودك. وهذا عكس مراده في البيت! وإنما "أي" استفهام خرج مخرج النفي، كقولك لمن يدعي أنه أكرمك: أي يوم أكرمتني؟ ! تريد: ما أكرمتني قط. قال الهذلي:
فاذهب فأيُّ فتى في الناس أحرزه
…
من حتفه ظلم دعج ولا جبل
ذهب بأي مذهب النفي، فأدخل "لا" مع حرف العطف، كما تقول: ما قام زيد ولا عمرو.
فمعنى البيت: ما سررتني يومًا بوصالك، إلا رعتني ثلاثة أيام بصدودك. فإن قلت: أجعل كل جملة واحدة من الجملتين قائمة بنفسها، لا علقة لها بالأخرى، فلا أحكم للجملة الأخيرة بموضع من الإعراب، فإن في ذلك أيضًا فسادًا للمعنى المراد، لأن قولك: أي يوم سررتني بوصال؟ يفيد معنى: ما سررتني قط بوصال، ثم قولك مستأنفًا: لم ترعني ثلاثة بصدود، يفيد معنى: أنت تصدُّ عني
يومين، وتصلني في الثالث، فما ينتظم صدودك ثلاثة أيام. وفي هذا تناقض يبطل المعنى المقصود، فقد ثبت بما قلته أنه لابد من علقة بين الكلامين، والعلقة بينهما تصح من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تجري الجملة وصفًا لوصال، والعائد منها إلى الموصوف مقدر، وتقديره: أي يوم سررتني بوصال، لم ترعني بعده ثلاثة أيام بصدود؟ فالهاء عائدة على وصال، فكأنك قلت: ما سررتني يومًا بوصال مأمون بعده صدودك ثلاثة أيام. وإذا ثبت صحة هذا المعنى بهذا التقدير، فإن شئت قدرت أنك حذفت الظرف أولًا، فبقي لم ترعنيه، ثم حذفت الهاء ثانيًا، وإن شئت قدرت أنك حذفت الظرف والعائد معًا، فهذا أحد الأوجه الثلاثة.
والوجه الثاني: أنك تقدر بالجملة العطف، وتضمر العاطف، فكأنك قلت: أي يوم سررتني بوصال، فلم ترعني ثلاثة بصدود! والعرب تضمر الفاء والواو العاطفتين، فمما جاء فيه إضمار الفاء قوله تعالى:(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ)[البقرة/ 67] فأضمر الفاء في "قالوا" لتمام كلام موسى، عليه السلام، ثم أضمر الفاء في "قال" لتمام كلام قومه، وهذا كثير في القرآن. ومما أضمرت فيه الواو قول الحطيئة:
إنَّ امرءًا رهطه بالشام منزله
…
برمل يبرين جارًا أشدَّ ما اغتربا
أراد: ومنزله برمل يبرين، وليس للجملة في هذا الوجه موضع من الإعراب، لأنها في التقدير معطوفة على جملة لا موضع لها.
والثالث: أن تجعل الجملة حالًا من التاء في "سررتني" والعائد على التاء من حالها: هو الضمير المستتر في "ترعني" فكأنك قلت: أي يوم سررتني غير
رائع لي، وهي حال مقدرة. وفي التنزيل:(فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر/ 73] أي: مقدرين الخلود، وكذلك المراد: أي يوم سررتني بوصالك، غير مقدر أنك تروعين ثلاثة أيام بصدودك؟ فهذه ثلاثة أقوال جارية في مضمار كلام العرب.
ومن روى: "لم ترعني ثلاثة" برفع ثلاثة، على إسناد الفعل إليها، كانت العلقة بين الجملتين بتقدير الوصف أو العطف وبطل أن تكون الجملة حالًا، لخلو ترعني من ضمير يعود على ذي الحال. انتهى كلام ابن الشجري.
ومنه تعلم أن المصنف أخذه برمته، وقوله: كما قيل؛ أراد به ابن الشجري. وقوله: وفيه بعد؛ قد بين وجه البعد الدماميني في شروحه الثلاثة. وقول المصنف: لخلو ترعني من ضمير الحال؛ قال الدماميني: يجوز أن يكون التقدير: لم ترعني منذ ثلاثة بصدود، فيحصل الربط باعتبار المحذوف. وأجاب الشمني: إن كلام المصنف إنما هو بناء على ما هو الأصل من عدم التقدير. انتهى. ولا وجه لهذا العذر، لأن تقدير الرابط في الجمل المحتاجة إليها كثير، فهو من الأصول المقررة عندهم، ومنه قول المصنف في بحث الروابط من أواخر الباب الرابع: وقد تخلو الجملة الحالية منهما، أي: من الواو والضمير لفظًا، فيقدر أحدهما.
وأي: منصوب على الظرف، والخطاب في: سررتني، وترعني، لمذكر وهو الساقي، لأن قبله:
كل شيء من الدِّماء حرام
…
شربه ما خلا دم العنقود
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي
…
من غزال وطار في وتليدي
شيب رأسي وذلَّتي ونحولي
…
ودموعي على هواك شهودي
أيَّ يوم سررتني بوصال
…
البيت