الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا البيت رأيته آخر قصيدة طويلة للنابغة الشيباني:
حرف الباء المفردة
أنشد فيه، وهو الإنشاد التاسع والثلاثون بعد المائة:
(139)
وبات على النّار النّدى والمحلَّق
على أن المراد بالاستعلاء هنا الاستعلاء المجازي، لأن الندى والمحلق لم يمسا النار، وإنما هما بمكان قريب منها. وأورده صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى:(أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى)[طه/ 10] على أن معنى الاستعلاء فيها أن أهل النار يستعملون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في: مررت بزيد، أنه لصوق في مكان يقرب من زيد، ولأن المصطلين بها إذا تكنفوها قيامًا وقعودًا، كانوا مشرفين عليها. انتهى. ومنه أخذ المصنف كلامه، والمصراع من قصيدة للأعشى ميمون البكري، وقبله وهو أول المديح:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
…
إلى ضوءٍ نارٍ في يفاعٍ تحرَّق
تشبُّ لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النار النَّدى والمحلَّق
رضيعي لبان ثدي أمٍّ تقاسما
…
بأسحم داج عوض لا نتفرَّق
ترى الجود يجري ظاهرًا فوق وجهه
…
كما زان متن الهنداونِّي رونق
يداه يدا صدق فكفٌّ مبيدة
…
وكفٌّ إذا ما ضنَّ بالمال تنفق
وأمَّا إذا ما المحل سرَّح مالهم
…
ولاح لهم وجه العشيَّات سملق
نفى الذَّمَّ عن آل المحلَّق جفنة
…
كجابية الشَّيخ العراقيِّ تفهق
ترى القوم فيها شارعين ودونهم
…
من القوم ولدان من النَّسل دردق
يروح فتى صدق ويغدو عليهم
…
بملء جفان من سديف تدفَّق
طويل اليدين رهطه غير ثنية
…
أشمُّ كريم جاره لا يرهَّق
وهذا آخر القصيدة. ومن أول القصيدة إلى أول المديح أكثر من أربعين بيتًا.
روى شارح ديوانه، وصاحب "الأغاني" والرياشي وغيرهم: أن الأعشى كان يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق – واسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد من بني عامر بن صعصعة -، مئناثًا مملقًا، فقالت له امرأته: يا أبا كلاب! هذا يمنعك من التعرض لهذا الشاعر؟ فما رأيت أحدًا مدحه إلا رفعه! ولا هجا أحدًا إلا وضعه! هو رجل مفوَّه مجدود الشعر، وأنت رجل، كما علمت، خامل الذكر ذو بنات، فإن سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة، رجوت لك حسن العاقبة! قال: ويحك، ما عندنا إلا ناقة نعيش بها! قالت: إن الله يخلفها عليك، قال: لابد له من شارب، قالت: إن عندي ذخيرة لي، ولعلي أجمعها، فتلقَّه قبل أن تسبق إليه. ففعل، وخرج إلى الأعشى، فوجد ابنه يقود ناقته، فأخذ زمامها منه، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا؟ قيل: المحلق، قال: شريف كريم، وقال لابنه: خلِّه يقتادها، فاقتادها إلى منزله، فنحر له ناقته، وكشف له عن سنامها وكبدها، ووجد امرأته قد خبزت خبزًا، وأخرجت نحي سمن، وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب،
واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطائبها. فلما أخذه الشراب سأله عن حاله وعياله، فعرف البؤس في كلامه، وأحاطت به بناته يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حوالي؟ قال: بنات أخيك، وهن ثمان. قال: أما والله لئن بقيت لهن لأدعن شريدتهن قليلةّ وخرج ولم يقل فيه شيئًا. ووافى المحلق عكاظ، فإذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها، وإذا الأعشى يقول:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى آخر القصيدة. فسلم عليه المحلق، فقال: مرحبًا بسيد قومه، ونادى يا معاشر العرب! هل فيكم مذكر يزوج ابنه ببنات هذا الشريف الكريم؟ فما قام من مقعده حتى خطبت بناته جميعًا.
قوله: لقد لاحت: نظرت وتشوفت إلى هذي النار، واليفاع: بالفتح: الموضع العالي، وجعلها في يفاع لأنه أشهرها؛ لأنها تصيبها الرياح فتشتعل. وهذه النار نار الضيافة، كانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة؛ لتكون أشهر وربما يوقدونها بالمندلي الرطب، وهو عطر ينسب إلى مندل، وهو بلد من بلاد الهند، ونحوه مما يتبخر به، ليهتدي إليها العميان، وأشعارهم ناطقة بذلك.
ونيران العرب على ما في كتاب "الأوائل" لإسماعيل الموصلي اثنا عشر نارًا:
أحدها: هذه، وهي نار القرى توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وأول من أوقد النار بالمزدلقة حتى يراها من دفع من عرفة قصي بن كلاب.
الثانية: نار الاستمطار، كانت العرب في الجاهلية إذا احتبس عنهم المطر يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السِّلع والعشر، ويصعدون بها في
الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، ويأتي إن شاء الله تعالى شرحه مستوفى في بحث ما الزائدة.
الثالثة: نار التحالف، كانوا إذا أرادوا الحلف أوقدوا نارًا وعقدوا حلفهم عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد، ويحل العقد.
الرابعة: نار الطرد، كانوا يوقدونها خلف من يمضي ولا يشتهون رجوعه.
الخامسة: نار الأهبة للحرب، كانوا إذا أرادوا حربًا، أو توقعوا جيشًا، أوقدوا نارًا على جبلهم، ليبلغ الخبر فيأتونهم.
السادسة: نار الصيد، وهي نار توقد للظباء لتعشى إذا نظرت إليها، ويطلب بها أيضًا بيض النِّعام.
السابعة: نار الأسد، يوقدونها إذا خافوه، وهو إذا رأى النار استهالها، فشغلته عن السابلة. وقال بعضهم: إذا رأى الأسد النار حدث له فكر يصده عن إرادته. والضفدع إذا رأى النار تحيّر وترك النقيق.
الثامنة: نار السليم توقد للملدوغ إذا سهر، وللمجروح إذا نزف، وللمضروب بالسياط، ولمن عضه الكلب الكليب، لئلا يناموا فيشتد بهم الأمر، ويؤدي للهلاك.
التاسعة: نار الفداء، وذلك أن الملوك إذا سبوا القبيلة خرجت السادة للفداء، فكرهوا أن يعرضوا النساء نهارًا فيفتضحن، وفي الظلمة يخفى قدر ما يحبسون لأنفسهم من الصَّفيّ. [فيوقدون النار لعرضهن].
العاشرة: نار الوسم، وهو الكي للدابة، ويأتي شرحه إن شاء الله تعالى قريبًا بعد أبيات.
الحادية عشرة: نار الحرّتين، كانت في بلاد عبس، فإذا كان الليل فهي نار
تسطع، وفي النهار دخان يرتفع وربما ندر منها عنق فأحرق من مر بها، فحفر لها خالد بن سنان فدفنها، فكانت معجزة له.
الثانية عشرة: نار السعالي، وهي شيء يقع للمتغرب والمتقفر. قال أبو المطراب عبيد بن أيوب:
ولله درُّ الغسول أيُّ رفيقة
…
لصاحب دوٍّ خائف متقفِّر
أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت
…
حواليَّ نيرانًا تبوخ وتزهر
وأما نار الحباحب: فكل نار لا أصل لها، مثل ما ينقدح من نعال الدواب
وغيرها. وأما نار اليراعة: فهي طائر صغير إذا طار بالليل حسبته شهابًا، وضرب من الفراش إذا طار بالليل حسبته شرارًا.
وأول من أورى نارها أبو حباحب بن كلب بن وبرة، فقالوا: نار أبي حباحب، ومن حديثه ما ذكر عن ابن الكلبي قال: كان أبو حباحب رجلًا من العرب في سالف الدهر بخيلًا، لا توقد له نار بليل مخافة أن يقتبس منها، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضيء، أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل والخلف، فقالوا: أخلف من نار أبي حباحب. هذا ما ذكره الموصلي تبعًا للعسكري، وقال ابن الشجري في "أماليه": حباحب: رجل كان لا ينتفع بناره لبخله، فنسب إليه كل نار لا ينتفع بها، فقيل لما تقدحه حوافر الخيل على الصفا: نار الحباحب. قال النابغة في وصف السيوف:
ويوقدون بالصُّفَّاح نار الحباحب
وقال القطامي:
ألا إنَّما نيران قيس إذا شتوا
…
لطارق ليل مثل نار الحباحب
وجعل الكميت اسمه كنية للضرورة في قوله:
يرى الرّاؤون بالشّفرات منها
…
كنار أبي الحباحب والظُّبينا
انتهى. وهذا هو التحقيق، وزاد الصفدي في شرح "لامية العجم" نار الغدر، قال: كانوا إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له نارًا بمنى أيام الحج، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان، وعد نار المزدلفة التي أول من أوقدها قصيّ، قسمًا مستقلًا، وجعل عدة النيران أربعة عشر نارًا.
وقوله: تحرق؛ روي بالبناء للمفعول وبالبناء للمعلوم، والمفعول محذوف وهو الحطب.
وقوله: تشب لمقرورين، أي: توقد، والمقرور: الذي أصابه القر، وهو البرد، والاصطلاء: افتعال من صلي النار وصلي بها، من باب تعب: إذا وجد حرها، والصلاء ككتاب: حر النار.
وقوله: وبات على النار
…
إلخ، بات: له معنيان، أشهرهما ما قاله الفراء: بات الرجل: إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية، وهو المراد هنا، والثاني: بمعنى صار، يقال: بات بموضع كذا، أي: صار به، سواء كان في ليل أو نهار، والندى: الجود والكرم.
والمحلق: هو الممدوح، واسمه عبد العزى من بني عامر بن صعصعة كما تقدم، وهو جاهلي، وقال العسكري في "التصحيف": المحلق الذي مدحه الأعشى مفتوح
اللام، هو اسمه، وهو المحلق بن جزء، من بني عامر بن صعصعة. وقد خالف الجمهور في قوله أن المحلق اسمه، فإنهم قالوا: اسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد، وهو أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وسمي محلقًا لأن فرسه عضه، فصار موضع عضه كالحلقة، فقيل له: المحلق. وقال ابن السيد البطليوسي في "شرح أبيات الجمل": وسمي المحلق لأن بعيرًا عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة، وقيل: بل كوى نفسه بكية شبه الحلقة، وزاد اللخمي: لأنه كان يأتي موضع الحلاق بمنى. وحكى الموصلي أنه أصابه داء فاكتوى على حلقه، فسمي المحلق. وروى أبو عبيدة: المحلق بكسر اللام، وروى الأصبهاني بفتحها.
أقول: الذي رواه الصاغاني في "العباب" عن أبي عبيدة فتح اللام، وقال: لقّب المحلق لأن حصانًا له عضه في خده، فكانت العضة مثل الحلقة. وقال غيره: بل كان أصابه سهم غرب، فكوي بحلقة مقراض، فبقي أثرها في وجهه. انتهى.
وقوله: كان يأتي موضع الحلاق، ذلك الموضع يقال له المحلق، بفتح اللام أيضًا، قال الفرزدق:
بمنزلة بين الصَّفا كنتما بها
…
وزمزم والمسعى وعند المحلَّق
وقال آخر:
كلَاّ وربِّ البيت والمحلَّق
قال ابن السيد: لما كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار، جعل الندى
والمحلق كمتحالفين اجتمعا على نار، وذكر المقرورين لأن المقرور يعظم النار ويشعلها لشدة حاجته. وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى وأوضحه فقال في مدحه الحسن ابن وهب:
قد أثقب الحسن بن وهب في النَّدى
…
نارًا جلت إنسان عين المجتلي
موسومة للمهتدي مأدومة
…
للمجتدي مظلومة للمصطلي
ما أنت حين تعدُّ نارًا مثلها
…
إلاّ كتالي سورة لم تنزل
انتهى. وقال اللخمي: كان الناس يستحسنون هذا البيت للأعشى حتى قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
فسقط بيت الأعشى. وقال الدماميني في "المزج" وما أحسن قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني مضمنًا:
وأهيف فاق الورد حسنًا بوجنة
…
أنزّه طرفي في رياض جنانها
كأنّ بها من حول خاليه جمرة
…
تشبُّ لمقرورين يصطليانها
وقوله: رضيعي لبان، منصوب على المدح، مثنى رضيع بمعنى مراضع واللبان بالكسر: لبن المرأة خاصة، واللبن عامة، وثدي بالجر: بدل من لبان، وتقاسما: تحالفا، أي: أقسم كل منهما لا يفارق صاحبه أبدًا، وعوض: ظرف مبني على الضم بمعنى أبدًا، واختلف في تفسير الأسحم هنا على سبعة أقوال: منها أنه الليل، وداج: مظلم. ويأتي إن شاء الله تعالى، شرح هذا البيت وما قيل فيه مفصلًا في بحث "عوض".
وأخذ الكميت معنى هذا البيت وبسطه في مدح مخلد بن يزيد، وقال:
ترى النَّدى ومخلدًا حليفين
…
كانا معًا في مهده رضيعين
تنازعا فيه لبان الثَّديين
وقوله: وأما إذا ما المحل
…
الخ، المحل: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وسرح مالهم، أي: أطلقها وفرقها، والمال عند العرب: الإبل والبقر والغنم، والسملق كجعفر: القاع الصفصف، وقوله: نفى الذم
…
إلخ، هو جواب إذا، والجفنة بالفتح، قصعة الطعام؛ فاعل نفى، والجابية بالجيم، قال الجوهري: هي الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، وأنشد البيت.
قال المبرد في أول "الكامل": تفهق من قولهم: فهق الغدير؛ إذا امتلأ ماء، فلم يكن فيه موضع مزيد كما قال الأعشى: نفى الذم
…
البيت. هكذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم: أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته، لأنه حضري، فلا يعرف مواضع الماء ولا محالّه. وسمعت أعرابيًا ينشد: