الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
194- بَاب: مَنْ صَلى لغيْر القِبْلةِ ثم عَلِمَ
أي: هذا باب في بيان من صلى لغير جهة القبلة ثم علم.
1016-
ص- نا موسى بن إسماعيل: نا حماد، عن ثابت وحميد، عن أنس، أن النبي- عليه السلام وأصحابه كانوا يُصلون نحو بَيْت المقدس، فلماً نزلت هذه الآية "فَول وجهك شطر المسجد الحرام وحيْث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " فمر رجل من بني سَلِمة فنادَاهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس: ألا إن القبلة قد حُولَتْ إلى الكعبة- مرتين- قال: فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبَة (1) .
ش- صلى رسول الله- عليه السلام نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا على ما روي في " الصحيح " عن البراء قال: وكان رسول الله يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا" الحديث. وعند ابن ماجه بسند صحيح. "صلينا مع رسول الله نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بشهرين " الحديث.
قوله: "شطر المسجد الحرام" أي: جهته. السجستاني (2) من حديث يزيد النحوي، عن عكرمة، عنه: كان يستقبل صخرة بيت المقدس. وهي قبلة اليهود سبعة عشر شهر. وعن سعيد بن عبد العزيز أن النبي عليه السلام صلى نحو بيْت المقدس من شهر ربيع الأول إلى جمادى الآخرة. وعند الشافعي، عن مالك، عن يحيي بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب أن رسول الله- عليه السلام صلى في مسجده الظهر بالمسلمين، ثم أمر أن يواجه إلى المسجد الحرام. قال: ويُقال: إنه زار
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، " باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (527/15) ، النسائي في كتاب التفسير، باب:" فول وجهك شطر المسجد الحرام "(1/ 198) .
(2)
كذا.
أم بشر بن البراء بن معرور في بني سَلِمة، وصنعت له طعاماً، وحانت
الظهر فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يتوجه إلي الكعبة، فاستداروا
إلى الكعْبة، واستقبل الميزاب، فسمي المسجد مسجد القبلتين، وذلك يوم
الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا. قال محمد بن
عمر: هذا أثبت عندنا. وعن عمارة بن أوس الأنصاري قال: صلينا
إحدى صلاتي العشاء فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة
فنادى: إن الصلاة قد وجهت نحو الكعْبة. قال: فتحرف أو تحول إمامنا
نحو الكعبة والنساء والصبيان. وفي "المُحبر " لابن حبيب: حُولِت
/ الظهر يوم الثلاثاء للنصف من شعبان في الركعة الثالثة، وقيل: في 2/69 - ب] صلاة العصر. وفي "الناسخ والمنسوخ " للنحاس، عن ابن زيد بن أسلم:
بعد بضعة عشر شهرا. قال: وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن
عبد الله بن كعب بن مالك: صرفت في جمادى. قال أبو جعفر
النحاس: وهو أولى الأقوال بالصواب. وقال الطبري: حدثنا القاسم:
نا الحسين: نا حجاج: قال ابن جريج: صلى رسول الله- عليه السلام
أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى المقدس فصلّت الأنصار قبل
قدومه بثلاث حجج.
قوله: "شطر المسجد الحرام " أي: جهته.
قوله: "فمر رجل من بني سَلمة"- بفتح السن وكسر اللام- بَطن من
الأنصار من الخزرج، وزعم ابنَ بَشكوال والخطيب أن الذي مر عليهم:
أبو بشر عباد بن بشر الأشهلي، وقيل: عباد بن نهيك، فيحتمل ابن
أحدهما أتى إلي مسجد قريب من المدينة العصر، والآخر جاء إلى أهل قباء الصبح.
قوله: "وهم ركوع " جملة حالية، والركوع جمع راكع كالسجود
جمع ساجدِ. ويُستفادُ من الحديث فوائد؛ الأولى: جواز النسخ عقليا
ووقوعه شرعا، وهو مذهب المسلمين أجمع؛ خلافا لليهود- عليهم
اللعنة- فعند بعضهم باطل نقلا وهو ما جاء في التوراة: "تمسكوا
بالسبْت مادامت السمواتُ والأرض " فادعوا نقله تواترا، ويدعون النقل عن موسى- عليه السلام أنه قال: "لا نسخ لشريعته". وعند بعضهم باطل عقلا. وقد نقل إنكارُه عن أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، قال فخر الإسلام: "إنكار النسخ مع عقد الإسلام لا يتصورُ". قلنا: أما جوازه عقلا؛ فلأنه ليْس إلا بيان مدة الحكم المُطلق التي هي غيْب عنا، ومعلوم عند الله بأنها مُؤقتة إلى وقت كذا، والأحكام ضرعت لمصالح العباد، وتتبدلُ باختلاف الزمان. وأما وقوعه شرعا: فلا شك أن نكاح الأخوات كان مشروعاً في شريعة آدم- عليه السلام، وبه حصل التناسل وهذا لا ينكره أحد، ثم نسخ ذلك في شريعة غيره، وكذلك العمل في السبت كان مباحا قبل شريعة موسى- عليه السلام، ثم نُسخ بعدها بشريعته- عليه السلام، وبه خرج الجواب عما ذكره اليهود عليهم اللعنة.
الثانية: جواز نسخ الكتاب بالسنة وعكْسه؛ وذلك لأنه- عليه السلام كان يتوجهُ إلى الكَعْبة في الصلاة حين كان بمكة، وبعد الهجرة توجه إلى المدينة- كما ذكرنا- وعلم بالتحقيق أن التوجه إلى بيت المقدس كان بالسنة؛ لأنه ليس بمتلو في القرآن، فإن كان التوجه إلى الكعبة أولا بالكتاب، فقد نسخ بالسنة المُوجبة إلى التوجه إلى بيت المقدس، فدل على جواز نسخ الكتاب بالسنة، وأن كان بالسنة فلا شك أن التوجه الثابت إلى القدْس نسخ بالكتاب وهو قوله:"فَول وَجْهَكَ شَطرَ المسجِدِ الحَرَام"(1) فدل على جواز نسخ السنة بالكتاب وقال الشيخ محيي الدين (2) : واختلف أصحابنا وغيرهم أن استقبال بيت المقدس كان ثابتا بالقرآن أم باجتهاد النبي- عليه السلام؟ فحكى للماوردي في "الحاوي" وجهين في ذلك لأصحابنا، قال القاضي: الذي ذهب إليه كثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنةَ، وهو قول كثر الأصولية، وهو أحد قولي الشافعي،
(1) سورة البقرة: (144) .
(2)
شرح صحيح مسلم (9/5) .
والقول [الثاني](1) له وبه قالت طائفة لا يجوز؛ لأن السنة مبينة
للكتاب فكيف يَنسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس
بسنة؛ بل كان بوحي، قال الله تعالى:(وَمَا جَعَلنَا القِبْلَةَ التِي كُنتَ عَلَيْهًا) الآية (2) ، واختلفوا- أيضا في عكْسه وهو نسخ السنة
بالقرآن، فجوزه الأكثرون ومنعه الشافعي وطائفة.
الثالثة: جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد في حال حياة النبي- عليه
السلام-. لأن أهل قباء كانوا في الصلاة متوجهين إلي القدس،
فأخبرهم مخبر بأن القبلة/ قد تحوّلت إلى الكعبة، فتحولوا إلى الكعبة [2/70 - أ] في خلال الصلاة بخبر الواحد، ولم يُنكر عليهم رسولُ الله- عليه السلام بذلك. وأما بعد النبي- عليه السلام: فلا يجوز نسخ
الكتاب بخبر الواحد؛ بل إنما يثبت النسخ بالمتواتر مستندا إلى حال حياة
النبي- عليه السلام:؛ لأن النصوص بعد موته- عليه السلام بقيت
قطعية لارتفاع احتمال النسخ بعده، فلا يجوز النسخ إلا بقطعي مثله
مستندا إلي حال حياته- عليه السلام، فظهور الناسخ يُبَين أن النسخ
كان ثابتا في زمان جواز النسخ، وهو حياته- عليه السلام؛ لا أن
النسخ ثبت في زماننا فقط.
الرابعة: فيه قبول خبر الواحد؛ وتفصيل هذه المسألة على خمسة
أقسامٍ؛ لأنه إما أن يكون من حقوق الله أو من حقوق العباد؛ فإن كان من
حقوق الله فهو على قسمين: عبادات وعقوبات، وإن كان من حقوق
العباد: فهو على ثلاثة أقسام: ما فيه إلزام محض، وما فيه إلزام من
وجه دون وجه، وما لا إلزام فيه؛ فهذه خمسة:
الأولُ: وهو العبادات: خبر الواحد حجة فيه من غير اشتراط العدد،
ولفظه الشهادة بعد وجود شرائط تُراعَى في المخبِر وهي: الإسلام،
والعدالة، والعقل، والضَبْطُ.
(1) زيادة من شرح صحيح مسلم.
(2)
سورة البقرة: (143) .
الثاني: وهو العقوبات كالحدود والكفارات؛ فذهب الجمهور وكثر أصحابنا إلى أن إثبات الحدود بأخبار الآحاد جائز؛ وهو المنقول عن أبي يوسف في "الأمالي " وهو اختيار الجصاص، وذهب الكرخي إلى أنه لا يجوز إثبات العقوبات بخبر الواحد، وإليه ذهب بعض المتأخرين من أصحابنا.
الثالث: الذي فيه إلزام محض كالبيع والشراء وسائر أسباب الملك
فإن خبر الواحد لا يكون حجة فيه؛ بل يشترط فيه العدد، وأقله اثنان فيما يطلع عليه الرجال، ولفظه الشهادة مع سائر شرائط صحة الأخبار. الرابع: الذي فيه إلزام من وجه دون وجه؛ وذلك مثل العبد المأذون إذا أُخبر بالحجر، أو الوكيل إذا أخبر بالعزل، أو البكر البالغة إذا أُخبرت بتزويج الولي فسكتت، أو الشفيع إذا أخبر ببَيع الدار المشفوعة فسكت عن طلب الشفعة، أو المولى أخبر بجناية عبده فأعتقه، أو الذي أسْلم في دار الحرب ولم يهاجر إلى دارنا أخبر بالشرائع؛ فإن الإخبار بهذه الأشياء فيه شَبَهان: إلزام من وَجه دون وجه- كما عرف في موضعه- فالمخبِر إن كان رسولا أو وكيلا فالإخبار من جهة المولى أو الموكل لا يشترط فيه العددُ والعدالة اتفاقا، وإن كان فضوليا فكذلك عند أبي يوسف ومحمد، وأبو حنيفة شرَط أحدَهما إما العدد أو العدالة.
واختلف المشايخ في الذي أسلم في دار الحرب إذا أخبره فاسق بوجوب الصلاة، هل يلزمه القضاء باعتبار خبره عما فات عنه من الصلوات والصيام؟ فمنهم من يقول: ينبغي أن لا يجب القضاء عليه عندهم؛ لأن هذا من أخبار الدين، والعدالة فيها شرط اتفاقا، واعثر على أنه على الخلاف المذكور. وقال شمس الأئمة: الأصح عندي: أنه يلزمه القضاء بخبر الفاسق عند الكل، لأن المخبِرَ بالشرائع رسول عن رسول الله- عليه السلام؛ فإنه مأمور من جهة النبي- عليه السلام بالتبليغ. الخامس: الذي لا إلزام فيه بوجه أصلا كالوكالات والمضاربات والهدايا والودائع والإذن في التجارة، فيعتبر لثبوت هذا القسم خبر كل مميز بين
المضار والمنافع، وإن كان غير عدلا أو صبيا أو كافراً إذا وقع في قلب
السامع صدقُه.
الخامسة: فيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين؛ وذلك فيمن اشتبهت
عليه القبلة، فإنه إذا تحرى وصلى إلى جهة ثم علم أنه أَخطأ وهو في
الصلاة، استدار إلى القبلة كما في قضية أهل قباء، وكذا إلى جهات
مختلفة فيما إذا أتم قوما في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة وصلى إلى جهة،
وتحرى مَن خلفه فصلى كل واحد منهم إلى جهةٍ وكلهم خلفه، ولا
يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم لوجود التوجه إلى جهة التحري.
وقالت الشيخ محيي الدين (1) : وفيه جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين
وهذا/ هو الصحيح عند أصحابنا فيمن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم [2/70- ب] تغير اجتهاده في أثنائها، فيَسْتدبرُ إلى الجهة الأخرى حتى لو تغير اجتهاده
أربع مرات في الصلاة الواحدة، فصلى كل ركعة منها إلى جهة صحت
صلاته على الأصح.
السادسة: فيه دليل على أن النسخ لا يَثبُت في سنن المكلف حتى يبلغه
وهذا ظاهر. والحديث: أخرجه مسلم، والنسائي، وابن خزيمة؛ وزاد
في آخره: " واعتدوا بما مضى من صلاتهم ". وعند الطبراني في
" الأوْسط ": نادى منادي النبي- عليه السلام: إن القبلة حولت إلى
البيت الحرام- وقد صلى الإمام ركعتين- فاستداروا. وقالت الطحاوي:
وفي كونهم "استداروا " دليل على أن من يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه
الدعوة، ولم يمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض في ذلك غير لازم
له، وكذا الرجل يُسلمُ في دار الحرب أو دار الإسلام، وتمرّ عليه فرائضُ
لم يعلمها، ولم يعلم بفرضيتها، ثم علم بفرضيتها بعدُ فللعلماء في ذلك
قولان، أحدهما: إن كان في دار الحرب بحيث لا يجد من يُعلمه لا
يجب عليه قضاء ما مر، وإن كان في دار الإسلام أو في دار الحرب وعنده
(1) شرح صحيح مسلم (9/5) .