الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي عشر
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ. وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ، فَقُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. قَالَ: مَالِكٌ يَعْنِي الَّذِى يُصَلِّي وَلَا يَرْتَفِعُ عَنِ الأَرْضِ، يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بِالأَرْضِ.
قوله: "إنه كان يقول" أي: ابن عمر كما صرح به مسلم، فأما مَنْ زعم أن الضمير يعود على واسع فهو وهم منه، وليس قوله بعد:"فقال عبد الله بن عمر" جوابًا لواسع، بل الفاء في قوله:"فقال" سببية، لأن ابن عمر أورد القول الأول منكِرًا له، ثم بيَّن سبب إنكاره بما رآه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يمكنه أن يقول: "فلقد ارتقيت
…
إلى آخره" ولكن الراوي عنه وهو واسع أراد التأكيد بإعادة قوله: "فقال عبد الله بن عمر".
وقوله: "إن ناسًا" يشير بذلك إلى مَن كان يقول بعموم النهي كما سبق، وهو مروي عن أبي أيوب، وأبي هُريرة، ومعقِل الأسدي، وغيرهم.
وقوله: "إذا قعدتَ على حاجتِكَ" كناية عن التَّبَرُّز ونحوه، وذكر القعود لكونه الغالب، وإلا فحال القيام كذلك.
وقوله: "لقد ارتقيت" اللام جواب لقسم محذوف، أي: والله. و"ارتقيت"
صعدت، وفي رواية:"رقيت".
وقوله: "على ظهر بيت لنا" وفي رواية يزيد الآتية: "على ظهر بيتنا"، وفي رواية عُبيد الله بن عمر الآتية:"على ظهر بيت حفصة" أي: أخته كما صرح به مسلم. ولابن خُزَيْمة: "دخلتُ على حفصة بنت عمر، فصعدت ظهر البيت".
وطريق الجمع أن يُقال: إضافة البيت إليه على سبيل المجاز، لكونها أخته، فله منه سبب، وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واستمر في يدها إلى أن ماتت فورث عنها، أو حيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال، لأنه ورث حفصة دون إخوته، لكونها كانت شقيقته، ولم تترك مَنْ يحجبه عن الاستيعاب.
وقوله في هذا الحديث: "بيت حفصة" استنبط منه البخاري بترجمته في كتاب الخمس كما قال ابن المنير أن هذه النسبة تحقق دوام استحقاقهنَّ للبيوت ما بقينَ، لأن نفقتهنَّ وسكناهن من خصائص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والسر فيه حبسهن عليه.
وقال الطبري: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ملَّكَ كلاًّ من أزواجه البيت الذي هي فيه، فسَكَنَّ بعده فيهن بذلك التمليك. وقيل: إنّما لم ينازَعْن في مساكنهنَّ لأن ذلك من جملة مؤنتهنَّ التي كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استثناها لهنَّ مما كان في يده أيام حياته، حيث قال:"ما تركتُ بعد نفقة نسائي" قال: وهذا أرجح، ويؤيده أن ورثتهنَّ لم يرثن عنهنَّ منازلهنَّ، ولو كانت البيوت ملكًا لهنَّ لانتقلت إلى ورثتهنَّ، وفي ترك ورثتهنَّ حقوقهم منها دِلالة على ذلك، ولهذا زيدت بيوتَّهن في المسجد النبوي بعد موتهنَّ، لعموم نفعه للمسلمين، كما فُعل فيما كان يُصرف لهنَّ من النفقات.
قلت: انظر قوله: إن ورثتهنَّ لم يرثن عنهنَّ منازلهنَّ، مع قوله السابق: كان باعتبار ما آل إليه الحال، لأنه ورث حفصة. فظاهر هذا أنه ورث بيت حفصة، وقوله أيضًا: فورث عنها. والصحيح عدم إرثه.
وادّعى المهلّب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان حبس عليهنَّ بيوتهنَّ، ثم استدل به على أن مَنْ حبس دارًا جاز له أن يسكن منها في موضع، وضعفّه ابن المنير بمنع أصل الدعوى، ثم على التنزل لا يوافق ذلك مذهبه إلا إن صرح بالاستثناء، ومن أين له ذلك؟
وقوله: "على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته" أي لأجل حاجته، أو وقت حاجته. والمَقْدِس -بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المخففة. ويضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة- والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفة كمسجد الجامع.
وقوله: "على لَبِنَتَيْن" ولابن خُزيمة: "فأشرفتُ على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو على خلائه"، وفي رواية له:"فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلبن". وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف" -بفتح الكاف بوزن عظيم- وانتفى بهذا إيراد مَنْ قال ممن يرى الجواز مطلقًا: يحتمل أن يكون رآه في الفضاء.
وكونه على لبنتين لا يُدلُّ على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد على هذا الاحتمال أيضًا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بساتر كما رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به.
ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة له كما في الرواية الآتية، فحانت منه التفاتةٌ كما للبيهقي عن ابن عمر.
نعم لما اتَّفقت له رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أحب أن لا يُخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره، حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذور.
ودلَّ ذلك على شدة حرص هذا الصحابي على تتبع أحوال النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم ليَتَّبِعها، وكذا كان رضي الله تعالى عنه، ولهذا كان يلقَّب بالأثَرِيِّ.
وقوله: "وقال لعلَّك من الذين يصلّون على أوراكِهم" الخطاب لواسع، وقد غلط مَنْ زعم أنه مرفوع.
وقوله: "فقلت: لا أدري والله" أي: لا أدري أنا منهم أم لا.
وقوله: "قال مالك
…
إلخ" يعني أن مالكًا فسر المراد بقول ابن عمر: "يصلّون على أوراكِهم" بأنه مَنْ يلصق بطنه بفخذيه إذا سجد، فلا يرتفع عن الأرض، فيسجد وهو ملتصق بالأرض. وهذا خلاف هيئة السجود المشروعة، وهي التجافي والتجنح كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في موضعه.
واستشكلت مناسبة ذكر ابن عمر لهذا مع المسألة السابقة، فقيل: يحتمل أن يكون أراد بذلك أن الذي خاطبه لا يعرف السنة، إذ لو كان عارفًا لعرف الفرق بين الفضاء والبينان، أو الفرق بين استقبال الكعبة وبيت المقدس، وإنما كنّى عمّن لا يعرف السنة بالذي يصلّي على وركيه، لأن مَنْ يفعل ذلك لا يكون إلا جاهلًا بالسنة، قاله الكرماني.
ولا يخفى تكلفه، فليس في السياق أن واسعًا سأل ابن عمر عن المسألة الأولى حتى ينسبه إلى عدم معرفتها، ثم الحصر الأخير مردودٌ، لأنه قد يسجد على وركيه مَنْ يكون عارفًا بسنن الخلاء.
والذي يظهر في المناسبة ما دل عليه سياق مسلم، ففي أوله عنده: "عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس، فلما قضيتُ صلاتي انصرفت إليه من شقي، فقال عبد الله: يقول ناس
…
فذكر الحديث" فكأن ابن عمر رأى منه في حال سجوده شيئًا لم يتحققه، فسأله عنه بالعبارة المذكورة، وكأنه بدأ بالقصة الأولى لأنها من روايته المرفوعة المحققة عنده، فقدمها على ذلك الأمر المظنون، ولا يبعد أن يكون قريب العهد بقول مَنْ نقل عنهم ما نقل، فأحب أن يعرِّفَ الحكم لهذا التابعي لينقله عنه.