الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والأربعون
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى، يَفْتِلُهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.
قوله: "فاضطجعت" قائل ذلك هو ابن عباس، وفيه الثقات، لأن أسلوب الكلام يقتضي أن يقول:"فاضطجع" لأنه قال: قبل ذلك: "أنه بات"، أو يقدر: قال: فاضطجعت.
وقوله: "في عَرض الوسادة" بفتح العين على المشهور، وبالضم، وأنكره أبو الوليد الباجي من جهة النقل والمعنى، قال: لأن العُرض -بالضم- هو الجانب، وهو لفظ مشترك، لكن لما قال:"في طولها" تعيَّن المراد، وقد صحت به الرواية، فلا وجه لإنكاره.
وقوله: "حتى انتصف الليل" وفي رواية غير الأصيلي: "حتى إذا انتصف".
وقوله: "استيقظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن جُعلت إذا ظرفية، "فقَبْلَه" ظرف لاستيقظ، أي: استيقظ وقت الانتصاف أو قبله. وإن خعلت شرطية، فمنعلق بفعل مقدر، واستيقظ جواب الشرط، أي: حتى إذا انتصف الليل أو كان قبل الانتصاف واستيقظ.
وقوله: "يمسح النوم عن وجهه بيده" بالإفراد، أي: يمسح عينيه بيده من باب إطلاق اسم الحال على المحل، لأن المسح لا يقع إلا على العين، والنوم لا يُمسح، أو أثر النوم من باب إطلاق السبب على المسبب، وليس أثر النوم من النوم كما قال العيني، لأن الأثر غير المؤثر، فالمراد بالأثر ارتخاء الجفون من النوم ونحوه.
وقوله: "ثم قرأ العشر الآيات" من إضافة الصفة للموصوف، واللام تدخل على العدد المضاف، نحو: الثلاثة الأثواب.
وقوله: "الخواتيم" بالنصب صفة للعشر المنصوب بقرأ، أولها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
…
إلى آخر السورة}.
وقوله: "ثم قام إلى شَنٍّ معلقة" بفتح الشين المعجمة، وتشديد النون، القربة الخلقة من أدم، وجمعه شِنان بكسر أوله. وذكر الشَّن باعتبار الأدم أو الجلد أو الوعاء، وأنّث الوصف باعتبار القربة.
وقوله: "فأحسن وضوءه" أي: أتمّة بأن أتى بمندوباته، ولا يُعارض هذا قوله في باب التخفيف في الوضوء:"وضوءً خفيفًا" لأنه يحتمل أن يكون أتى بمندوباته جميعًا مع التخفيف، أوكان كل منهما في وقت، وهذا بعيد لاتحاد الحديث، وقد مر هناك معنى التخفيف.
وقوله: "وأخذ باذني اليمنى يفتِلُها" أي: يدلِّكُها تنبيهًا عن الغفلة عن أدب الائتمام وهو القيام عن يمين الإِمام إذا كان الإِمام وحده، أو تأنيسًا له لكون ذلك كان ليلًا.
وقد مرَّ في باب السمر في العلم جميع فوائد هذا الحديث مستوفاة عند ذكره هناك.
وقوله: "فصلّى رَكْعتين ثم ركعتين
…
إلخ" ومجموع ما صلى اثنتا عشرة ركعة، وهو يقيد المطلق في قوله في باب التخفيف: "ثمَّ صلى ما شاء الله".
وقوله: "ثم أوتَرَ" يعني: بواحدة، أو بثلاث كما قيل بكلٌّ، فقد أخرج البخاري عن القاسم، عن عبد الله ببن عُمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فإذا أردتَ أن تنصرف فاركع ركعةً تُوتر لك ما صلَّيت"، قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يوترون بثلاثٍ، وإن كلاًّ لواسع، وأرجو أن لا يكون بشيء منه بأس.
وفي قوله: "فإذا أردت أن تنصرف" ردٌّ لقول من ادّعى أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر، لأنه علقه بإرادة الانصراف، وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك، وما جاء في حديث ابن عُمر:"فإذا خشي أحدكم الصّبح صلى ركعة واحدة" محمول على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر.
وقول القاسم: "يوتِرون بثلاث
…
إلخ" يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركَعْ ركعةً" أي: منفردة منفصلة، ودل ذلك على أن لا فرق عنده بين الوصل والفصل.
واستُدل بقوله في حديث ابن عمر: "صلِّ ركعة واحدة"، على أن فصل الوتر أفضل من وصله، وتُعُقِّب بأنه ليس صريحًا في الفصل فيُحتمل أن يريد بقوله:"صلِّ ركعة واحدة" أي: مضافة إلى ركعتين مما مضى.
واحتجَّ بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسنٌ جائز، واختلفوا فيما عداه. قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه.
وتعقَّبه محمد بن نصر المَرْوَزي بما رواه عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "لا
تُوتروا بثلاث تُشبهوا بصلاة المغرب" وقد صححه الحاكم عن أبي هُريرة مرفوعًا نحوه، وإسناده على شرط الشيخين. وقد صحح ابن حِبان والحاكم من طريق مِقْسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث. وأخرجه أيضًا النسائي. وعن سُليمان بن يَسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: لا يشبه التطوع الفريضة، فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله.
وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا ثابتًا صريحًا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة. ورُدّ عليه بما رواه الحاكم عن عائشة:"أنه عليه الصلاة والسلام كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن ". وروى النسائي نحوه عن أبي بن كعب بلفظ: "يوتر بسبَّح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقُل هو الله أحد، ولا يسلم إلا في آخرهن". ويبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.
ويجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده.
والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب، أن يُحتمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف، فروى محمد بن نَصْر أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير. ومن طريق المِسْوَر بن مَخْرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن. ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهنَّ. وروى محمد بن نَصْر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب. وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور.
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المُزني قال: صلى ابن عُمر ركعتين، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة. وروى الطّحاوي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أنه كان يفصل بين شَفْعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وإسناده قوي.
ولم يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد من قوله: "بتسليمة"
أي: التسليمة التي في التشهد. ولا يخفى بُعد هذا التأويل.
وحديث عائشة: "يسلِّم من كل ركعتين" تدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في محل النزاع.
وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة على الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البُتَيْراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبُتَيْراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل. وصرح كثير منهم بأن الفصل يقطعهما عن أن يكونا من جملة الوتر، ومن خالفهم يقول: إنهما منه بالنية.
وقول القاسم بن محمد السابق: إن كلًّا من الأمرين واسع يشمل الوصل والفصل، والاقتصار على واحدة وأكثر. وقال الكِرماني قوله:"وإن كلاًّ" أي: وإن كل واحدة من الركعة والثلاث والخمس والسبع وغيرها جائز، وأما تعيين الثلاث موصولة ومفصولة فلم يشمَلْه كلام؛ لأن المخالف من الحنفية يحمل كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل كما مر عن عائشة وغيرها.
واستُدلَّ بقوله في الحديث: "تُوتر له ما قد صلَّى" على أن الركعة الأخيرة هي الوتر، وأن كل ما تقدمها شفع، وادّعى بعض الحنفية أن هذا إنما يُشرع لمن طرقه الفجر قبل أن يوتر، فيكتفي بواحدة لقوله:"فإذا خشي الصبح" فيحتاج إلى تعين الثلاث، وقد مرَّ ما ذُكر في ذلك عن القاسم.
واستدل به المالكية على تعيُّن الشفع قبل الوتر بناء على أن قوله: "ما قد صلى" من النفل، وحملُه من لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم من الفرض والنفل، وقالوا: إن سَبْق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيد العمل الأول أن قوله:"توتر له ما قد صلى" وارد في حال صلاة النفل في جميع الأحاديث، فلا يصح حمله على الفرض، واستدل الآخرون بما أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن حِبان والحاكم عن أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حقٌ فمن شاء
أوتر بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدة" وصح عن جماعة من الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن نَصْر بإسناد صحيح عن السّائب بن يزيد أن عثمان قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصلِّ غيرها. ويأتي في المغازي عن عبد الله بن ثعلبة أن سعدًا أوتر بركعة. ويأتي في المناقب أن معاوية أوتر بواحدة، وأن ابن عباس استَصْوَبه، فقول ابن التين: إن الفقهاء لم يأخذوا بعمل معاوية في ذلك. كانه أراد به فقهاءهم.
وقد قال أبو حنيفة بوجوب الوتر مستدلاًّ على وجوبه بما أخرجه أحمد عن معاذ مرفوعًا: "زادني ربّي صلاة، وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر" وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن حُذافة في "السنن"، وليس صريحًا في الوجوب. وأما حديث بُريدة رفعه:"الوتر حقُ، فمن لم يُوتر فليس منا" وأعاد ذلك ثلاثًا، ففي سنده أبو المُنيب وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتجَّ به إلى أن يثبت أن لفظ حق بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ واجب بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد.
وقد بالغ الشيخ أبو حامد، فادّعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شَيْبة أخرج عن سعيد بن المسيِّب، وأبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود، والضّحاك ما يدل على وجوبه عندهم. وعنده عن مجاهد: الوتر واجب. ولم يثبت، ونقله ابن العربي عن أصبغ من المالكية، ووافقه سُحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه أُدِّب وكان جرحة في شهادته.
واستدل الجمهور على عدم وجوب الوتر بما في حديث ابن عمر عند المصنف: "يصلي في السفر على راحلة حيث توجهت به، يومىء إيماءً، صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته" فقالوا: إن صلاته على الراحلة دليل على أن الوتر ليس بفرض، وعلى أنه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الوتر عليه، لكونه أوقعه على الراحلة.
وأما قول بعضهم: إنه كان من خصائصه أيضًا أن يوقعه على الراحلة مع
كونه واجبًا عليه، فهي دعوى لا دليل عليه؛ لأنه لم يثبت دليل وجوبه عليه حتى يحتاج إلى تكلف هذا الجمع.
واستُدِلَّ به على أن الفريضة لا تصلّى على الراحلة. قال ابن دقيق العيد: وليس ذلك بقوي؛ لأن الترك لا يدل على المنع، إلا أن يقال: إن دخول وقت الفريضة مما يكثر على المسافر، فتركُ الصلاة لها على الراحلة دائمًا يُشعر بالفرق بينها وبين النافلة في الجواز وعدمه.
وأجاب من ادَّعى وجوب الوتر من الحنفية بأن الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن عُمر كان يفرق بين الفرض والواجب.
واستدل الحنفية على وُجوب الوتر بقول عائشة: "فإذا أراد أن يوتر أيقظني فاوترت" قالوا: إنه سلك به مسلك الواجب حيث لم يدعها نائمة، وأبقاها في التهجد. ورُدَّ بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكد أمر الوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية.
وقال الطحاوي: ذُكر عن الكوفيين أن الوتر لا يُصلّى على الراحلة، وهو خلاف السنة الثابتة، واستدل بعضُهم برواية مجاهد: أنه رأى ابن عمر نزل فأوتر. وليس ذلك بمعارِض لكونه أوتر على الراحلة، لكونه لا نزاع أن صلاته على الأرض أفضل. وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يُوتر على راحلته، وربما نزل فأوتر بالأرض.
ومباحث الوتر كثيرة، ويأتي إتمامها عند ذكره في باب الحلق والجلوس في المسجد من أبواب المساجد. وتأتي بقية قليلة في محله من أبواب الوتر.
وقوله: "ثم خرج فصلى الصبح" يعني: بأصحابه، قال ابن بطّال ومن تبعه: فيه دليل على ردَّ من كره قراءة القرآن على غير طهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ. وتعقّبه ابن المنير تبعًا للاسماعيلي بأن