الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والخمسون
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ، كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ". قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ". فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ.
قوله: "لما اشتد وجعه" أي قوي وجعه في مرض موته كما سيأتي، وفي رواية في المغازي:"لما حضرت النبيَّ، صلى الله تعالى عليه وسلم، الوفاة، وفيها من حديث سعيد بن جُبير أن ذلك كان يوم الخميس، قبل موته صلى الله تعالى عليه وسلم، بأربعة أيام. وقوله "بكتاب" أي بأدوات الكتاب، كالقلم والدَّواة، ففيه مجاز الحذف، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه، كالكاغد وعَظم الكتف؛ لأنهم كانوا يكتبون فيها. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم، قال "ائتوني بالكتف والدواة".
وقوله: "أكتب" هو بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفعُ على الاستئناف. وفيه مجاز أيضًا، أي: أمر بالكتابة. وفي مسند أحمد من حديث عليّ أنه المأمور بذلك، ولفظه "أمرني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أن آتي بطبق يكتب ما لا تضل أمته من بعده". قلت: هذا كحديث المتن، ليس فيه التصريح بأن عليًا هو المأمور بالكتابة، لقوله فيه "يكتب" ويحتمل أن يكون على ظاهره من كونه عليه الصلاة والسلام يريد أن يكتب بنفسه.
وفي كتْبه، عليه الصلاة والسلام، بيده الشريفة خلاف مشتهر بين العلماء. فقد أخرج البخاري في باب عُمرة القضاء "فأخذ رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: "هذا ما قاضى محمد بن عبد الله " فتمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجِيّ، فادعى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كتب بيده، بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنَّع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة
…
وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى.
وذكر ابن دَحْية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذَر الهَرَويّ وأبو الفتح النَّيْسابُورِيّ، وآخرون من علماء إفريقية وغيرها. واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شَيْبة، وعمر بن شَبَّة، من طريق مجاهد عن عبد الله بن عون قال: ما مات رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى كتب وقرأ. قال مجاهد: فذكرته للشعبيّ فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك. ومن طريق يونس بن مَيْسرة عن سَهْل بن الحَنْظَليَّة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعُيَيَنْة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمِّس؟ فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، الصحيفة فنظر فيها، فقال: قد كتب لك بما أمر لك. قال يونس: فنرى أن رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، كتب بعدما أُنزل إليه
صلى الله تعالى عليه وسلم، كان إما بالوحي أو بالاجتهاد، وكذلك تركه؛ إنْ كان بالوحي فبالوحي، وإلا فبالاجتهاد أيضًا.
وقال النوويّ: اتفق قول العلماء على أن قول عمر "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا ينسد باب الاجتهاد على العلماء. وفي تركه، صلى الله تعالى عليه وسلم، الإنكار على عمر إشارةٌ إلى تصويبه رأيهُ، فعُلم بذلك أن المأمور به ليس مما لا يستغنون عنه، إذ لو كان من هذا القبيل لم يتركه عليه الصلاة والسلام، لأجل اختلافهم، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: إن الرَّزية
…
الخ؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا.
قال الخطابي: لم يتوهم عمر الغلظ فيما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب، وحضور الموت، خشي أن يجد المنافقون سبيلًا إلى الطعن فيما يكتبه، وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق، فكان ذلك سبب توقف عمر لا أنه تعمد مخالفة قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا جوز وقوع الغلط عليه، حاشا وكلا.
وقد ظهر لطائفة أخرى أن الأوْلى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره، وما تضمنه من زيادة الإيضاح. واختلف في المراد "بالكتاب" فقيل: أراد أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده، حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عُيَينة، ويؤيده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال في أوائل مرضه، وهو عند عائشة:"ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ، ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" أخرجه مسلم، وللمصنف معناه، والأول أظهر، لقول عمر "كتاب الله حسبنا" أي كافينا، مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده.
وقال الشيخ الطيِّب بن كيران في شرحه "لتوحيد ابن عاشر": إن هذا الذي أراد أن يكتبه هو من العلم المخير في تبليغه، الذي قال فيه:"فكنت أسر إلى أبي بكر وإلى عمر وإلى عثمان وإليك يا أبا الحسن" قال: إذ لو كان ذلك من الواجب ما تركه لأجل اختلافهم، وقد عاش بعد ذلك أياما، ولو كان مما يجب كتمانه ما همَّ بكتبه لهم. وما قاله في غاية الحسن ولم أجده لغيره وهو يشير إلى ما هو مروي في حديث الإسراء من أن الله تعالى علمه ليلة الإِسراء ثلاثة علوم: علم أمره بتبليغه للعام والخاص، وعلم أمره بكتمه، وعلم خيره فيه.
وقوله "وكثر اللَّغَط" بتحريك اللام والغين المعجمة، أي الصوت والجلبة بسبب ذلك، فلما رأى ذلك، قال:"قوموا عني" وقوله "ولا ينبغي عندي التنازع" هو بالرفع فاعل ينبغي، وفيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال أمره، وإن كان ما اختاره عمر صوابًا، إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد كما مر، ولأن في بعض الروايات "وأوصاهم بثلاث: قال: أخْرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم
…
إلخ"، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتما؛ لأنه لوكان مما أمر بتبليغه، لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظًا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أيامًا، وحفظوا عنه أشياء لفظًا، فيحتمل أن يكون مجموعها هو ما أراد أن يكتبه.
قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم "لا يُصَلِّينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة" فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنَّف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ، والمقصد الصالح. وقوله في تلك الرواية "أجيزوا الوفد" أي أعطوهم، والجائزة العطية، وقيل: أصله أن ناسًا وفدوا على بعض الملوك، وهو قائم على قنطرة، فقال: أجيزوهم، فصاروا يعطون الرجل ويطلقونه،
فيجوز على القنطرة متوجهًا، فسميت عطية من يقدم على الكبير جائزة. وتستعمل، أيضًا، في إعطاء الشاعر على مدحه ونحو ذلك.
وقوله "بنحو ما كنت أجيزهم" أي بقريب منه. وكانت جائزة الواحد على عهده، صلى الله تعالى عليه وسلم، أوقية من فضة، وهي أربعون درهمًا. وقوله "فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية" ظاهره أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلًا هذه المقالة، وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث. فوجه الرواية أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث، خرج من المكان الذي كان فيه، وهو يقول ذلك. ويدل عليه رواية أبي نعيم في المستخرج، قال عُبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول
…
الخ وإنما تعين حمله على غير ظاهره؛ لأن عبيد الله تابعيّ من الطبقة الثانية، لم يدرك القصة في وقتها؛ لأنه ولد بعد النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، بمدة طويلة، ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى. وفي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام "قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول:
…
" وكذا لأحمد من طريق جرير بن حازم.
وقوله "إن الرزية" هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها مثناة تحتية ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء، ومعناها المصيبة. وزاد في رواية معمر "لاختلافهم ولغطهم" أي إن الاختلاف كان سببًا لترك كتابة الكتاب.
وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببًا في حرمان الخير، كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك، وفيه وقوع الاجتهاد بحضرته، صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما لم ينزل عليه فيه. وقد ذكر البخاريّ في هذا الباب أربعة أحاديث، فبدأ بحديث علي " أنّه كتب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"، وقد يطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يبلغه النهي، وثنى بحديث أبي هريرة، وفيه