الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والسبعون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "فِيهِ الْوُضُوءُ".
قوله "كنت رجلًا مذّاء" بتثقيل الذال المعجمة، والمد بصيغة المبالغة، أي كثير المذي، يقال مَذَى يمَذْي مثل مضى يمضي، ثلاثيًا ويقال أيضًا: أمذى يُمْذي بوزن أعطى يعُطي رباعيًا. وفي المذي لغات أفصحها فتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء. ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، وقد لا يحس بخروجه.
وقوله "فأمرتُ المِقداد أن يسأل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم" وفي رواية قُتيبة عند المصنف في الوضوء "فاستحييتُ". وفي رواية عنده في الغسل "لمكان ابنته". وفي رواية لمسلم "من أجل فاطمة رضي الله تعالى عنها"، ووقع في رواية للنَّسائيّ أن عليًا قال: أمرت عمارًا أن يسأل. وفي رواية لابن حِبَّان والإسماعيليّ أنّ عليًا قال: سألت، وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف، بأن عليًا أمر عمارًا أنْ يسال، ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه، وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره، لكونه مغايرًا لقوله: إنه استحيا عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة، فيتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل، لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيليّ ثم النّوويّ.
ويؤيد أنه أمر كلًا من المقداد وعمار بالسؤال عن ذلك، ما رواه عبد الرزاق عن عائِش بن أنس قال: تذاكر علي والمقداد وعمار المَذْيَ فقال عليّ: إنني رجل مذّاء، فاسألا عن ذلك النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم،
فسأله أحد الرجلين. وصححَّ ابن بَشْكوال أن الذي تولّى السؤال عن ذلك هو المقداد وعليّ هذا، فنسبة عمار إلى أنه "سأل عن ذلك" محمولة على المجاز أيضًا، لكونه قصده لكن تولى المقداد الخطاب دونه.
وقوله "فقال فيه الوضوء" هذا مطابق لكون السائل المقداد، وفي رواية الغُسل، فقال: توضأ واغسل ذكرك. وهذا الأمر، بلفظ الإفراد، يشعر بأن المقداد سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون سأل لمبهم أو لعليّ، فوجه النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم الخطاب إليه. وفي رواية لمسلم، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ بلفظ الغائب، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام، وهو الأظهر، ففي مسلم، أيضًا فسأله عن المذي يخرج من الإنسان وفي الموطأ نحوه. والظاهر أن عليًا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر، لأوردوه في مسند المقداد، ويؤيده ما في رواية النَّسائيّ عن أبي حصين في هذا الحديث، عن علي قال: فقلت لرجل جالس في جنبي: سله، فسأله. وفي رواية لأبي داود والنَّسائيّ وابن خُزَيمة، ذكر سبب ذلك عن حَصين بن قُبَيْصةَ عن عليّ قال: كنت رجلًا مذاءًا، فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تفعل.
ولأبي داود وابن خُزيمة عن سَهل بن حُنيف أنه وقع له نحو ذلك، وأنه سأل عنه بنفسه. واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام "توضّأ" على أن الغُسل لا يجب بخروج المذي، وصرح بذلك في رواية أبي داود وغيره، وهو إجماع، وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول، وحكى الطحاويّ عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه، ثم رد عليهم بما رواه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عليّ قال: سئل النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن المَذْي فقال: فيه الوضوء، وفي المَنْي الغُسْل.
فعرف بهذا أن حكم المَذْي حكم البوك وغيره من نواقض الوضوء، لا أنه يوجب الوضوء بمجرد خروجه.
واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي، للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وتعقَّبه ابن دقيق العيد بأنَّ الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد، بخلاف صاحب السلس، فإنه ينشأ عن علة في الجسد، ويمكن أن يقال: أمر الشارع بالوضوء منه، ولم يستفصل فدل على عموم الحكم.
وقوله "واغسل ذكرك" وقع في رواية البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، وفي العُمدة نسبة عكس ذلك للبخاري، لكن الواو لا ترتّب، فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيليّ، فيجوز تقديم غسله على الوضوء، وهو أوْلى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله، لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه، يشترط أن يكون ذلك بحائل، واستدل به ابن دقيق العيد على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها؛ لأن ظاهره يعيّن الغُسل والمُعين لا يقع الامتثال إلا به، وهذا هو مذهب المالكية، وهو ما صححه النَّوويّ في شرحِ مسلم، وصحح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقًا له بالبول، وحملاً للأمر بغسله على الاستحباب، أو على أنه خُرِّج مخْرج الغالب، وهذا هو المعروف في مذهب الشافعية.
واستدل به المالكية والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل، عملاً بالحقيقة، لكن الجمهور نظروا إلى المعنى، فإن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج، فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال:"توضأ واغسلْه" فأعاد الضمير على المذي. ونظير هذا قوله "من مس ذكره فليتوضأ" فإن النقض لا يتوقف على مسّ جميعه.
قلت: من أين لهم أن الضمير في رواية الإسماعيليّ راجع إلى المذيّ؟ فلم لا يكون راجعًا إلى الذكر، حملًا للحديث على الرواية
الصريحة، وتحصيلًا للتوفيق بين الحديثين الواجب الجمع بينهما؟ وأما حصول النقض بمس بعض الذكر، فيجاب عنه بأنه جعل فيه النقض بمس البعض ليتيقن حصول الوضوء صحيحًا، فتبرأ به الذمة من الصلاة، والأصل أن الذمة لا تبرأ إلا بمحقق، ولو حمل على أن المس لابد أن يكون لجميعه، بقي احتمال كون المراد به البعض، فلا يتحقق من مس البعض صحة وضوئه، وكذلك الأمر بالغسل للذكر حمل على الحقيقة، لأنه لو حُمل على غسل البعض الذي هو خلاف المتبادر من اللفظ، لم تتحقق براءة الذمة من المأمور به، ولا صحة وضوء الخارج منه المذي، وبالله تعالى التوفيق.
واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه، هل هو معقول المعنى أو للتعبد؟ فعلى الثاني تجب النية فيه، قال الطحاويّ: لم يكن الأمر بغُسله لوجوب غسله كله، بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد، ويتفرق لبنه إلى داخل الضرع، فينقطع خروجه. قلت: العلة تشمل البول، فلِمَ لم يأمر الشارع بغسل الذكر فيه؟
واستدل به أيضًا على نجاسة المذي، وهو ظاهر، وخرَّج ابن عقيل الجنبليّ من قول بعضهم إن المذي من أجزاء المني، رواية بطهارته، وتعُقِّب بأنه لو كان منيًا لوجب الغسل منه. واستدل به على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع به. وفيهما نظر، لأن السؤال كان بحضرة عليّ رضي الله تعالى عنه، كما مر، ولو صح أن السؤال كان في غيبته، لم يكن دليلًا على المدعى، لاحتمال وجود القرائن التي تحفُّ الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع. والمراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد، أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة، تقوم الحجة بجملتها، بفرد معين منها.
وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء، وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل