الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والستون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلَا حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أُمِرَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى
حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَاّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِى الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ. فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ". قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا".
قوله "إن موسى" أي صاحب الخِضْر، كما صرح به المصنف في التفسير، وقوله "ليس بموسى بني إسرائيل" أي المرسل إليهم، والباء زائدة للتأكيد حذفت في رواية الأربعة، وأضيف "لبني إسرائيل" مع العلمية؛ لأنه نكرَّ بأن أولَّ بواحد من الأمة المسماة به، ثم أُضيف إليه. وقوله "إنما هو موسى آخر" بغير تنوين فيهما، لأنه علم شخص معين، وقد قالوا: إنه موسى بن مِيْشا، كما مر في هذا الحديث في باب ذهاب موسى في البحر. وروي بتنوين موسى، لكونه نكرة، فانصرف لزوال علميته، وقوله "كذب عدو الله" قال ابن التين: لم يرد ابن عباس إخراج نوْف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق، فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه، وحقيقته غير مرادة، وقد قاله في حال الغضب، وألفاظ الغضب تقع على غير الحقيقة غالبًا، ويجوز أن يكون ابن عباس اتَّهم نوفًا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في الحُرِّ بن قيس هذه المقالة
مع تواردهما عليها. كما مر في الحديث المذكور. وأما تكذيبه له، فلكونه قال غير الواقع، ولا يلزم منه تعمده.
ويستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء، فسمع غيره يذكر فيه شيئًا بغير علم، أن يكذبه، ونظيره قوله، صلى الله تعالى عليه وسلم "كذب أبو السَّنَابِل" أي: أخبر بما هو باطل في نفس الأمر، وقوله "حدثني أبي بن كعب" في استدلاله بذلك دليل على قوة خبر الواحد المتقين عنده، حيث يطلق مثل هذا الكلام في حق من خالفه، وقوله "قام موسى خطيبًا في بني إسرائيل فسُئل" وعند المصنف في التفسير قال: ذكر الناس يومًا حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى فأدركه رجلٌ. قال في "الفتح": لم أقف على اسمه، وهذا يقتضي أن السؤال عن ذلك وقع بعد أن فرغ من الخطبة، وتوجَّه. وروايه الباب توهم أن ذلك وقع في الخطبة، ويمكن حملها على هذه الرواية بأن تحمل على أن فيها حذفًا تقديره: قام خطيبًا، فخطب، ففرغ، فتوجه، فسئل. والذي يظهر أن السؤال وقع وموسى بعد لم يفارق المجلس، ويؤيده أن في منازعة ابن عباس والحُرّ بن قيس السابقة "بينما موسى في ملأ بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك
…
" الحديث.
وقوله "أي الناس أعلم" أي منهم، على حد "الله أكبر" أي: من كل شيء. وقوله "فقال أنا أعلم" قيل: إن هذه مخالفة لقوله في الرواية السابقة في باب الخروج في طلب العلم "هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا" ويمكن أن يقال لا مخالفة بينهما؛ لأن قوله هنا " أنا أعلم" أي فيما أعلم، فيطابق قوله "لا" في جواب من قال له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ في إسناد ذلك إلى علمه، لا إلى ما في نفس الأمر، لكن قد مر لك أن الرواية السابقة يبقى معها احتمال المساواة، وهذه تقتضي الجزم بالأعلمية له.
وعند النَّسائِيّ: قام موسى خطيبًا، فعرض في نفسه أن أحدًا لم يؤتَ من العلم ما أوتي، وعلم الله بما حدث به نفسه، فقال: "ياموسى، إنَّ من
عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك". وعند عبد الرزاق قال: "ما أجد أعلم بالله وأمره مني". قال ابن المنير: ظن ابن بَطَّال أن ترك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أوْلى، قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل ردُّ العلم إلى الله تعالى متعين أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام: أنا، والله أعلم، لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك؛ لأن الجزم يوهم أنه كذلك في نفس الأمر، وإنما مراده الإخبار بما في علمه كما مر.
وقوله "فعتب الله عليه" العتب من الله تعالى محمولٌ على ما يليق به تعالى، لا على معناه العُرْفيّ في الآدميين، الذي هو تغيير النفس المستحيل عليه تعالى، كنظائره، وقد مر المراد به في الرواية السابقة، وقوله "إذ لم يَرد العلم إليه" إذ تعليلية، أي: فكان يقول: الله أعلم، وفي رواية الكشميهنيّ "إلى الله" ويرد بضم الدال اتباعًا لسابقها، وبفتحها لخفته، وبكسرها على الأصل في الساكن إذا حرك. وجوز الفك أيضًا، وقوله:"فأوحى الله إليه أن عبدًا" أي: بأن، وروي بكسر الهمزة على تقدير "فقال: إن عبدًا" والمراد به الخِضْر. وقوله "بمجَمْع البحرين" أي كائنًا به.
واختلف في مكان مجمع البحرين فروي عن قتادة قال: بحر فارس والروم، وعن السّدِّيّ قال: هما الكَرّ والرَّشن، حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماليّه إلى جنوبيّه، وطرفيه مما يلي برّ الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقُلْزُم. وقال محمد بن كعب القُرَظي: مجمع البحرين بطَنْجَة. وعن ابن المبارك. قال بعضهم: بحر أرمِينيَّة. وعن أُبي بن كعب قال: بإفريقية. أخرجهما ابن أبي حاتم، لكن السند إلى أُبي ضعيف، وأغرب من ذلك ما نقله القرطبيُّ عن ابن عباس قال: المراد بمجمع البحرين اجتماع موسى والخِضر؛ لأنهما بحرا علم، وهذا غير ثابت، ولا يقتضيه اللفظ، وإنما يحسنُ في مناسبة اجتماعهما بهذا المكان المخصوص، كما قال السُّهيليّ: اجتمع البحران بمجمع البحرين.
وقوله "هو أعلم منك" ظاهر في أنّ الخِضر نبيٌّ، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، ولهذا أورد الزَّمخشرِيُّ سؤالاً، وهو دلت حاجة موسى إلى التعليم من غيره، أنه موسى بن مِيشا، كما قيل، إذ النبيُّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وأجاب بأنه لا نقص بالنبيّ في أخذ العلم من نبي مثله. قيل: وفي الجواب نظر؛ لأنه يستلزم نفي ما أُوجب، والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص، لقوله بعد هذا "إني على علمٍ من علم الله عَلْمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علَّمَكَه الله لا أعلمه" والمراد يكون النبي أعلم أهل زمانه، أي: ممن أرسل إليه، ولم يكن موسى مرسلًا إلى الخضر، وإذًا فلا نقص به إذا كان الخضر أعلم منه، إن قلنا إنه نبيُّ مرسل، أو أعلم منه في أمر مخصوص إن قلنا إنه نبيٌّ أو وَلِيٌّ وينحل بهذا التقرير إشكالات كثيرة.
ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخِضر قوله {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] وينبغي اعتقاد كونه نبيًا لئلا تتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي، حاشا وكلا. وتعقب ابن المنير على ابن بطّال إيراده في هذا الموضع كثيراً من أقوال السلف في التحذير من الدعوى في العلم، والحث على قول العالم "لا أدري"، بأن سياق مثل ذلك في هذا الموضع غير لائق. وهو كما قال رحمه الله تعالى. قال: وليس قول موسى عليه السلام "أنا أعلم" كقول آحاد الناس مثل ذلك، ولا نتيجة قوله كنتيجة قولهم، فإن نتيجة قولهم العجب والكبر، ونتيجة قوله المزيد من العلم، والحث على التواضع، والحرص على طلب العلم. واستدلاله به أيضاً على أنه لا يجوز الاعتراض بالعقل على الشرع خطأٌ؛ لأن موسى إنما اعترض بظاهر الشرع لا بالعقل المجرد، ففيه حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما لا يسوغ فيه، ولو كان مستقيمًا في باطن الأمر.
وقوله "قال ربِّ" بحذف أداة النداء وياء المتكلم، تخفيفًا جتزاءًا بالكسرة، وفي رواية "يارب". وقوله "وكيف لي به" أي: كيف السبيل إلى
لقائه؟ وقوله "في مِكتَلِ" بكسر الميم. وفتح المثناة الفوقية، شِبْه الزِّنْبيل، يسع خمسة عشر صاعًا. وقوله "فهو ثمَّ" بفتح المثلثة، ظرف بمعنى هناك، أي العبد الأعلم منك هناك. وقوله، "وانطلق بفتاه يوُشَع بن نونٍ" يوشع مجرور بالفتحة، عطف بيان لفتاه، غير منصرف للعلمية والعجمة، ونوِن مجرور بالإضافة، منصرف كنوحٍ ولوطٍ على الفصحى، وفي رواية أبي ذرٍ "وانطلق معه فتاه" فصرح بالمعية للتأكيد وإلا فالمصاحبة مستفادة من قوله في {لِفَتَاهُ} [الكهف: 62].
ويوشع هو الذي قام في بني إسرائيل بعد موت موسى ونقل ابن العربيّ أنه كان ابن أخت موسى، وعلى القول الذي نقله نوف بن فضالة من أن موسى صاحب هذه القصة ليس هو ابن عمران فلا يكون فتاه يوشع بن نون، وأمّا ما رواه الطَّبري عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكرٍ من حين لقي الخضر، فقال ابن عباس: إن الفتى شَرِب من الماء الذي شرب منه الحوت فَخَلَدَ، فأخذه العالم، فطابق به بين لوحين، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة. وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه قال أبو نصر القُشَيْرِيّ: إن ثبت هذا فليس هو يوشع، فإن إسناده ضعيف. وقد مر في الحديث السابق ما قاله ابن العربيّ من أن الفتى ليس هو يوشع، وما اعترض به عليه.
وقوله: "فانسلَّ الحوت من المِكتل" أي لأنه أصابه من ماء عين الحياة الكائنة في أصل الصخرة شيء، إذ أصابتها مقتضيةٌ للحياة، لما عند المؤلف في رواية. وقوله {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] أي مذهباً ومسلكًا يَسْرُب فيه، ومنه {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] أي: سألك في سِرْبه، أي: مذهبه، ومنه أصبح فلان آمنًا في سِرْبه، ومنه انْسرب فلانٌ، إذا مضى، وزاد في سورة الكهف: وأمسك الله عن الحوتِ جِرْيَة الماء فصار عليه مثل الطّاق.
وقوله "وكان لموسى وفتاه عجبًا" أي: كان إحياء الحوت المملوح،
وإمساك جرية الماء حتى صار مَسْلكًا. وقوله "فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما" وليلتهما بالجر على الإضافة، ويومهما بالنصب عطف على بقية. وفي مسلم كالمؤلف في التفسير "بقية يومهما وليلتهما" وهو الصواب، لقوله بعده "فلما أصبح" لأنه لا يصبح إلا عن ليل، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "فلما أصبح" أي: من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه.
وقوله "آتنا غداءنا" بفتح الغين مع المد، وهو الطعام يؤكل أول النهار. وقوله {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] أي نسيت ذكره بما رأيت، وأما قوله تعالى:{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] فقيل: نسب النسيان إليهما تغليبًا، والناسي هو الفتى، نسي أن يخبر موسى، كما جاء في رواية التفسير. وقيل: المراد أن الفتى نسي أن يخبر موسى بقصة الحوت، ونسي موسى أن يستخبره عن شأن الحوت بعد أن استيقظ؛ لأنه حينئذ لم يكن معه، وكان بصدد أن يسأله أين هو، فنسي ذلك.
وقيل: المراد بقوله {نَسِيَا} [الكهف: 61] أخرَّا، مأخوذ من النِّسْي بكسر النون، وهو التأخير، والمعنى أنهما أخرا افتقاده لعدم الاحتياج إليه، فلما احتاجا إليه ذكراه، وهو بعيد، بل صريح الآية يدل على صحة صريح الخبر، وأن الفتى اطلع على ما جرى للحوت، ونسي أن يخبر موسى بذلك. وعند مسلم أن موسى تقدم فتاه لما استيقظ فسار، فقال فتاه: ألا ألْحَقُ نبَيَّ الله فاخبره. قال: فنسي أن يخبره، وذكر ابن عطية أنه رأى سمكةً أحد جانبيها شوك وعظم وجلد رقيق على أحشائها، ونصفها الثاني صحيح، ويذكر أهل ذلك المكان أنها من نَسْل حوت موسى إشارة إلى أنه لما حَيَّ بعد أن أكل منه، استمرت فيه تلك الصفة، ثم في نسله.
وقوله {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي يتبعان آثارهما اتِّباعًا، وهذا يدل على أن الفتى لم يخبر موسى حتى سارا زمانًا، إذ لو أخبره أول ما استيقظ، ما احتاجا إلى اقتصاص آثارهما، وقوله "إذا رجل مسجىً"، أو قال "تسجَّى بثوب" رجل مبتدأ، سوغ الابتداء به
تخصيصه بالصفة، ومسجَّى مغطّى. وفي رواية التفسير"على طِنْفِسَة خضراء على كبد البحر" والطنفسة بكسر أوله وثالثه، وبضمهما، وبكسر الأول وفتح الثالث، وهي فراش صغير. وفي هذه الرواية مسجّى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه وعند مسلم "مسجّى ثوبًا مستلقيًا على قفاه" ولعبد بن حميد "فوجده نائمًا في جزيرة من جزائر البحر ملتفًا بكساء" ولابن أبي حاتم عن السَّدِّيّ "فرأى الخضر وعليه جُبَّة من صوف وكساء من صوف ومعه عصا قد ألقى عليها طعامه".
وقوله "فسلم موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ أي كيف بأرضك السلام، ويؤيده ما في التفسير "هل بأرضي من سلام" أو بمعنى "من أين" كقوله تعالى {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. والمعنى من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها؟ وكأنها كانت أرض كفْر، أو كانت تحيتهم بغير السلام. وعند مسلم "فكشف الثوب عن وجهه، وقال وعليكم السلام". ويجمع بين الروايتين بأنه استفهمه بعد أن رد عليه السلام.
وقوله "فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم" أي أنا موسى بني إسرائيل، فهو مقول القول ناب عن الجملة، وهذا يدل على أن الأنبياء ومن دونهم، لا يعلمون من الغيب، إلا ما علمهم الله تعالى لأن الخضر لو كان يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله.
وقوله {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] قد مر أنه قرىء بالتحريك، وبضم ثم سكون، وهما بمعنى كالبُخْل والبَخَل، وقيل بفتحتين: الدّين، وبالسكون: صلاخ المنظر. وقوله "إنك لن تستطيع معي صبرًا" أي لأني أفعل أمورًا ظاهرها مناكير، وباطنها حق لم تحط به. وقد عبر بالصيغة الدالة على استمرار النفي لما أطلعه الله تعالى عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار، إذا رأى ما يخالف الشرع؛ لأن ذلك شأن
عصمته، ولذلك لم يسال موسى عن شيء من أمور الديانة، بل مشى معه ليشاهد منه ما اطلع به على منزلته في العلم الذي اختص به.
"وكيف تصبر"؟ استفهام عن سؤال تقديره: لِمَ قلتَ إني لا أصبر وأنا سأصبر؟ وقوله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قيل: استثنى في الصبر، فصبر، ولم يستثن في العصيان فعصاه، وفيه نظر. وكان المراد أنه صبر على اتباعه والمشي معه لا الإنكار عليه فيما يخالف ظاهر الشرع. وقوله {فَانْطَلَقَا} [الكهف: 74]، يمشيان، أي موسى والخضر. ولم يذكر فتى موسى، وهو يوشع؛ لأنه تابع غير مقصود بالأصالة. وقوله "فكلموهم" ضم يوشع معهما في الكلام لأهل السفينة، لأن المقام يقتضي كلام التابع، وقوله "فحملوهما" يقال فيه، ما قيل في "يمشيان"، ويحتمل أن يكون يوشع لم يركب معهما، لأنه لم يقع له ذكر بعد ذلك، لكن في رواية "فعرف الخضر فحملوهم" وهو يقتضي الجزم بركوبه معهما في السفينة، وقد مر من شأنه ما رواه الطبريُّ عن ابن عباس، وهو لو صح نصٌّ في أنه لم يركب معهما.
وقوله "بغير نَوْل" بفتح النون وسكون الواو، أي: أجرة، ولابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس "فناداهم خضر وبين لهم أن يعطى عن كل واحد ضعف ما حملوا به غيرهم، فقالوا لصاحبهم: إنا نرى رجالًا في مكان مخوفٍ نخشى أن يكونوا لصوصًا، فقال: لأحملنَّهم، فإني أرى على وجوههم النور، فحملوهم بغير أجرة" وذكر النقاش أن أصحاب السفينة كانوا سبعةً بكل واحدٍ زمَانةٌ ليست في الآخر. وقوله "فجاء عُصفور" بضم أوله، وحكي فتحه، قيل: هو الصُّرَد، بضم المهملة وفتح الراء. وللخطيب: أنه الخطاف، قال الدَّمامِينيّ: سمي عصفورًا لأنه عصى وفرّ. وقوله "فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال له الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر".
وروى النَّسائي عن ابن عباس أن الخضر قال لموسى: أتدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: لا، قال يقول:"ما علْمكما الذي تعلمان في علم الله إلا مثل ما أنقصُ بمنقاري من جميع هذا البحر" وقد استشكل إطلاق النقص بالنسبة إلى علم الله تعالى، والجواب بأمور:
الأول: لفظ النقص ليس على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله نقص، فقيل معناه: لم يأخذ، وهذا توجيه حسن، ويكون التشبيه واقعًا على الأخذ لا على المأخوذ منه.
الثاني: وهو أحسن من الأول، أن المراد بالعلم المعلوم بدليل دخول حرف التبعيض؛ لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمة لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض.
قلت: الأول أحسن؛ لأنه لا يلزم عليه نقص في علم الله تعالى ولا في معلوماته، وهذا يلزم عليه ثبوت النقص في معلوماته تعالى، وحاشا أن يحصل نقص في معلوماته تعالى، فإن المعلومات متعلقات العلم الصفة القديمة، فلا يحصل فيها نقص إلا بحصوله في المتعلق به الذي هو العلم.
الثالث: قال الإسماعيلى: المراد أن نقص العُصفور لا ينقص البحر بهذا المعنى، وهو كما قيل:
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
…
بهن فلولٌ من قراع الكتائب
الرابع: قيل: "إلا" بمعنى "ولا" أي: ولا كنقرة هذا العصفور. وقال القُرْطبيّ: من أطلق اللفظ هنا تجوزًا قصدُه التمسك والتعظيم، إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته، وقد وقع في رواية ابن خُرَيج بلفظ أحسن سياقًا من هذا، وأبعد إشكالًا فقال:"ما علمي وعلمك في جنب علم الله كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر" وهو تفسير اللفظ الذي وقع هنا، قاله في "الفتح": قلت: لا يظهر أنّ هذا الوجه أحسن من غيره لأن فيه إضافة شيء، وإن كان حقيرًا إلى علم الله.
الخامس: ما قيل من أن هذا الطائر من الطيور التي تعلو مناقيرها بحيث لا يعلق بها ماء البتة. قلت: انظر ما بين التمثيل الصادر من المخلوق هنا، والصادر من الخالق فيما أخرجه مسلم في الحديث القُدُسيّ من قوله تعالى "لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا دخل البحر". فما في هذا الحديث الرباني هنا ظاهرٌ لا يوهم شيئًا في حقه تعالى يحتاج إلى توجيه، لان المخيط لا يأخذ من الماء شيئاً ما، والطير يأخذ شيئًا، وإن كان قليلًا جدًا.
وقوله "فعمد الخضر" بفتح الميم، كقصد زنة ومعنى، وقوله "فخرقتها لتغْرق أهلها" بضم المثناة الفوقية وكسر الراء، على الخطاب مضارع أغرق، أي لأن تغرق، وأهلها بالنصب على المفعولية، ولا ريب أن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها وفي رواية "ليَغْرق أهلُها" بفتح المثناة التحتية وفتح الراء، على الغيب مضارع غرق، وأهلها بالرفع على الفاعلية وقوله "لا تؤاخذني بما نسيتُ" أي بالذي نسيته، أو بنسياني، أو بشيء نسيته، يعني وصيته له بأن لا يعترض عليه، وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها زاد في رواية أبوَي ذَرٍّ والوقْت:"ولا ترهقني من أمري عُسراً" أي: لا تُغشني عسرًا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسيّ، فإن ذلك يُعْسِر عليّ متابعتك.
وقوله "فكانت الأُولى من موسى نسيانًا" وفي رواية التفسير "كانت الأولى نسيانًا والوسطى شرطًا والثالثة عمدًا" وروى ابن مرْدَويه عن ابن عباس مرفوعًا، قال: الأولى نسيانٌ والثانية عُذرٌ والثالثة فِراق. وروى الفراء عن أُبيّ بن كعب قال: لم ينس موسى، ولكنه من معاريض الكلام، وإسناده ضعيف. والأول هو المعتمد. ولو كان هذا ثابتًا لاعتذر موسى عن الضمانية وعن الثالثة بنحو ذلك.
وقوله "فانطلقا" أي: بعد خروجهما من السفينة، وقوله "فإذا غلام يلعب مع الغلمان" وغلام بالرفع مبتدأ لكونه تخصص بالصفة، والخبر محذوف، والغلام اسم للمولود إلى أن يبلغ، وكان الغلمان عشرة، وكان الغلام أظرفهم وأوضأهم واسم الغلام حَيْسُون بالحاء المهلمة آخره نون، أو حَيْسور بالراء بدل النون، وقيل بجيم أوله بدل الحاء، وقيل حَنْسُور بنون بدل التحتانية مع الراء، وعند السُّهيليّ بفتح الهاء المهملة، والموحدة، بعدهما نونان؛ أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة، وقيل: اسمه حَشْرَد وقيل شَمْعون. وعن الضَّحّاك: يعمل بالفساد، ويتأذّى منه أبواه وعن الكلبي: يسرق المتاع بالليل، فإذا أصبح لجأ إلى أبويه، فيقولان لقد بات عندنا، وفي رواية التفسير كان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا.
وفي رواية سفيان "وأما الغلام فطُبع يوم طُبع كافرًا، وكان أبواه قد عطفا عليه" وقيل: إن موسى لما قال للخضر: أقتلت نفسًا زكية، اقتلع الخضر كتف الصبي الأيسر وقشر عنه اللحم، فإذا في عظم كتفه كافر لا يؤمن بالله أبدًا. وعن وهب بن مُنبه كان اسم أبيه ملاس، واسم أمه رحما، وقيل اسم أبيه كاردى، واسم أمه سهوى.
وقوله "فأخذ الخضر برأسه من أعلاه. فاقتلع رأسه بيده"، وعنده في بدء الخلق "فأخذ الخضر برأسه فقطعه" هكذا، وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئًا، والفاء في "فاقتلع" للدلالة على أنه لما رآه اقتلع رأسه من غير ترو واستكشاف حالٍ. وعند المصنف في التفسير "فأَضجعه ثم ذبحه بالسكين"، ويجمع بينهما بأنه ذبحه ثم اقتلع رأسه. وفي رواية عند الطَّبريّ "فأخذ صخرة فثلغ رأسه"، وهي بمثلثة ثم معجمة، والأول أصح، ويمكن أن يكون ضرب رأسه بالصخرة، ثم ذبحه وقطع رأسه.
وقوله "فقال موسى أقتلت نفسًا زكيَّة بغير نفس" بتشديد الياء، أي طاهرة من الذنوب، وهي أبلغ من زاكية بالألف، وتخفيف الياء لأن فعيلة
من صيغ المبالغة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم استغفرت، ولذا اختار قراءة التخفيف، فإنها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم. وزعم قوم أنه كان بالغًا يعمل بالفساد، واحتجوا بقوله بغير نفس؛ لأن القصاص إنما يكون في حق البالغ، ولم يرها أذنبت ذنبًا يقتضي قتلها، أو قتلت نفسًا فتقاد بها. نبه به على أن القتل إنما يُباح حدًا أو قصاصًا، وكلا الأمرين منتف، وإنما أطلق موسى ذلك على حسب ظاهر حال الغلام.
والهمزة في "أقتلت" ليست للاستفهام الحقيقي، فهي كهي في قوله تعالى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] وكان قتل الغلام في "أبُلَّة" بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام المفتوحة بعدها هاء، مدينة قرب بصرة وعبادان. وقوله "قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا" بزيادة "لك" في هذه المرة، زيادة في المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الثبات والصبر، لمّا تكرر منه الاشمئزاز والاستكثار، ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستكثار ثاني مرة. وقوله: وقال ابن عُيينة: وهذا أوكد، واستدل عليه بزِيادة "لك" في المرة الثانية وقد قال له فيِ المرة الأولى:"لقد جئت شيئاً إمرًا" وقال له في الثانية: "لقد جئت شيئاً نكرًا" قال مجاهد: شيئًا إمرًا أي منكرًا، وقال قتادة: أي عجبًا. وقال أبو صخر: أي عظيمًا. وقال أبو عبيدة: إمرًا أي: داهية، ونكرًا أي عظيمًا.
واختلف في أيهما أبلغ، فقيل "إمرًا" أبلغ من "نكرًا" لأنه قالها بسبب الخرق الذي يفضي إلى هلاك عدة أنفس، وتلك بسبب نفس واحدة. وقيل " نكرًا" أبلغ، لكون الضرر فيها ناجزًا بخلاف "إمرًا" لكون الضرر فيها متوقعًا، ويؤيد ذلك أنه قال في "نكرا":"ألم أقل لك" ولم يقلها في "إمرًا" وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن موسى لما رأى خرق السفينة امتلأ غضبًا، وشد ثيابه، وقال: أردت إهلاكهم، ستعلم أنك أول هالك، فقال له يوشع: ألا تذكر العُهدة؟ فأقبل عليه الخضر فقال له: "ألم أقل
لك"، فادرك موسى الحِلْم، فقال: "لا تؤاخذني" وإن الخِضر لما خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير فحمدوا رأيه، وأصلحها الله على يده.
وقوله "فانطلقا حتى أتيا أهل قرية" وفي رواية غير أبي ذرٍ "حتى إذا أتيا" موافقة للتنزيل. والقرية: قيل هي الأبُلَّة، وقيل أنطاكية، وقيل هي أذربيجان، وقيل بَرْقَة، وقيل ناصرة، وقيل جزيرة الأندلس. وهذا الاختلاف كالاختلاف في المراد بمجمع البحرين، وشدة المباينة في ذلك تقتضي أن لا يوثق بشيء من ذلك. وقوله "استطعما أهلها فأبوا أن يضيِّفوهما" أي: استطعموهم واستضافوهم، فلم يضيفوهم، ولم يجدوا في تلك القرية قرى ولا مأوى، وكانت ليلة باردة. وعند مسلم "أهل قرية لئامًا، فطافا في المجالس فاستطعما أهلها".
وقوله "فوجدا فيها جدارًا" أي: على شاطئ الطريق، وكان سُمكه مئتي ذراع بذراع تلك القرية، وطوله على وجه الأرض خمس مئة وعرضه خمسون ذراعًا. هكذا قال القَسْطلانيّ، والذي في "الفتح" عن الثَّعلبّي: أن عرضه كان خمسين ذراعًا في مئة ذراع بذراعهم، وقوله "يريد أن ينقضَّ" استعيرت الإرادة للمشارفة، وإلا فالجدار لا إرادة له حقيقة. وكان أهل القرية يقرون تحته على خوف، وأن ينقض معتاه أن يقع. يقال: انقضَّت الدار، إذا انهدمت، وقرأه قوم ينقاضَّ أي ينقلع من أصله، كقولك انقاضت السّن إذا انقلعت من أصلها. وقراءة "ينقاض" مروية عن الزُّهْريّ، واختلف في ضادها، فقيل بالتشديد، بوزن يحمارّ، وهو أبلغ من ينقضّ. وينقضّ بوزن ينفعل من انقضاض الطائر إذا سقط إلى الأرض. وقيل بالتخفيف، وعن عليّ أنه قرأ ينقاص بالمهملة.
وقال ابن خالويه: يقولون: انقاصَّت السن، إذا انشقت طولًا، وقيل: إذا تصدعت كيف كان. وقال ابن فارس: قيل معناه كالذي بالمعجمة، وقيل الشق طولًا. وقال ابن دريد: انقاضّ بالمعجمة انكسر، وبالمهملة
انصدع. وقرأ الأعمش تبعًا لابن مسعود يريد ليُنْقَض بكسر اللام، وضم التحتانية، وفتح القاف، وتخفيف الضاد، من النقضْ. وقوله:" قال الخضر بيده" أي: أشار بها. وفي رواية قال: "فمسح بيده"، وفيه إطلاق القول على الفعل. وقوله "فأقامه" وقيل "نقضه وبناه" وقيل "بعمود عَمَّده به".
وقوله "قال موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا" اتخذت بهمزة وصل وتشديد التاء وفتح الخاء على وزن افتعلت، من تخذ كاتبع من تبع، واجس من الأخذ عند البصريين، يعني أن تاءها عندهم أصلية لا أنها مغايرة للأخذ معني. وفي رواية أبي ذرٍ والأصيليّ وابن عساكر:"لتَخذَت" أي: لأخذت. وقوله "عليه أجرًا" يعني: يكون لنا قوتًا، وبُلْغة على سفرنا. قال القاضي: كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه، لم يتمالك نفسه وزاد سفيان في روايته "فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرًا".
وقوله "قال هذا فراقُ بيني وبينك" بإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، والإشارة في قوله "هذا" إلى الفراق الموعود به في قوله "فلا تصاحبني" أو تكون الإشارة إلى السؤال الثالث، أي: هذا الاعتراض سبب للافتراق، أو إلى الوقت، أي هذا الوقت وقت الفراق. وفي رواية أبي إسحاق "قال هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدثني" وذكر الثعلبيُّ أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين ألقيت في البحر، وحين قتلت القُبْطيّ، وحين سقيت أغنام ابنتي شعيب احتسابًا؟ وفي رواية التفسير "وكان ورأءهم ملكٌ، وكان أمامهم"، قرأها ابن عباس "أمامهم ملك" قال أبو عبيدة في قوله "من ورائه جهنم" مجازه قدامه وأمامه، يقال: الموت من ورائك، أي قُدامك وهو اسم لكل ما توارى عن الشخص، نقله ثعلب ومنه قول الشاعر:
أليس ورائي إنْ تراختْ مَنِيَّتي
…
لزوم العصى تحنى عليها الأصابعُ
وقول النابغة:
وليس وراء الله للمرءِ مذهبُ
أي: بعد الله. ونقل قُطْربُ وغيره أنه من الأضداد، وأنكره إبراهيم بن عُرْفة نفطويه، وقال: لا يقع وراء بمعنى أمام، إلا في مكان أو زمان. وفيها أيضًا ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَد، وهو بضم الهاء، وحكى ابن الأثير فتحها، والدال مفتوحة اتفاقًا. ووقع عند ابن مَردويه بالميم بدل الهاء، وأبوه بدد بفتح الموحدة. وزعم ابن دريد أن هدد اسم ملك من ملوك حمير، زوَّجه سليمان بن داود بلقيس. قال في "الفتح": إن ثبت هذا حمل على التعدد والاشتراك في الاسم، لبعد ما بين مدة موسى وسليمان. وجاء في تفسير مقاتل أن اسمه منولة بن الجُلَنْدى بن سعيد الأَزْدِيّ، وقيل هو الجُلَنْدى، وكان بجزيرة الأندلس.
وفيها أيضًا "وأقرب رحمًا" هما به أرحم منهما، بالأول الذي قتل خِضر. وعن الأصمعي: الرَّحِم، بكسر الحاء: القرابة، وبسكونها فرج الأنثى، وبضم الراء ثم السكون: الرحمة. وعن أبي عبيد القاسم بن سَلام: الرَّحْم، بالضم والفتح مع السكون فيهما، بمعنى وهو مثل العمْر وتدعى مكة أمُّ رُحم بضم فسكون، وذلك لتنزل الرحمة بها. والحاصل أن رَحْمًا من الرَّحم التي هي القرابة، وهي أبلغ من الرحمة التي هي رقة القلب؛ لأنها تستلزمها غالبًا من غير عكس.
وفيها أيضًا، أنهما أبدلا جارية، وروى النَّسائي عن ابن عباس "فابدلهما ربهما خيرًا منه زكاة" قال: أبدلهما جارية، فولدت نبيًا من الأنبياء، ولابن المنذر: أبدلهما مكان الغلام جارية ولدت نبيين. ولابن أبي حاتم عن السَّدِّي قال: ولدت جارية فولدت نبيًا، وهو الذي كان بعد موسى، فقالوا له: أبعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، واسم هذا النبي شَمْعُون، واسم أمه حَنَّة. وفي تفسير ابن الكلْبِيّ: ولدت جارية ولدت عدة
أنبياء، فهدى الله بهم أمما، وقيل عدة من جاء من ولدها من الأنبياء سبعون نبيًا. وعن ابن مَرْدويه عن أبيِّ بن كعب أنها ولدت غلامًا، لكن إسناده ضعيف. وأخرجه ابن المُنذر بإسناد حسن عن ابن عباس نحوه. وقال ابن جُرَيج: بلغني أن أُمه يوم مات كانت حبلى بغلام.
وقوله "يرحم الله موسى لوَددنا لو صبر، حتى يقص علينا من أمرهما" يرحم إنشاء بلفظ الخبر، ولوددنا جواب لقسم مقدر، أي: والله لوددنا، وهو بكسر الدال الأولى وسكون الثانية. وقوله: لو صبر، مصدرية أي: صبره لأنه لو صبر لأبصر أعجب العجائب. وعند مسلم من رواية أبي إسحاق: رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عَجل لرأى العجب، ولكنه أخذته ذمامة من صاحبه، فقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني.
وقوله: "حتى يقصَّ علينا من أمرهما" يقص: مبني للمجهول، ومن أمرهما نائب له. وفي رواية سفيان في التفسير "وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما" بدون يرحم الله موسى، وهو راويها هنا في العلم، وفي أحاديث الأنبياء، فيحتمل أن تكون هذه الزيادة لم تكن عنده بإسناد قتيبة في التفسير، ولكنه أرسلها، ويحتمل أن يكون الراوي لها منه، سمع منه الحديث مرتين، مرة بإثباتها، ومرة بحذفها. وهو الأَوْلى. وأخرجه مسلم بلفظ "ولو صبر لرأى العجب، وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه: رحمة الله علينا، وعلى أخي كذا". وأخرجه التِّرْمذيّ والنَّسائيّ مختصرًا وأبو داود بلفظ "وكان إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: رحمة الله علينا وعلى موسى".
وقد ترجم المصنف في الدعوات من خص أخاه بالدعاء دون نفسه، وذكرِ فيه عدة أحاديث، وكأنه أشار إلى أن هذه الزيادة، وهي "كان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه" لم تثبت عنده.
قال القُرْطبي: في قصة موسى والخضر من الفوائد أن الله يفعل في
ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضى والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصرٌ، فلا يتوجه على حكمه كم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين ولا حيث، وإن العقل لا يُحسِّن ولا يقبِّح وإن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح، وإن لله تعالى فيما يقضيه حكمًا وأسرارًا في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه، ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه، ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف، فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة.
قال ولننبه هنا على مغلطتين:
الأولى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى، تمسكًا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة، وسماع كلامه وإعطائه التَّوراة، فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى عليه السلام. وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] قال: والخضر، وإن كان نبيًا، فليس برسول اتفاقًا، والرسول أفضل من نبي ليس برسول. قلت: هذا الاتفاق غير صحيح، فالخضر قيل: إنه رسول، وقد مر لك ذلك عند قوله "أعلم منك"، ثم قال: ولو تنزلنا على أنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمته أكثر، فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبيّ، بل وليّ، فالنبيُّ أفضل من الولي، وهوأمرمقطوع به عقلًا ونقلًا، والصائر إلى خلافه كافر؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانًا لموسى، حتى ليعتبر.
الثانية: ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريق نستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواصّ، فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى. ويؤيده الحديث المشهور "استفت نفسك وإنْ أفْتَوك". قال: وهذا القول زندقة وكفر؛ لأنه إنكار لما علم من الشرائع. فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله، السفراء بينه وبين خلقه، المثبتين لشرائعه وأحكامه، كما قال تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] وقال {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به، فإن فيه الهدى.
وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقًا أُخرى يعرف بها أمره ونهيه، غير الطريق التي جاءت بها الرسل، يستغني بها عن الرسول، فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة غير نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه؛ لأن الذي يقع فيه هو حكم الله، وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، كما قال نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم:"إن رُوح القُدُس نَفَث في رَوْعي"، قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي من ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق.