الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع عشر
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ".
قوله: "إذا شرب أحدكم" أي: ماء أو غيره، لأن حذف المفعول يؤذن بالعموم.
وقوله: "فلا يتنفّس في الإناء" بالجزم في الثلاثة على أن لا ناهية، ورُوي بالضم فيها على أنها نافية.
وقوله: "في الإناء" أي: داخله، والنهي للتأديب لإِرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع التنفس بصاق أو مخاط أو بخار رديء فيكسبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه.
والسنة أن يبين الإناء عن فمه، ويتنفس خارجه ثلاثًا، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، ويقول:"هو أروى وأمرأ وأبرأ"، وفي رواية "أهنأ" بدل:"أروى". و"أروى": هو من الرِّي بكسر الراء غير مهموز، أي: أكثر رِيًّا، ويجوز أن يُهمز للمشاكلة. "وأمرأ" بالهمز من المراءة، يقال: مرَأ الطعام يَمْرأ بفتح الراء فيهما، أي: صار مرئيًا. و"أبرأ" بالهمز من البراءة أو من البُرْء، أي يُبرىء من الأذى والعطش. و"أهنأ" بالهمز من الهناء، والمعنى أنه يصير هنيئًا مريئًا بريئًا، أي: سالمًا أو مبرئًا من مرض أو عطش أو أذى.
ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقل أثرًا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة، واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلًا في الفضل المذكور.
ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه، وهذا قول مالك. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما نُهي عن التنفس داخل الإناء، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد وهو تفصيل حسن.
وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد عن أبي قتادة مرفوعًا أخرجه الحاكم، ويمكن حمله على التفصيل المذكور، قال المهلب: النهي عن التنفس في الشراب كالنهي عن النفخ في الطعام والشراب، من أجل أنه قد يقع فيه شيء من الريق، فيعافه الشارب ويتقذره إذ كان التقذر في مثل ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس، ومحل هذا إذا أكل أو شرب مع غيره، وأمّا لو أكل وحده أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيئًا مما يتناوله فلا بأس.
قال في "الفتح": الأولى تعميم المنع، لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك.
قلت: ما قاله المهلب أولى وأوجه، لأن الاستقذار إنما يحصل ويُحذر منه حالة الأكل، فإذا أُمن منه حالة الأكل فالاطلاع عليه بعد الأكل بعيد، لأن ما يحصل من التنفس قليل جدًّا لا يظهر له تأثير.
وفي هذا ردٌّ أيضًا على قول ابن العربي: هو من مكارم الأخلاق. ولكن يحرم على الرجل أن يُناول أخاه ما يتقذره، فإن فعله في خاصة نفسه فجاء غيره فناوله إياه فليعلمه، فإن لم يعلمه فهو غشٌّ، والغشُّ حرام.
والعجب منه حيث قال: إن عدم إعلامه بما تنفس فيه حرام، فكيف يكون حرامًا؟ وأي وجه لحرمته؟ فإن البصاق طاهر إجماعًا، فإذا تسبب في أكله لشيء طاهر لم يظهر له فيه استقذار كيف يكون حرامًا؟ ولو كان ظهر له فيه قذر ما أكله،
بل لو أكرهه على كله لم تكن فيه حرمة. وكيف يلتئم التحريم مع قوله: إن التنفس خارج الإناء من مكارم الأخلاق؟ فتأمل.
وقال القُرطبي: معنى النهي عن التنفس في الإناء لئلا يتقذر به من بزاق أو رائحة كريهة تتعلق بالماء، وعلى هذا إذا لم يتنفس يجوز له الشرب بنفس واحد، وقيل: يُمنع مطلقًا، لأنه شرب الشيطان. قال: وقول أنس: "كان يتنفس في الشرب ثلاثًا" قد جعله بعضهم معارضًا للنهي، وحُمل على بيان الجواز، ومنهم من أومأ إلى أنه من خصائصه، لأنه كان لا يُتقذر منه شيء.
وأخرج الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله تعالى، فإذا أخره حمد الله تعالى، يفعل ذلك ثلاثًا". وأصله في ابن ماجه، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند البزّار والطبراني.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس "سمّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم" وهذا يحتمل أن يكون شاهدًا لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط.
وأخرج الترمذي وصححه والحاكم عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب. فقال رجل: القذاة أراها في الإناء. قال: "أهرقها". قال: فإني لا أروَى من نفس واحد. قال: فأَبِنِ القدح إذا عنَّ فيك".
ولابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإِناء، فإذا أراد أن يعودَ فليُنَحِّ الإِناء ثم ليعُد إن كان يريد".
قال الأثرم: واختلاف الرواية في هذا قال على الجواز، وعلى اختيار الثلاث، والمراد بالنهي عن التنفس في الإناء أن لا يجعل نفسه داخل الإِناء، وليس المراد أن يتنفس خارجه طلب الراحة.
وقوله: "وإذا أتى الخلاء" أي: فبال كما فسرته الرواية الآتية.
وقوله: "فلا يمسَّ ذكره بيمينه" أي: حالة البول، والفاء في فلا جواب الشرط، كهي في السابقة، ويجوز في سين يمس الفتح لخفته، والكسر على الأصل في تحريك الساكن، وفك الإِدغام، وإنما لم يظهر الجزم فيها للإِدغام، فإذا زال ظهر.
وقوله: "ولا يتمسّحُ بيمينه" أي: تشريفًا لها عن مماسة ما فيه أذى أو مباشرته، وربما يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرته يمينه من الأذى، فينفر طبعه عن تناوله، وقد مر في الترجمة ما قيل في المراد بالنهي.
وقد أورد الخطابي هنا بحثًا، وهو أن المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي. وأجاب عنه بأنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة، كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة، فيستجمر بها بيساره، فلا يكون متصرفًا في شيء من ذلك بيمينه.
وهذه هيئة منكرة، بل يتعذر فعلها في غالب الأوقات، وتعقبه الطيبي بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر، فبطل ألا يراد من أصله كذا.
قال: وما ادّعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصًّا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسًا، والتنصيص على الذَّكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خُص، والصواب ما قاله إمام الحرمين ومَن بعده كالغزالي والبغوي، أنه يُمِرَّ العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه، وهي قارّة غيرمتحركة، فلا يعدُّ مستجمرًا باليمين، ولا ماسًا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرًا فقد غلط، وإنما هو كمن صب الماء بيمينه على يساره حال الاستنجاء، ومحصله أنه لا يجعل يمينه محركة للذكر ولا للحجر، ولا يستعين بها إلا لضرورة، كما إذا استنجى بالماء أو بحجر لا يقدر على الاستنجاء به إلا بمسكه بها.