الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والخمسون
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ -أَوِ الْفِيلَ شَكَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَاّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "اكْتُبُوا لأَبِى فُلَانٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلَاّ الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِلَاّ الإِذْخِرَ، إِلَاّ الإِذْخِرَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ. فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.
قوله: إن خُزاعة أي القبيلة المشهورة، وهم بنو كعب بن عمرو ابن لُحيّ، بضم اللام مصغر، قيل: إن أصلهم من سبأ، قال ابن الكلبيّ: لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، نزل بنو مازن على ماء يقال له غسان، فمن أقام منهم فهو غسانيّ، وانخزعت منهم بنو عمرو بن لُحىِّ عن قومهم، فنزلوا مكة وما حولها، فسُموا خزاعة، وتفرقت سائر الأَزْد وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
ولما نزلنا بطنَ مُرّ تخزعتْ
…
خُزاعة عنا في جُموعٍ كراكرٍ
وفي الحديث أن عمرو بن لُحَيّ أبا خزاعة، هو ابن قَمَعة بفتح القاف
والميم، أو بكسر القاف وفتح الميم مشددة، ابن خِنْدَف، بكسر الخاء وسكون النون، وفتح الدال، وهي امرأة إلياس بن مُضر، واسمها ليلى بنت حُلْوان بن عِمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها، والخَنْدفَة الهرولة، واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم، لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزنًا شديدًا، بحيث هجرت أهلها ودارها، وساحت في الأرض حتى ماتت، فكان من رأى أولادها الصغار يقول: من هؤلاء؟ فيقال: بنو خندف، إشارة إلى أنها ضيعتهم، فعلى هذا، فخزاعة من مُضَر، وهو الصحيح وجمع بعضهم بين القولين -أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر- فزُعم أن حارثة بن عمرو بن عامر بن ماء السماء جد عمرو بن لحُيّ، لما مات قمعة بن خندف، كانت امرأته حاملًا بلُحَيّ، فولدته وهي عند حارثة، فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة، ومن اليمن بالتبني.
وقال ابن الكلبيّ: إن سبب قيام عمرو بن لحيّ بأمر الكعبة ومكة أن أمه فُهَيْرة بنت عمرو بن الحارث بن مُضاض الجُرْهُمِيّ، وكان أبوها آخر من ولي أمر مكة من جُرْهُم، فقام بأمر البيت سبطه عمرو بن لُحِيّ، فصار ذلك في خزاعة بعد جرهم، ووقع بينهم في ذلك حرب إلى أن انجلت جُرْهم عن مكة، ثم تولت خُزاعة أمر البيت ثلاث مئة سنة، إلى أن كان آخرهم يدعى أبا غبشان، بضم المعجمة وسكون الموحدة، وهو خال قُصَيّ بن كلاب، أخو أمه حُبّى بضم الحاء المهملة، وتشديد الموحدة مع الإِمالة، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي، فاشترى منه أمر البيت بأذواد من الإِبل، ويقال بزقَّ خمر، فغلب حينئذٍ على أمر البيت، وجمع بطون بني فهر، وحارب خزاعة حتى أخرجهم من مكة، وفيه يقول الشاعر:
أبوكم قُصَيُّ كان يدعى مُجمِّعًا
…
به جمّع الله القبائل من فِهْرِ
وقوله "إن خزاعة" المراد به واحد منهم، فأطلق عليه اسم القبيلة مجازًا، وقوله "قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة. بقتيل منهم قتلوه" وفي رواية "ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هُذَيل، وإني عاقله" وبنو ليث
قبيلة كبيرة ينسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة، وهُذَيل قبيلة كبيرة أيضًا، ينسبون إلى هُذيل، وهم بنو مُدْرِكه بن إلياس، وكان بين خزاعة وبين بني بكر في الجاهلية عداوة ظاهرة، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بنو بكر حلفاء قريش واسم الرجل القاتل منِ خزاعة خراش بن أُميّة، والمقتول منهم في الجاهلية اسمه أُحْمَر وقيل مُنَبِّه وذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جُنْدب بن الأدلَع وفي مغازي ابن إسحاق أنه الذي قتله حِراش بن أمية -الغدَ من الفتح- ابن الأَثْوَع الهُذَليّ، فلعله كان هذليًا حالف بني ليث أو بالعكس، ولعل الأثوع تغيير من الأدلع، وفي فوائد أبي علي أن الخُزَاعيَّ القاتل هلالُ بن أُميّة فإن ثبت، فلعل هلالًا لَقبُ خِراشٍ.
وقوله "إن الله حبس عن مكة القتل" أي منعه منها، وهو بالقاف والمثناة من فوق، وقوله "أو الفيل" أي بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانية، والمراد بحبس الفيل، أهل الفيل، وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة، ومعهم الفيل، فمنعها الله منهم، وسلط عليهم الطير الأبابيل، كما في القرآن، مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارًا، فحرمة أهلها بعد الإِسلام آكد، لكن غزو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخصوص به على ظاهر هذا الحديث. وقد استوفينا جميع مباحثه في حديث أبي شُريح في باب "ليبلغ الشاهد الغائب" ما عدا قوله "ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد" إلى آخره.
وقوله كذا، قال أبو نعيم، أراد البخاريّ إن الشك من شيخه، وإن غيره يقول الفيل بالفاء بلا شك، والمراد بالغير من رواه عن شيبان رفيقًا لأبي نعيم، وهو عبيد الله بن موسى، ومن رواه عن يحيى رفيقًا لشيبان، وهو حرب بن شداد كما يأتي في الديات وقوله:"وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون" بضم سين سلط، مبنيُّ للمجهول، ورسول نائبه، والمؤمنون معطوف عليه وقوله "ولا تحل لأحد بعدي" للكشْمَيْهنيّ "ولم تحل"، وللمصنف في اللقُّطة "ولن تحل" وهي أليق بالمستقبل، وقوله "لا يختلى"
بالخاء المعجمة، أي لا يُحْصد يقال: اختليته: إذا قطعته، ومر ما في قطع الشوك من الخلاف في الحديث السابق.
وقوله "إلا لمنشد" أي مُعَرِّف، وأما الطالب، فيقال له الناشد، يقال: نشدت الضّالة: إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرَّفتها، وأصل الإِنشاد والنشيد رفع الصوت، والمعنى لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يُعَرفها فقط، فأما من أراد أن يعرِّفها ثم يتملكها، فلا.
واستدل بالحديث على أن لُقطة مكة لا تلتقط للتمليك، بل للتعريف خاصة، وإنما اختصت بذلك عندهم لإِمكان إيصالها إلى ربها، لأنها إن كانت للمكيّ فظاهر، وإن كانت للآفاقيّ فلا يخلو أفق غالبًا من وارد إليها، فإذا عرّفها واجدها في كل سنة سهل التوصل إلى معرفة صاحبها. قاله ابن بطّال. وقال أكثر المالكية وبعض الشافعية: هي كغيرها من البلاد، وإنما تختص مكة بالمبالغة في التعريف، لأن الحاج يرجع إلى بلده وقد لا يعود، فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف، واحتج ابن المنير لمذهبه بظاهر الاستثناء، لأنه نفى الحل واستثنى المنشد، فدل على أن الحل ثابت للمنشد، لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال: ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء، والقياس يقتضي تخصيصها. والجواب أن التخصيص إذا وافق الغالب لم يكن له مفهوم، والغالب أن لقطة مكة ييأس ملتقطها من صاحبها، وصاحبها من وجدانها، لتفرق الخَلْق إلى الآفاق البعيدة، فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة، فلا يعرّفها، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر أن لا يأخذها إلا من يُعَرِّفها. وفارقت في ذلك لقطة العَسْكر ببلاد الحرب بعد تفرقهم، فإنها لا تعرف في غيرهم باتفاق، بخلاف لقطة مكة، فيشرع تعريفها، لإِمكان عود أهل أُفق صاحب اللقطة إلى مكة، فيحصل التوصل إلى معرفة صاحبها.
وقال إسحاق بن راهْوَيه: قوله "إلا لمنشد" أي لمن سمع ناشدًا يقول: من رأى لي كذا، فحينئذ يجوز لواجد اللقطة أن يعرفها ليردها على
صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور، لأنه قيدها بحالة للمعرف دون حالة. وقيل: المراد بالمنشد الطالب، حكاه أبو عُبَيْد، وتُعُقِّب بأنه وإن ورد في اللغة، كما حكاه الحربيّ أيضًا وعياض، لا يصح أن يفسر به الحديث هنا. ويكفي في رد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس "لا يلتقط لقطتها إلا مُعَرِّف" والحديث يفسر بعضه بعضًا. واستدل به أيضًا على أن لقطة عَرَفة والمدينة النبوية كسائر البلاد، لاختصاص مكة بذلك.
وحكى الماوَرْديّ في "الحاوي" وجهًا في عرفة أنها تلتحق بحكم مكة، لأنها تجمع الحاج كمكة، ولم يرجح شيئًا، وليس الوجه المذكور في الروضة ولا في أصلها. واستدل به على تعريف الضالة في المسجد الحرام، بخلاف غيره من المساجد، وهو أصح الوجهين عند الشافعية، قاله في الفتح، ولم أفهم وجه الاستدلال من الحديث، والحكم عندنا معاشر المالكية الكراهة مطلقًا.
وقوله: "ومن قتل فهو بخير النظرين" كذا وقع هنا، وفيه حذف وقع بيانه عند المصنف في الديات عن أبي نعيم بهذا الإِسناد "فمن قتل له قتيل" ولا يمكن حمله على ظاهره لأن المقتول لا اختيار له، وإنما الاختيار لوليه، وما قاله العَيْنيُّ من أن هذا التقدير يلزم منه حذف الفاعل خطأٌ صُراح، لأن التقدير هو لفظ الحديث في نفس هذه الرواية، فلا يمكن حمل الحديث على سواه، والتقدير الذي قدره هو مع مخالفته لرواية الحديث ركيكٌ جدًا لا يلتفت إليه. وقوله في رواية الديات:"قتل له قتيل" معناه من قتل له قريب، كان حيًا فصار قتيلًا بذلك القتل، والباء في "بخير النظرين"، متعلق بمحذوف تقديره فهو مرضى بخير النظرين أو عامل أو مأمور وخير النظرين أفضلهما، ثم فسر خير النظرين بقوله: إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، أي: إما أن يعطي القاتلُ، أو أولياؤه لأولياء المقتول العَقْل، أي الدية، وإما أن يقاد أي يمكن أهل القتيل من القتل، يقال: أَقَدْتُّ القاتل بالمقتولِ: اقْتَصَصْتُه منه، فالنائب عن الفاعل ضمير
يعود على المقتول المفهوم من قوله سابقًا "فمن قتل" أي: يؤخذ له القود، فالفعلان مبنيان للمجهول، أو يكون "أهل" نائب على جعل "يقاد" بمعنى "يمكن"، وهمزة إما التفصيلية مكسورة، وأن المصدرية مفتوحة. وفي رواية لمسلم "إما أن يفادي" بالفاء وزيادة ياء بعد الدال.
والصواب أن الرواية على وجهين، من قالها بالقاف قال قبلها: إما أن يُعقل من العَقْل وهو الدية. ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها: إما أن يُقْتَل بالقاف والمثناة، والحاصل في تفسير "النظرين" بالقصاص أو الدية. وفي الحديث أن ولي الدم يخير بين القصاص والدية. واختلف إذا اختار الدية، هل يجب على القاتل إجابته، فذهب الأكثر إلى ذلك. وعن مالك وأبي حنيفة والثَّوْريّ: لا يجب إلا برضى القاتل.
واستدل الجمهور بأن ظاهر هذا الحديث أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الوَليّ وقرره الخطابيّ بأن العفو في الآية في قوله تعالى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] إلخ يحتاج إلى بيان، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عُفِي عنه من القصاص إلى الدية، فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف، وهو المطالبة، وعلى القاتل الأداء، وهو دفع الدية بإحسان.
وقد فسر ابن عباس العفو بقبول الدية في العمد، وقبول الدية راجع إلى الأولياء الذين لهم طلب القصاص، وقالوا: إنما لزمت القاتل الدية بغير رضاه، لأنه مأمور بإحياء نفسه، لعموم قوله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإذا رضي أولياء المقتول بأخذ الدية لم يكن للقاتل أن يمتنع. واستدل مالك ومن وافقه بأن قوله تعالى {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن في بني إسرائيل، بل كان القصاص متحتمًا، وشريعة عيسى لم يكن فيها قصاص، وإنما كانت فيها الدية خاصة، فخفف الله عن هذه الأمة بمشروعية أخذ الدية إذا رضي أولياء المقتول والقاتل، وليس في شيء من الأدلة ما يدل على إكراه القاتل على
بذل الدية، فامتازت شريعة الإِسلام بأنها جمعت بين الأمرين فكانت وُسْطى لا إفراط ولا تفريط.
واحتجوا أيضًا بحديث أنس في قصة قتل الربيع عمه، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"كتاب الله القصاص"، فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله "فهو بخير النظرين" أي: ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية. وتُعُقِّبَ بأن قوله عليه الصلاة والسلام "كتاب الله القصاص" إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القودُ، فاعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه، وليس فيه ما ادُّعي من تأخير البيان.
واحتج الطحاويّ بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل: رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك، إن القاتل لا يجبر على ذلك، ولا يؤخذ منه كرْهًا، وإن كان يجب أن يحقن دم نفسه، قلت: قد يختار أن يقتص منه ليكون ذلك كفّارة، ويكون غير معتقد أنَّ الدية برضى الأولياء مكفرة للذنب، فلا يجب عليه حينئذ حقن دمه، وقال المهلب وغيره: يستفاد من قوله "فهو بخير النظرين" أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك، وإن شاء اقتص، وعلى الوالي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد، ولو كان غيلة، وهو أن يخدع شخصًا حتى يصير به إلى موضع خفي، أو يجده فيه فيقتله، خلافًا للمالكية، فألحقه مالك بالمحارب، فإن الأمر فيه إلى السلطان، وليس للأولياء العفو عنه. وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل. إذا رآه الإِمام، وإن "أو" في الآية للتخيير لا للتنويع.
وقوله "فجاء رجلٌ من أهل اليمن، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: اكتبوا لأبي فلان" أبو فلان هو أبو شاهٍ، بهاء منونة، اليمانيُّ، جاء مسمى في اللقطة، ويأتي تعريفه في آخر الكلام على سند هذا الحديث، وفي اللقطة زيادة عن الوليد بن مسلم "قلت للأوزاعي، ما قوله: اكتبوا لي" قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة.
وقوله: "فقال رجل من قريش إلا الإِذْخِر" الرجل هو العباس بن عبد المطلب كما جاء مسمى في اللقطة، وقد جاء معرفا في الثالث والستين من الوضوء. وقوله إلا الإِذخر هو بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين، نبت معروف عند أهل مكة، طيب الريح، له أصل مندفن وقضبان دقاق، ينبت في السهل والحزْن، وبالمغرب صنف منه، والذي بمكة أجوده. ويجوز فيه الرفع والنصب. أما الرفع فعلى البدل مما قبله، وأما النصب فلكونه استثناءً واقعًا بعد النفي. وقال ابن مالك: المختار النصب، لكون الاستثناء وقع متراخيًا عن المستثنى منه، فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء، أيضًا، عرض في آخر الكلام، ولم يكن مقصودًا، وللأصيلي "إلا الإِذْخِر" مرتين، والثانية على سبيل التأكيد.
وقوله: "فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا" وفي رواية المغازي فإنه لابد منه للقين والبيوت" وفي رواية في اللقطة "فإنه لصاغتنا وقبورنا" وفي مرسل مجاهد عند عمر بن شَبَّة الجمع بين الثلاثة. ووقع عنده، أيضًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإِذْخِر، لقينهم وبيوتهم، وكان أهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب، ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور، ويستعملونه بدلًا من الحلفاء في الوقود، ولعل فائدته للصاغة هو أنهم يجلون به الذهب والفضة، لقول الأنطاكيّ في تذكرته: "فإنه جلاء"، ولم أر في شروح البخاري ذكرًا لما تستعمله
الصاغة له، والقَيْن، بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون، الحَدَّاد. وقال الطبريّ: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجه بنفسه.
وهذه الروايات تدل على أن الاستثناء في حديث الباب، لم يرد به أن يستثني هو وإنما أراد أن يلقن النبي، صلى الله عليه وسلم الإستثناء، وقوله عليه الصلاة والسلام في جوابه "إلا الإذْخِر" هو استثناء بعض من كل، لدخول الإدْخِر في عموم ما يُختْلَي، واستدل به على جواز النسخ قبل الفعل، وليس بواضح، وعلى جواز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتصال إما لفظًا وإما حكمًا، لجواز الفصل بالتنفس مثلًا. وقد اشتهر عن ابن عباس الجواز مطلقًا، ويمكن أن يحتج له بظاهر هذه القصة. وأجابوا عن ذلك بأن هذا الاستثناء في حكم المتصل، لاحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول "إلا الإذخِر" فشغله العباس بكلامه، فوصل كلامه بكلام نفسه، فقال إلا "الإذْخِر" وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء متصلًا بالمستثنى منه. واختلفوا هل كان قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "إلا الإذْخِر" باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كأنّ الله فَوَض له الحكم في هذه المسألة مطلقًا. وقيل: أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فأجب سؤاله.
وقال الطبري: ساغ للعباس أن يستثنى الإذْخِر لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة، تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء، فإنه من تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذْخِر، وهذا مبنى على أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم بل تقريره، صلى الله تعالى عليه وسلم، للعباس على ذلك دليلٌ على جواز تخصيص العام. وقد مر قريبًا أن العباس لم يرد الاستثناء، وإنما أراد تلقينه عليه الصلاة والسلام، وقال ابن بَطّال عن المُهَلَّب: إن الاستثناء هنا للضرورة، كتحليل أكل الميتة عند الضرورة. وقد بين العباس ذلك بأن الإذْخِر لا غنى لأهل مكة عنه.