الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والستون
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا فَمَا حَدَّثَتْكَ فِى الْكَعْبَةِ؟ قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ" قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ "لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ". فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.
قوله: "كانت تُسرُّ إليك كثيرًا" أي إسرارًا كثيرًا، من الإسرار ضد الإعلان وفي رواية ابن عساكر "تسر إليك حديثًا كثيرًا"، فإن قلت قوله "كانت" للماضي، و"تسر" للمضارع، فكيف اجتمعا؟ فالجواب بأن تسر تفيد الاستمرار، وذكر بلفظ المضارع استحضارًا لصورة الإسرار. وقوله "فما حدثتك في الكعبة" أي في شأنها. وقوله "قلت" في رواية أبي ذر "فقلت".
وقوله "قالت لي" زاد فيه ابن أبي شيبة في مسنده بهذا الإِسناد. قلت لقد حدثتني حديثًا كثيرًا نسيتُ بعضَه وأنا أذكر بعضه، قال ابن الزبير ما نسيتَ أذكرتُك، قلت: قالت. وقوله "حديثُ عهدهم" بتنوين حديث ورفع عهدهم، على إعمال الصفة المشبهة. وقوله "قال ابن الزبير: بكفر" وللأصيلي. "فقال ابن الزبير" كأن الأسود نسي قولها "بكفر" فذكره ابن الزبير. وأما التالي، وهو قوله "لنقضت الخ" فيحتمل أن يكون مما نسي أيضًا، أو مما ذكر، ورواه الإسماعيلى عن زُهير بن معاوية عن أبي إسحاق بلفظ "حدثتني حديثًا حفظتُ أوله، ونسيت آخره" وللترمذي والمؤلف في الحج الحديث بتمامه إلا قوله "بكفر" جعل بدلها "بجاهلية".
وقوله "لنقضت الكعبة" جواب لولا، وقوله "فجعلت لها بابين، بابًا يدخل الناس، وبابًا يخرجون" بتقدير "منه" مع كل من الفعلين وفي رواية الحَمَوِيّ والمستحلى إثبات ضمير الثاني "يخرجون منه"، وهي منازعة بين الفعلين، ولأبي ذرٍّ بنصب "بابًا" في الموضعين على البدل أو البيان، ولغيره بالرفع على الاستئناف. وقوله "ففعله ابن الزبير" يعني ما ذكر من النقض والبناء على ما أراد النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان سبب هدم ابن الزبير للكعبة وبنائه لها ما أخرجه مسلم عن عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، وللفاكهانيّ: لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق، وهت الكعبةُ. ولابن سعد في الطبقات عن أبي الحارث بن زَمْعَة قال: ارتحل الحصين بن نُمير الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية، لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين، قال: فأمر ابن الزبير بالخِصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، فإذا الكعبة تنفض، أي تتحرك متوهنة، ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق.
ولعبد الرزّاق عن مَرْثد بن شُرَحبيل أنه حضر ذلك، قال: كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يَحْزُبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: أشيروا عليَّ في الكعبة، فكشف عن ربض في الحجر آخذٍ بعضه ببعض، فتركه مكشوفًا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خَلِف الِإبل، وجهُ حَجَر، ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العَتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر.
وذكر مسلم في رواية عطاء السابقة إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل. وقول ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده، وأنه استخار الله ثلاثًا، ثم عزم على أن ينقضها، قال: فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حَجَرة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه، حتى
بلغوا به الأرض، وجعل ابن الزبير أعمدةً فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه.
وقال ابن عُيينة في "جامعه" عن مجاهد: خرجنا إلى منىً فأقمنا بها ثلاثًا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة، هو بنفسه، فهدم. وللفاكهانيّ في كتاب مكة عن يزيد بن رومان، ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به، ثم نظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبنى به، فأمر بدفنه في حفرة في جوف الكعبة، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحِجْر، فلم يصيبوا شيئًا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعد ما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم، وهي صخر مثل الخلف من الإبل، فانفضوا له، أي حركوا تلك القواعد بالعتل، فنفضت قواعد البيت، ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعض، فحمد الله تعالى وكبره، ثم أحضر الناس، فأمر بوجوههم وأشرافهم، فنزلوا حتى شاهدوا ما شاهده، ورأوا بنيانًا متصلًا فأشهدهم على ذلك.
والخَلِف ككتف، حوامل الإبل، واحدتها خلفه بالهاء، وللفاكهانيّ من وجه آخر عن عطاء قال: كنت في الأمناء الذين جُمعوا على حفره فحفروا قامة ونصفًا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزَرَد عروق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت، فكبر الناس فبنى عليه. وفي البخاريّ قال يزيد وهو ابن رُومان: شهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه الحجر، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارةً كأسْنمة الإِبل. ولعبد الرزاق عن ساباط عن زيد أنهم كشفوا عن القواعد، فإذا الحجر مثل الخَلِفَة، والحجارة مشبَّكة بعضها ببعض، وعند مسلم من رواية عطاء "وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه" وعند الإِسماعيليّ "فنقضه ابن الزبير فجعل له بابين في الأرض" ونحوه للتِّرمِذِيّ.
وللفاكهانيّ عن موسى بن مَيْسرة أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها، يدخلون من باب ويخرجون من
آخر. وقصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير ذكرها مسلم من رواية عطاء قال: فلما قُتل ابن الزبير، كتب الحجاجُ إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أُسٍ، نظَر العُدول إليه من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن النربير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسدَّ بابه الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه.
وللفاكهانيّ عن أبي أويس: فبادر الحجاج فهدمها، وبنى شقها الذي يلي الحِجْر، ورفع بابها، وسد الباب الغربي. قال أبو أُويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج. ولابن عُيينة عن مُجاهد: فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحِجْر. قال: فقال عبد الملك: وَدِدنا أنا تركنا ابن الزبير وما توَّلى من ذلك.
وأخرج مسلم قصة ندمه عن الوليد بن عطاء، أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقد على عبد الملك في خلافته فقال: ما أظن أبا خُبيَبْ، يعني ابن الزبير، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها. فقال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. زاد عبد الرزاق عن ابن جُرَيج فيه. وكان الحارث مُصَدَّقًا لا يكذب، فقال عبد الملك: أنت سمعتها تفول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعة بعصاه، وقال: وددت أني تركته وما تحمل. وأخرجها أيضًا عن أبي قزعة "بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير، حيث يكذب على أُم المؤمنين
…
" فذكر الحديث، فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعتها تحدِّث بذلك. فقال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته علي بناء ابن الزبير.
قال في "الفتح" جميع الروايات متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الأزرقيّ أن جملة ما غيّره الحجاج الجدار الذي من جهة الحِجر والباب المسدود
الذي في الجانب الغربيّ عن يمين الركن اليمانيّ، وما تحت عتبة الباب الأصليّ، وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق للروايات المذكورة. لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود ومقابل الباب الأصلي، وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقًا بالأرض، فيحتمل أن يكون لاصقًا كما صرحت به الروايات، لكن الحجاج لما غيّره رفعه، ورفع الباب الذي يقابله، ثم بدا له فسدَّ الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحًا.
قلت: بل ظاهر النقل أو صريحه مخالفٌ له، لما مر عن مسلم أن عبد الملك أمره بسد الباب الذي فتحه ابن الزبير، وقال الفاكهانيّ: إن الحجاج بادر إلى فعل ما أمر به، فكيف يقال إنه رفع الباب أولًا، ثم بدا له فسدَّه، فإنه مأمورٌ مبادرٌ إلى ما أمر به. وذكر الفاكهانيّ في أخبار مكة أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومئتين، فإذا هو مقابل باب الكعبة، وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة، كما في الباب الموجود سواء.
وأما زمن بناء ابن الزبير للبيت، فقد قال ابن سعد عن ابن أبي مُلَيكة: لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين. وحُكِي عن الواقِدِيّ أنه ردّ ذلك، وقال: الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يومًا، وجزم الأَزْرَقِيّ بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ويمكن الجمع بأن يكون ابتداء البناء من ذلك الوقت، وامتد أمده إلى الموسم، ليراه أهل الآفاق ليشنع علي بني أُمية.
ويؤيده أنّ في تاريخ المسيمي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطَّبريّ أنه كان في شهر رجب. قال في "الفتح": وإن لم يكن هذا الجمع مقبولًا، فالذي في الصحيح مقدم علي غيره، قلت: لم أر في واحد من الصصحيحين التصريح بشيء يكون مقدمًا