الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ صَلَّى، وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا، يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} . [الصافات: 120].
قوله: "ربما قال اضطجع" أي: كان سفيان يقول تارة نام، وتارة اضطجع، وليسا مترادفين، بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرو إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولًا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام، أي: مضطجعًا، أو اضطجع، أي: نائمًا.
وقوله: "ثم حدَّثنا" يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرًا، ثم صار يحدثهم به مطولًا.
وقوله: "ليلةً فقام" كذا لأكثر، ولابن السكن:"فنام" بالنون بدل القاف، وصوَّبها القاضي عياض لقوله بعد ذلك:"فلما كان في بعض الليل قام"، ولا ينبغي الجزم بخطئها، أي: رواية "فقام"، لأن توجيهها ظاهر، وهو أن الفاء في قوله:"فلما" تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل.
وقوله: "فلما كان" أي: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقوله: "في بعض الليل" للكُشْمِيْهنيّ من بدل في، فيحتمل أن تكون بمعناها، ويحتمل أن تكون زائدة، وكان تامة، أي: فلما حصل بعض الليل.
وقوله: "شَنٍّ" بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، أي: القربة العتيقة.
وقوله: "معلق" ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ:"معلقة".
وقوله: "يخفِّفه عمرو ويقلِّله" أي: يصفه بالتخفيف والتقليل، فالتخفيف بالغسل الخفيف مع الإسباغ، والتقليل بالاقتصار على المرة الواحدة، فالأول من باب الكيف، والثاني من باب الكم، وذلك أدنى ما تجوز به الصلاة.
قال ابن المنير: فيه دليل على إيجاب الدَّلْك؛ لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره. قال في "الفتح": وهي دعوى مردودة، إذ ليس في الخبر ما يقتضي الدَّلْك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك.
وقوله: "فتوضَّأتُ نحوًا ممّا توضأ" قال الكِرماني: لم يقل مثل، لأن حقيقة مماثلته صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقدر عليها غيره، ورُدَّ بأن ثبت في هذا الحديث بعد أبواب:"فقمتُ فصنعت مثل ما صنع" ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة.
وقوله: "فآذن" بالمد، أي: أعلمه، وفي رواية:"يُؤذن" بالمضارع من غير فاء وللمستملى فناداه وقوله فصلى ولم يتوضأ فيه دليل على أن النوم ليس
يحدث، بل مَظِنّة الحدث، لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، ولو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم، وربما لم يتوضأ، وإنما مُنعَ قلبُه النومَ ليعيَ الوحي الذي يأتيه في منامه.
وقوله: "قلنا" القائل هو سفيان، والحديث المسؤول عنه عمرو صحيح، رواه البخاري في مواضع من كتابه، وقد تكلمنا على معارضته لحديث الوادي، وأشبعنا الكلام عليه عند ذكر هذا الحديث في باب السمر في العلم.
وقوله: "رؤيا الأنبياء وحيٌ" رواه مسلم مرفوعًا، ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيًا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده.
وأغرب الداوودِيُّ فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاريّ بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلًا فممنوع، لأنه أتى به عمرو تعضيدًا للحديث الذي سُئل عنه.
قال ابن العَربيّ: اعلم أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، فما أُلقى إليهم، أو نَفَثَ به المَلَكُ في رَوْعهم، أو ضُرِبَ المثل له عليهم فهو حقٌّ، وقد بُيِّنتْ حقيقة الرؤيا وأنواعها عند حديث "مَنْ رآني في المنام" بيانًا كافيًا لا يحتاج إلى زيادة.
ومما يحتاج للذكر هنا ما جرى من الخلاف بين العلماء في الذبيح، هل هو إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام؟
فعند أحمد عن أبي الطُّفَيْل عن ابن عبّاس قال: إن إبراهيم لما رأى المناسك، عرض له إبليس عند المسعى، فسبقه إبراهيم، فذهب به جبريل إلى العقبة، فعرض له إبليس، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، وكان على إسماعيل قميص أبيض، وثم تَلَّهُ للجبين، فقال: يا أبتِ إنه ليس لي قميص تكفِّنني فيه غيره فاخلعه، فنودي من خَلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فالتفت، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين، فذبحه.
وأخرج ابن إسحاق في "المبتدأ" عن ابن عبّاس نحوه، وزاد: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإِسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة.
وأخرجه أحمد أيضًا عن عثمانَ بن أبي طلحة، قال: أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فواريت قَرْني الكبش حين دخل البيت.
وهذه الآثار من أقوى الحجج لمن قال: إن الذبيح إسماعيل.
وقد نقل ابن أبي حاتم وغيره، عن العبّاس وابن مسعود، وعن علي وابن عبّاس في إحدى الروايتين عنهما، وعن الأحنف عن ابن ميسرة وزيد بن أسلم ومسروق وسعيد بن جُبَيْر في إحدى الروايتين عنه، وعطاء والشعبي وكعب الأحبار أن الذبيح إسحاق.
وعن ابن عبّاس في أشهر الروايتين عنه، وعن علي في إحدى الروايتين، وعن أبي هُريرة، ومعاوية، وابن عمر، وأبي الطُّفيل، وسعيد بن المسيِّب، وسعيد بن جُبير، والشَّعبي في إحدى الروايتين عنهما، ومجاهد، والحسن، ومحمد بن كَعْب، وأبي جعفر الباقر، وأبي صالح، والربيع بن أنس، وأبي عَمرو بن العلاء، وعمر بن عبد العزيز، وابن إسحاق أن الذّبيح إسماعيل. ويؤيده ما مرَّ، وحديث:"أنا ابن الذَّبيحين" رواه في "الخلعيات" عن معاوية، ونقله عبد الله بن أحمد عن أبيه، وابن أبي حاتم عن أبيه.
واستنبط تقيُّ الدين السُّبكي من القرآن أنه إسماعيل، وهو قوله تعالى:{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}
…
إلى قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، وقوله:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} . . . إلى قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]، قال: ووجه الأخذ منهما أن سياقهما يدل على أنهما قصتان مختلفتان:
الأولى عن طلب من إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه في ابتداء أمره، فسأل من ربه الولد، فبشره بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال: يا بني إني أرى
في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى؟
والقصة الثانية بعد ذلك بدهرٍ طويل، لما شاخ إبراهيم، واستُبْعِدَ من مثله أن يجيء له الولد، وجاءته الملائكة عندما أُمروا بإهلاك قوم لوط، فبشروه بإسحاق، فتعين أن يكون الأول إسماعيل، ويؤيده أن في التوراة أن إسماعيل بكره، وأنه ولد قبل إسحاق.
قال في "الفتح": وهو استدلال جيد، وقد كنت أستحسنه وأحتجُّ به إلى أن مرَّ بي قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39]، فإنه يعكر على قوله: إنه رُزق إسماعيل في ابتداء أمره، وقوته، لأن هاجر والدة إسماعيل صارت لسارة من قِبَلِ الجبّار الذي وهبها لها، وإنها وهبتها لإبراهيم لما يئست من الولد، فولدت هاجر إسماعيل، فغارت سارة منها كما يأتي في ترجمة إبراهيم في أحاديث الأنبياء، وولدت بعد ذلك إسحاق، واستمرت غيرة سارة إلى أن كان من إخراجها وولدها إلى مكة ما كان. وقد ذكره ابن إسحاق في "المبتدأ" مفصلًا.
وأخرج الطبريُّ عن السُّدِّيِّ قال: انطلق إبراهيم من بلاد قومه قِبَلَ الشام، فلقي سارة وهي بنت ملك حَرّان، فآمنت به، فتزوجها، فلما قدم مصر وهبها الجبار هاجر، ووهبتها له سارة، وكانت سارة مُنعت الولد، وكان إبراهيم قد دعا الله تعالى أن يهب له ولدًا من الصالحين، فأُخِّرت الدعوة حتى كبر، فلما علمت سارة أن إبراهيم وقع على هاجر حزنت على ما فاتها من الولد، ثم ذكر قصة مجيء الملائكة بسبب إهلاك قوم لوط وتبشيرهم إبراهيم بإسحاق، فلذلك قال إبراهيم: الحمد لله الذي وهب لي على الكِبَر إسماعيل وإسحاق. ويقال: لم يكن بينهما إلا ثلاث سنين، وقيل: كان بينهما أربع عشرة سنة.
قلت: وفي كثير من المفسرين أن إسماعيل وُلد ولإبراهيم تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق وله مئة واثنتا عثرة سنة.
وما ثبت من كون قصة الذبيح كانت بمكة حجة قوية في أن الذبيح
إسماعيل، لأن سارة وإسحاق لم يكونا بمكة، وما رُوي عن سعيد بن جُبير من أنه قال: أُرِيَ إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بِمنى، فلما صرف الله عنه الذبح أمره أن يذبح به الكَبش، فذبحه، وسار إلى الشام مسيرة شهر في روحة واحدة، وطويت له الأودية والجبال. مستبعد جدًّا.
ومما رُوي أن الذبيح إسحاق ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن السُّدِّي، أن إبراهيم نذر إن رزقه الله من سارة ولدًا أن يذبحه قربانًا، فرأى في المنام أن أُوْف بنذرك، فقال إبراهيم لإسحاق، انطلق بنا نقرِّبْ قُربانًا، وأخذ حبلًا وسكّينًا، ثم انطلق به، حتى كان بين الجبال، قال: يا أبت أين قربانك؟ قال: أنتَ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
…
} [الصافات: 102]، فقال: اشدد رباطي حتى لا أضطرب. واكفف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون عليَّ، ففعل ذلك إبراهيم وهو يبكي، وأمر السكين على حلقه فلم تحزَّ، ومُنعت بقدرة الله تعالى، أو ضرب الله على حلقه صفيحة من نحاس، والأول أبلغ في القدرة الإلهية، وهو منع الحديد من اللحم، فكبه على جبينه، وحزّ في قفاه، فذاك قوله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 103 - 105]، فالتفت، فإذا هو بكبش، فأخذه وحل عن ابنه. هكذا ذكره السُّدي، ولعله أخذه من بعض أهل الكتاب، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح أيضًا عن القاسم، قال: اجتمع أبو هُريرة وكعب، فحدث أبو هُريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "إن لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابة" فقال كعب: أفلا أخبرك عن إبراهيم لما رأى أنه يَذبح ابنه إسحاق، قال الشيطان: إن لم أفتِن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدًا، فذهب إلى سارة، فقال: أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: في حاجته. قال: كلاّ، إنه ذهب به ليذبحه، يزعُم أن ربَّه أمره بذلك. فقالت: أخشى أن لا يُطيع ربه. فجاء إلى إسحاق، فأجابه بنحوه، فواجه إبراهيم، فلم يلتفت إليه، فأيس أن يطيعوه.