الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا".
قوله: "إذا شرب" هكذا رواه في "الموطأ" بلفظ "إذا شرب"، وكذا رواه ابن خُزيمة وابن المنذر عن أبي هريرة بلفظ:"إذا شرب"، وكذا أخرجه الجَوْزَقيّ وأبو يعلى عن أبي الزناد بهذا اللفظ. فقول ابن عبد البر: إن لفظ "شرب" لم يروه إلا مالك، وإن غيره رواه بلفظ:"ولغ" غير صحيح.
والمشهور عن أبي هُريرة من رواية جمهور أصحابه عنه: "إذا ولغ" وهو المعروف في اللغة، يقال وَلَغَ يلَغُ -بالفتح فيهما- إذا شرب بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه، وقيل: هو أن يُدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه، شرب أو لم يشرب، فإن كان غير مائع يقال: لَعَقَه، وإن كان فارغًا يقال: لحَسَهُ.
وقد رواه أبو عُبيد في كتاب الطهور له عن مالك بلفظ: "إذا ولغ" ورواه الإسماعيلي والدّارقُطني في "الموطآت" وابن ماجه في "سننه" كذلك عن مالك، فكأن أبا الزناد حدث به باللفظين لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب كما بيّنا أخص من الولوغ، فلا يقوم مقامه.
ومفهوم الشرط في قوله: "إذا ولغ" يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا: إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدّى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلًا، ويكون ذكر الولوغ للغالب.
وأما إلحاق باقي أعضائه كيده ورجله فالمذهب المنصوص أنه كذلك؛ لأنَّ فمه
أشرفها، فيكون الباقي من باب الأولى، وخصه في القديم بالأول، وقال النووي في "الروضة": إنه وجه شاذٌ. وفي "شرح المهذب": إنه القوي من حيث الدليل.
والأولوية المذكورة قد تمُنع لكون فمه محل استعمال النجاسات.
وعند المالكية قصر الحكم على الولوغ المفسر بتحريك اللسان، فلو أدخل يده أو غيرها من الأعضاء أو لسانه من غير تحريك أو سقط لعابه لم يُغسل الإِناء، ولم يُرَقِ الماء.
وقوله: "في إناء أحدكم" ظاهره العموم في الآنيه، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلًا، وبه قال الأوزاعي مطلقًا، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير. وعند المالكية مفهوم الإناء معتبر، فالحوض لا يُطلب غسله، والماء المستنقع لا شيء فيه، لأن الغسل عندهم تعبُّدي لا للتنجيس، فيقُتَصرَ فيه على ما ورد من الشارع، ويأتي قريبًا زيادة في هذا البحث.
والإضافة التي في "إناء أحدكم" يُلغى اعتبارها، لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، وكذا عند القائل بالتعبد لا اعتبار لها.
وزاد مسلم والنسائي وأبو رُزَيْن عن أبي هُريرة في هذا الحديث: "فليُرِقْه"، لكن قال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع علي بن مُسْهر على زيادة "فليرقه". وقال حمزة الكِناني: إنها غير محفوظة. وقال ابن عبد البَرّ: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كشعبة وأبي معاوية. وقال ابن مَنْدة: لا تُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مُسْهِر بهذا الإسناد، لكن قد ورد الأمر بالإراقة عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف. وأخرج الدّارقطني ذكر الإراقة عن أبي هريرة موقوفًا أيضًا، وإسناده صحيح.
قال في "الفتح": وزيادة الإراقة تقوي القول بأن الغسل للتنجيس، إذ المراد أعم من أن يكون ماء أو طعامًا، فلو كان طاهرًا لم يُؤمر بإراقته للنهي عن إضاعة المال.
والقائل بالتعبد يخُصُّ الإراقة بالماء دون الطعام، قائلًا: إن الحديث إنما
ورد في إناء الماء، لأن أواني الطعام مصانة في العادة، بخلاف أواني الماء، فإنها مبتذلة غالبًا، فإن قيل: قد ورد الأمر بالغسل مطلقًا، قلنا: القاعدة الأصولية أنه إذا ورد مطلق ومقيد في واقعة واحدة، فيُقيد المطلق.
وقوله: "فليغسله" المراد غسله من غير توقف، على أن يكون المالك هو الغاسل له، وظاهر الأمر يقتضي الفَوْر، لكن حمله الجمهور على الاستحباب إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء، ومشهور مذهب مالك أنه لا يُطلب غسله إلا عند قصد استعمال الإناء، وقيل: يُطلب الغسل بفور الولوغ.
وقوله: "سبعًا" أي: سبع مرار، فهو مفعول مطلق لغسل، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير: غسلًا سبعًا. أي: ذا مرات سبع.
والتحديد بالسبع في الحديث دال دِلالة قوية جدًّا على أن الأمر بالغسل في الحديث للتعبد، ومعنى التعبد هو الحكم الذي لا تظهر له حكمة بالنسبة إلينا، مع أنا نجزم أنه لابد من حكمه، وذلك لأنا استقرَيْنا عادة الله، فوجدناه جالبًا للمصالح دارئًا للمفاسد، ووجه الدلالة بالتحديد هو أن الغسل لو كان للنجاسة لما كان لتحديد فائدة؛ لأن المطلوب في النجاسة الإزالة للعين والحكم، فلا فائدة في التقييد بالعدد، وأيضًا الكلب لا يكون أشدُّ نجاسة من الخنزير، وقد نصت الشافعية على أن الخِنزير أسوأ حالًا في النجاسة من الكلب، وإذا كان أسوأ حالًا من الكلب، ولم يُؤمر بذلك فيما شَرب منه، عُلم أن الأمر في الكلب للتعبد، وأيضًا العَذِرَة نجاستها أشد من نجاسة الكلب، ولم تقيد بالسبع، فيعلم أن التقييد بالسبع في ولوغ الكلب تعبد.
وأجاب في "الفتح" بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا يكون أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس مع وجود النص، وهو فاسد الاعتبار.
وأجيب عن الأول بأنها إذا كانت أشد منه نجاسة لا يحصل التغليظ في الحكم في جانبه إلا لأمر غير معقول لا للنجاسة، وهذا هو التعبد بعينه.
وأجيب عن الثاني بأن النص لم يرد يكون الغسل للنجاسة، وإنما ورد الأمر
بالغسل مطلقًا من غير علته، فلا قياس مع وجود النص.
وأيضًا الشافعية القائلون بظاهر هذا الحديث من وجوب سبع غسلات، يلزمهم القول بإيجاب ثمان غسلات عملًا بظاهر حديث عبد الله بن مُغَفَّل الذي أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وقال ابن مَنْدة: إسناده مُجمع على صحته. ولفظه: "فاغسِلوه سبع مرات وعفِّروه الثامنة في التراب"، وفي رواية أحمد:"بالتراب"، فالعمل به أولى مما رواه أبو هريرة؛ لأنه زاد عليه:"وعفِّروه الثامنة بالتراب"، والزائد أولى من الناقص، فكان ينبغي لهم أن يقولوا: لا يطهر إلَاّ بأن يُغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب عملًا بالحديثين جميعًا، فإن تركوا حديث ابن مُغَفَّل فقد لزمهم ما لزم المالكية في عدم القول بوجوب السبع، وقد اعتذر بعض الشافعية عن ترك العمل به، بأن الإجماع على خلافه، وفيه نظر، لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وبه قال أحمد في رواية حَرْب الكِرْماني عنه. ونُقِل عن الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته. ولكن هذا لا يثبت العذر لمن وقف على صحته. وجنح بعضهم إلى الترجيح لحديث أبي هُريرة على حديث ابن مُغَفَّل، والترجيح لا يُصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مُغَفَّل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة دون العكس، والزيادة من الثقة مقبولة، ولو سلكوا الترجيح في هذا الباب لم يقولوا بالترتيب أصلًا، لأن رواية مالك بدونه أرجح من رواية من أثبته، ومع ذلك قالوا به أخذًا بزيادة الثقة.
وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فقال: لما كان التراب جنسًا غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدودًا باثنتين. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله:"وعفِّروه الثامنة بالتراب" ظاهر في كونها غسلة مستقلة.
قال في "الفتح": لكن لو وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات السبع كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاق الغسلة على التتريب مجازًا، وهذا الجمع من مرجحات تعين التراب في الأولى.
قلت: لم أفهم معنى لما قاله، فإن التعفير بالتراب لا يمكن إلاّ مع الماء سواء كان في الأولى أو الأخيرة، لقوله في الحديث:"أولاهُن أو إحداهن" أي: الغسلات، وقد حمل المالكية في مشهور مذهبهم الأمر بالغسل في الحديث والإراقة فيه على الندب في الماء خاصة، ولم يأخذوا بالتتريب أصلًا، لأنه لم يقع في رواية مالك، ولم يثبت في شيء من الروايات عن أبي هُريرة إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره عنه.
وقد اختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، ففي رواية مسلم والد الدراقطني "أولاهن"، ولأبي داوود:"السابعة"، وللشافعي:"أولاهنَّ أو إحداهن" وللبزار: "إحداهن" فلهذا الاضطراب لم تأخذ المالكية بالتتريب.
وقال في "الفتح": طريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: إحداهن مبهمة، وأولاهن، والسابعة معينة. وأو إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يُحمل على إحداهما، لأن فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي نص عليه الشافعي في "الأم"، والبُوَيْطي، وصرح به المَرْعَشي، وغيره من الأصحاب.
قلت: الظاهر أن المطلق هو إحداهما، المقيد هو المعينة لزيادة الإبهام في إحداهما على المعينة، فإحداهما بمنزلة رجل، والسابعة بمنزلة رجل عالم.
وإن كانت "أو" شكًّا من الراوي، فرواية من عيَّن ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية أولاهن ورواية السابعة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، من حيث المعنى أيضًا، لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى. وقد نص الشافعي في حرملة على أن الأولى أولى.
وأورد بعض الشافعية على المالكية في قولهم: إن الأمر تعبد. ما رواه مسلم عن أبي هريرة: "طهور إناء أحدكم
…
" قائلًا: إن الطهارة تستعمل إما عن
حدث أو خبث، ولا حدث في الإِناء، فتعين الخبث، وأجيب بمنع الحصر، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد قيل وله: طهور المسلم، لأن الطهارة تطلق على غير ذلك كقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم".
وأجيب عن الأول بأن التيمم ناشىء عن حدث، فلما قام مقام ما يُطَهِّر الحدث سمي طهورًا، ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الايراد من أصله. والجواب عن الثاني أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية حُملت على الشرعية، إلاّ إذا قام دليل. وعورض هذا بالحديث إطار:"السواك مطهرةٌ للفم" فإنه من ألفاظ الشارع، ولم تُقصد به الحقيقة الشرعية، وإنما قُصدت به الحقيقة اللغوية. وكذلك حديث:"طهور إناء أحدكم" لم يقصد به إلا الحقيقة اللغوية التي هي النظافة.
وادّعى بعض المالكية أن المأمور بالغسل من ولوغِهِ الكلب المنهيُّ عن اتخاذه دون المأذون فيه، ورُدَّ هذا بأنه يحتاج إلى قرينة تدل على أن المراد ما لم يؤذن في اتخاذه، لأن الظاهر من اللام في قوله:"الكلب" أنها للجنس أو لتعريف الماهية، فيحتاج المدعي أنها للعهد إلى دليل. وأجيب عن هذا بأن الإذن في اتخاذه هو الدليل، لأن في ملابسته مع الاحتراز منه مشقة شديدة، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملات مقصودة، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه، وهذا استدلال قوي، ولا يعارضه عموم الخبر الوارد بالغسل مما ولغ فيه الكلب، لأن تخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل.
وفرق بعضهم بين البدوي والحضري.
وادّعى بعضُهم أن ذلك مخصوص بالكَلْب الكَلِب، وأن الحكمة في الأمر بغسله سبعًا من جهة الطب، لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منه، كقوله:"صبّوا عليَّ من سبع قرب"، وكقوله:"من تصبحّ بسبع تمرات من عجوة لم يضرّه في ذلك اليوم سُمَّ ولا سحر" إلى غير ذلك، وتُعُقِّب بأن الكلب الكَلِب لا يقرب الماء، فكيف يؤمر بالغسل من ولوغه. وأجاب حفيد ابن رُشد بأنه لا يقرب الماء
بعد استحكام الكَلَب فيه، أما في ابتدائه فلا يمتنع منه.
قال في "الفتح": وهذا التعليل وإن كان فيه مناسبة، لكنه يستلزم التخصيص بلا دليل، والتعليل بالتنجيس أقوى، لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رِجْس. رواه محمد بن نَصْر المَرْوزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه.
قلت: ما عُزي لابن عباس رضي الله تعالى عنه إنما هو اجتهاد منه، واجتهاد المجتهد لا يُحتجُّ به على مجتهد آخر، وكون الصحابة لم يُنقل عنهم خلافه، كذلك لم ينقل عنهم وفاقه.
والحنفية لم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب، وإنما قالوا بوجوب غسل الإناء ثلاثًا، آخذين بما جاء عن أبي هُريرة قولًا وفعلًا، قائلين: إن عمله بخلاف السبع التي روى مثبتٌّ نسخ السبع، لأن الراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة، لأن الصحابي لا يَحِلُّ أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي أو يعمل بخلافه، إذ تسقط به عدالته، ولا تُقبل روايته، وإنا نحسن الظن بأبي هريرة، فدل على نسخ ما رواه.
وتعقبه في "الفتح" بأن إفتاء أبي هريرة بثلاث يُحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ.
قلت: دعوى نسيانه بعيدة جدًّا لما مر من دعائه عليه الصلاة والسلام له بعدم النسيان، ولقوله هو رضي الله تعالى عنه: ما نسيتُ شيئًا بعد ذلك.
ثم قال: وأيضًا فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعًا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد ومن حيث النظر، أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من وراية حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سرين، عنه. وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن