الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والستون
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَاّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل".
قوله "جاء رجل" في رواية عند المصنف في فرض الخُمس "قال أعرابي" وهذه تدل على وهم ما وقع عند الطبراني عن أبي موسى أنه قال: يا رسول الله. فأبو موسى، وإن جاز أن يُبهم نفسه في رواية الباب، لكن لا يصفها بكونه أعرابيًا. وهذا الأعرابيُّ يصلح أن يفسر بـ" لاحق بن ضُميرة" لما جاء عند أبي موسى المدنيّ أنه قال:"وفدت على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر، "فقال: لا شيء له
…
" الحديث. وفي إسناده ضعف، ولاحق يأتي تعريفه في الخامس والعشرين من الجهاد. وفي فوائد أبي بكر بن أبي الحديد بإسناد ضعيف عن معاذ بن جبل أنه قال: "يا رسول الله كل بني سلمة يقاتل، فمنهم من يقاتل رياء
…
" الحديث. فلو صح لاحتمل أن يكون معاذ أيضًا سأل عما سأل عنه الأعرابيّ؛ لأن سؤال معاذ خاص، وسؤال الأعرابي عام. ومعاذ أيضًا لا يقال له أعرابيّ، فيحمل على التعدد. ومر معاذ في أول الإيمان قبل ذكر حديث منه.
وقوله "فقال يارسول الله ما القتال الذي سبيل الله"؟ مبتدأ وخبره وقع مقول القول. وقوله "يقاتل غضبًا" نصب مفعول له، والغضب حالة تحصل عند غليان الدم في القلب لإِرادة الانتقام. وقوله "ويقاتل حَمِيَّةً" نصب
مفعول له أيضًا، وهو بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد المثناة التحتية المفتوحة، وهي الأَنفة من الشيء والمحافظة على من يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، ويحتمل أن يفسر القتال للحمية بدفع المضرة، والقتال غضبًا بجلب المنفعة، وفي رواية شعبة في الجهاد "الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر" أي: ليذكر بين الناس ويشتهر بين الناس بالشجاعة وفيها "والرجل يقاتل ليرى مكانه". وفي رواية الأعمش في التوحيد "ويقاتل رياء" ومرجع التي قبلها إلى السمعة، ومرجع هذه إلى الرياء، وكلاهما مذموم.
والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم، فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي، وقوله "وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائمًا" أي، ما رفع رأسه لأمر من الأمور إلا لقيام الرجل، فإن واسمها وخبرها في تقدير المصدر مفعول لأجله. وظاهر الحديث أن القائل لهذا أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه، فيكون مدرجًا في أثناء الخبر.
وقوله "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" المراد بكلمة "الله" دعوة الله إلى الإِسلام، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله إعلاء كلمة الله تعالى فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة أخل بذلك. ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمنًا، لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صرح الطّبريّ فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأول لا يضره ما عرض له بعد ذلك. وبذا قال الجُمهور.
لكن روى أبو داود والنَّسائي عن أمامة بإسناد جيد قال: "جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ قال: لا شيء له، فأعادها ثلاثًا كل ذلك يقول: لا شيء له، ثم قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وسلم: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهه ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معًا على حد واحد، فلا يخالف المرجح أولًا، فتصير المراتب خمسًا: أن يقصد الشيئين معًا أو يقصد أحدهما صِرْفًا، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنًا. والمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنًا، وقد لا يحصل ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى، ودونه أن يقصدها معًا، فهو محذور أيضًا على ما دل عليه حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء، وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضًا.
قال ابن أبي جمرة: المحققون على أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه، ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاء إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي -ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حُوالة قال:"بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئًا، فقال: اللهم لا تَكِلْهم إلى .. " الحديث، ويدخل فيه من قاتل لطلب الثواب ورضاء الله ودحض أعدائه، فإنه من إعلاء كلمة الله تعالى. وقد مر بعض الكلام على هذا المنزع في حديث "إنما الأعمال بالنيات" وفي إجابة النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، بما ذكر غاية البلاغة والإيجاز، وهو من جوامع كلمِهِ صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع زيادة عليه، ولو أجاب السائلَ بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله، وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع، عدل عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة. ويحتمل أن يكون الضمير في قوله "فهو" راجعًا إلى القتال الذي في ضمن "قاتل" أي: فقتاله قتال في سبيل الله.
والحاصل أن القتال منشؤه القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشَّهوانية. ولا يكون في سبيل الله إلا الأول. وقال ابن بطّال: إنما عدل