الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والخمسون
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِى بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِه، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ:"نَامَ الْغُلَيِّمُ" أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.
قوله "فصلى النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، العشاء، ثم جاء إلى منزله" يعني بيت ميمونة، أم المؤمنين، وقوله "فصلى أربع ركعات" الفاء فيه للتعقيب، وقوله "نام الغُليم" بضم المعجمة، وهو من تصغير الشفقة، والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخباراً منه عليه الصلاة والسلام بنومه، أو استفهامًا بحذف الهمزة. وقوله "أو كلمة تشبهها" بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة، ككلمة الشهادة، وفي رواية "نام الغلام". وقوله "فقمت عن يساره" بفتح الياء وكسرها، شبهوها في الكسر بالشمال، وليس في كلامهم كلمة مكسورة الياء إلا هذه، وحكى تشديد السين، لغة عن ابن عبّاد. وقوله "ثم صلى ركعتين" أي ركعتي الفجر، وأغرب الكرماني فقال: إنما فصل بينهما وبين الخمس، ولم يقل سبع ركعات؛ لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها، بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام، والركعتين بسلام آخر. وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل، وهو محتمل، لكنّ حملها على سنة الفجر أولى، ليحصل الختم بالوتر.
وقوله "حتى سمعت غَطيطه" بفتح الغين المعجمة، وكسر المهملة الأولى، وهو صوت نفس النائم عند استثقاله، وفي العبادة وغطيط النائم والمخنوق، نخيرهما. وقوله "أو خَطيطه" بفتح الخاء المعجمة وكسر المهملة، شك من الراوي، وهو بمعنى الأول. وقال ابن بطّال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة، وتبعه القاضي عياض، وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط. وقوله "ثم خرج إلى الصلاة" أي لم يتوضأ؛ لأن من خصائصه أن نومه مضطجعًا لا ينقض وضوءه؛ لأن عينيه تنامان ولا ينام قلبه، كما في البخاري وغيره. ولا يقال إنه معارض بحديث نومه عليه الصلاة والسلام في الوادي إلى أن طلعت الشمس؛ لأنه مجاب عنه بأجوبة، قال النوويّ: له جوابان: أحدهما أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به، كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة، والقلب يقظان. الثاني أنه كان له حالان: حال كان قلبه لا ينام وهو الأغلب، وحال ينام فيه قلبه، وهو نادر، فصادف هذا قصة النوم عن الصلاة. قال: والصحيح المعتمد هو الأول، والثاني ضعيف.
ولا يقال القلب، وإن كان لا يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلًا، لكنه يدرك إذا كان يقظانًا مرور الوقت الطويل، فإنّ من ابتداء طلوع الفجر إلى أن حميت الشمس مدة طويلة، لا تخفى على من لم يكن مستغرقًا؛ لأنّا نقول: يحتمل أن يقال: كان قلبه صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مستغرقًا بالوحي، ولا يلزم مع ذلك وصفه بالنوم، كما كان يستغرق صلى الله تعالى عليه وسلم حالة إلقاء الوحي إليه في اليقظة، وتكون الحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس كما في قضية سهوه في الصلاة.
وقريب من هذا جواب ابن المنير: إن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة، لمصلحة التشريع، ففي النوم بطريق الأولى أو على السواء، وقد أجيب بأجوبة أخرى ضعيفة منها: أن معنى قوله "لا ينام قلبي" أي: لا
يخفى عليه حالة انتقاض وضوئه، ومنها أن معناه لا يستغرق بالنوم حتى يوجد منه الحدث، وهذا قريب من الذي قبله، قال ابن دقيق العيد: كأنّ قائل هذا أراد تخصيص يقظة القلب بإدراك حالة الانتقاض، وذلك بعيد لأن قوله عليه الصلاة والسلام "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" خرج جوابًا عن قول عائشة "أتنام قبل أنْ توتر"، وهذا كلام لا تعلق له بانتقاض الطهارة الذي تكلموا فيه، وإنما هو جواب يتعلق بأمر الوتر، فتحمل يقظته على تعلق القلب باليقظة للوتر، وفرق بين من شرع في النوم مطمئن القلب به، ومن شرع فيه متعلقًا باليقظة، قال: فعلى هذا فلا تعارض ولا إشكال الذي حديث النوم "حتى طلعت الشمس" لأنه يحمل على أنه اطمأن في نومه لما أوجبه تعب السير، معتمدًا على من وكَّله بكلاءَة الفجر.
ومحصله تخصيص اليقظة المفهومة من قوله "ولا ينام قلبي" بإدراكه وقت الفجر إدراكًا معنويًا، لتعلقه به، وإن نومه في حديث ليلة الوادي كان نومًا مستغرقًا، ويؤيده قول بلال له: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، كما في حديث أبي هُريرة عند مسلم، ولم ينكره عليه، ومعلوم أن نوم بلال كان مستغرقًا، قلت: قوله إن سؤال عائشة لا تعلق له بانتقاض الطهارة. فيه نظر؛ لأنها إنما سألته عن نومه عن الوتر، لعلمها بأن النوم مبطل للوضوء، فأفادها بما ذكر أنَّ قلبه لا ينام حتى يحصل منه ما ينقض الوضوء، وهذا الذي أفادها به لم تكن عالمة به قبل ذلك، ثم قال الذي "الفتح": وقد اعترض عليه بان ما قاله يقتضي اعتبار خصوص السبب، وأجاب بأنه يعتبر إذا قامت عليه قرينة، وأرشد إليه السياق، وهو هنا كذلك.
ومن الأجوبة الضعيفة قول من قال: كان قلبه يقظان، وعلم بخروج الوقت لكن ترك إعلامهم بذلك عمدًا، لمصلحة التشريع. وقول من قال: المراد بنفي النوم عن قلبه أنه لا يطرأ عليه أضغاث أحلام، كما يطرأ على غيره، بل كل ما يراه في نومه حق ووحي. وأقرب الأجوبة إلى الصواب الأول على ما قررا، واعلم أن حديث ابن عمر مناسب للترجمة لقوله فيه
"قام فقال أرأيتكم"
…
إلخ، بعد قوله "صلى العشاء"، وأما حديث ابن عباس فلم تظهر فيه مناسبة للباب. وقال ابن المنير ومن تبعه: يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة، وهي قوله "نام الغليم"، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولا فرق بين التعليم من القول والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم زاد الكرمانى: أو ما يفهم من جعله إياه عن يمينه كأنه قال له: قف عن يميني، فقال: وقفت. وتعقب هذا بأن المتكلم بالكلمة الواحدة لا يسمى سامرًا، وبأن صنيع ابن عباس يسمى سَهَرًا، لا سمرًا؛ لأن السمر لا يكون إلا عن تحدث، وأجيب بأن حقيقة السمر التحدث بالليل، ويصدق بكلمة واحدة، ولم يشترط أحد التعدد، وكما يطلق السمر على القول، يطلق على الفعل، بدليل قولهم: سمر القومُ الخمر إذا شربوها ليلًا، وقال الكرمانيّ تبعًا لغيره: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لابد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة، وحديثه عليه الصلاة والسلام كله علم وفوائد، وأجاب في "الفتح" بأن مناسبة الحديث للترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه، من طريق أخرى وهذا يفعله البخاري كثيرًا، يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة؛ لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن. والحديث هو ما أخرجه البخاري في التفسير عن ابن عباس قال:"بتُّ في بيت ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة، ثم رقد" الحديث، فهذا الحديث يدل صريحًا على حقيقة السمر بعد العشاء، فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم، فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى؛ لأنه إذا شرع في المباح ففي المستحب من طريق الأولى.
قلت: وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة، واعتراض العيني عليه ساقطٌ، وما استبعده غير بعيد، ويكفي في الجواب عنه ما مر من أنَّ
البخاريَّ كثيرًا ما يفعله لما مر، وما قال من أنّ هذا ليس فيه تفسير للحديث يقال فيه إن هذا فيه تفسير له؛ لأن تراجم البخاري من الحديث، وهو تفسير لها، ومبين أيضًا لمناسبة الحديث لها.
ويدخل في هذا الباب حديث أنس عند المصنف في كتاب الصلاة أن النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، "خطبهم بعد العشاء" وحديثه عنده أيضًا في المناقب، في قصة أسِيد بن حُضَير، وحديث عمر "كان النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين". أخرجه التَّرمِذيّ والنَّسائِيّ. ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود، إلا أن في إسناده اختلافًا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه، وحديث عبد الله بن عمرو"كان نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح، لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة" رواه أبو داود وصحّحه ابن خزَيمة، وليس على شرط البخاريّ.
وأما حديث "الأسمر إلا لمصل أو مسافر" فهو عند أحمد بسند فيه راو مجهول، وعلى تقدير ثبوته، فالسمر في العلم يلحق بالسمر في الصلاة نافلة، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه، فقال أبو موسى: الصلاة، فقال عمر: إنّا في صلاة. وفي الحديث طرق غير هذه، ويستفاد منه باعتبار طرقه، ملاطفة الصغير والقريب والضيف، وحسن المعاشرة للأهل، والرد على من يؤثر دوام الانقباض، وفيه مبيت الصغير عند محرمه، وإن كان زوجها عندها، وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير، وإن كان مميزًا، بل وإن كان مراهقًا، وفيه صحة صلاة الصبيّ، وجواز فتل أذنه لتأنيه وإيقاظه. وقد قيل إن المتعلم إذا تعود بفتل أذنه كان أذَكى لفهمه، وفيه حمل أفعاله، صلى الله تعالى عليه وسلم، على الاقتداء به، وجواز التصغير، والذكر بالصفة في قوله "نام الغليم"، وبيان فضل ابن عباس، وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين، وحسن تأنيه في ذلك.