الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السادس: أبو هريرة، ومرَّ تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإِيمان.
لطائف إسناده:
منها أن فيه التحديث والعنعنة والإخبار بصيغة الإفراد والسماع. ووهب لم يرو له البخاري غير هذا الحديث، وفيه ثلاثة من التابعين في طبقة متقاربة أولهم عمرو. وأخرجه البخاري هنا ليس إلا، وهو من إفراده عن مسلم، وأخرجه التِّرْمِذيُّ في العلم والمناقب، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النَّسائيّ في العلم. ثم قال:
تابعه معمر عن همام عن أبي هريرة، يعني أن ابن راشد معمرًا تابع وَهْب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همّام. والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر بن علي المَرْوَزِيّ في كتاب العلم له عن حجّاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في "المدخل" عن عمرو بن شُعيب عن مُجاهد والمُغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو. فإنه كان يكتب ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب. واستأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في الكتابة عنه، فأذِن له. إسناده حسن. وله طرق أخر، ولا يلزم أن يكونا في الوعي سواء، لما مر من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم النسيان، ومعمر بن راشد قد مر تعريفه في متابعة بعد الحديث الثالث من بدء الوحي، وهمام مر تعريفه في الحديث السادس والثلاثين من كتاب الإيمان. وأبو هريرة مر تعريفه في الحديث الثاني من كتاب الإيمان.
قال عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه:"ضع القلم على أذنك، فإنه أذكر لك" وقوله لمعاوية: "أَلق الدواة، وحَرّف القلم، وأَقِم الباء، وفرّق السين، ولا تُعَوّر الميم" وقوله "لا تمدّ بسم الله" قال: وهذا، وإن لم يثبت أنه كتب، فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي. وقد صرح في حديث المُسَوَّر بأن عليًا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله "فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب" لبيان أن قوله "أرني إياها" أنه ما احتاج أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك "فكتب" فيه حذف تقديره "فمحاها فأعادها لعليّ فكتب". وبهذا جزم ابن التين، أو أطلق "كتب" بمعنى "أمر بالكتابة" وهو كثير، كقوله "كتب إلى قيصر"، "وكتب إلى كسرى" وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم، وهو لا يحسن الكتابة، أن يصير عالمًا بالكتابة. ويخرج عن كونه أميًا، فإن كثيرًا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصًا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًا، ككثير من الملوك. ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًا، وبهذا أجاب أبو جعفر السَّمْناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة، وتبعه ابن الجَوْزِيّ.
وتعقب ذلك السُّهَيليّ وغيره بأنَّ هذا وإن كان ممكنًا ويكون آية أخرى، لكنه يناقض كونه أميًا لا يكتب، وهو الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يكتب بعد ذلك، لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب، لكنه كان يكتم ذلك. قلت: هذا القول بعد تقرر الإِسلام ورسوخه في القلوب، وقوته وصيرورته
بالسيف، لا يؤثر ولا يضر. قال السُّهَيليّ: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا، والحق أن معنى قوله "فكتب" أي: أمر عليا أن يكتب.
وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير. وقوله "كتابًا" بعد قوله "بكتاب" فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز. وقوله "لا تضلّوا بعده" هو نفى وحذفت النون منه لأنه بدل من جواب الأمر من غير حرف العطف جائز. وقوله:"فقال عمر غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا" أي اشتد عليه فيشق عليه إملاء الكتاب، أو مباشرة الكتابة على ما مر من الاحتمالين، وكان عمر رضي الله تعالى عنه، فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل. قال القُرطبيّ وغيره:"ائتوني" أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر، رضي الله تعالى عنه، مع طائفة أنه ليس للوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قول الله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله تعالى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ولهذا قال عمر "حسبنا كتاب الله".
ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك. ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم؛ لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف. وكان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. قال المازَريّ: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريع أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها عن الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن، بأنه عليه الصلاة والسلام، قال ذلك من غير قصد جازم، وعزمه