الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخمسون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ. فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.
ولفظ الحديث المحتج به: عن عبد الله بن زيد، قال:"مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله"، وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المصنف.
وموضع الدلالة من الآية والحديث أن لفظ الآية مجمل؛ لأنه يُحتمل أن يُراد منها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبَّين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم يُنقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته، فإن ذلك دلَّ على أن التعميم ليس بفرض، فعلى هذا فالإِجمال الذي المسند إليه لا في الأصل.
وقوله: "عن أبيه" أي: أبي عُثمان يحيى بن عمارة بن أبي حسن.
وقوله: "أن رجلًا" هو عمرو بن أبي حسن كما سمّاه المصنف في الحديث الذي بعد هذا، وعلى هذا فقوله هنا:"وهو جدُ عمرو بن يحيى" فيه تجوُّز؛ لأنه عم أبيه، وسمَّاه جدًّا لكونه في منزلته، ووهم من زعم أن المراد بقوله:"وهو"
أي: عبد الله بن زيد؛ لأنه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا. وأما قول من قال: إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد. فغلط تُوُهِّم من هذه الرواية. وقد ذكر ابن سعد أن أم عمرو بن يحيى هي حَميدة بنت محمد بن إياس بن البُكير، وقال غيره: هي أم النُّعمان بنت أبي حيّة.
وقد اختلف رواة "الموطأ" في تعيين هذا السائل، وأما أكثرهم فأبهمه. قال مَعْن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه أنه سمع أبا حسن وهوجد عمرو بن يحيى، قال لعبد الله بن زيد -وكان من الصحابة- فذكر الحديث. وقال مُحمد بن الحسن الشَّيْباني عن مالك، حدثنا عمرو، عن أبيه يحيى أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد. وقال الشافعي في "الأم" عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، أنه قال لعبد الله بن زيد. وفي رواية الإسماعيلي، عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، قال: قلت لعبد الله.
والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال: اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو، وابن ابنه يَحْيى بن عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة وضؤ النبي صلى الله عليه وسلم وتولّى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن فحيثُ نُسب إليه السؤال كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سُليمان بن بلال عند المصنف في باب الوضوء من التَّوْر، قال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: كان عمي عمرو بن أبي حسن يُكثر الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني، فذكره. وكذا في رواية الدَّراوَرْدي عند أبي نُعيم في "المستخرج" عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد إلخ. وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز أيضًا، لكونه كان الأكبر وكان حاضرًا. وحيثُ نسب السؤال ليحيى بن عَمارة فعلى المجاز أيضًا، لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال. وفي رواية لمسلم عن خالد الواسِطىّ، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال: قيل له: توضأ لنا. فذكره مبهمًا. وفي رواية الإسماعيلي، عن خالد المذكور بلفظ: قلنا له. وهذا يؤيد الجمع المتقدم من كونهم اتفقوا على سؤاله، لكن متولي السؤال منهم
عمرو بن أبي حسن.
وقوله: "أتستطيعُ" فيه ملاحظة الطالب للشيخ، وكأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم، وسبب الاستفهام ما قام عنده من احتمال أن يكون الشيخ نسي ذلك لبعد العهد.
وقوله: "فدعا بماءٍ" وفي رواية وَهْب في الباب الذي بعده: "فدعا بتَوْرٍ من ماء".
وقوله: "فأفرغ" أي: صبَّ من الماء، وفي رواية وَهْب:"فاكفأ" بهمزتين، وفي رواية وُهَيب الآتية:"فكَفَأَ" بفتح الكاف، وهي لغتان، يقال: كفأ الإناء وأكفاه إذا أماله. وقال الكِسائي: كفأتُ الإناء كببتُه، وأكفأتُه أملته. والمراد في الموضعين إفراغ الماء من الإناء على اليد كما صرح به في رواية مالك.
وقوله: "فغسل يده مرتين" هكذا في رواية مالك بإفراد يده، وفي رواية وُهَيب وسليمان بن بلال عند المصنف والدَّراوردي عند أبي نُعيم:"فغسل يديه" بالتثنية، فيُحتمل الإفراد عند مالك على إرادة الجنس.
وعند مالك مرتين، وعند هؤلاء ثلاثًا، وكذا عند مسلم من رواية خالد بن عبد الله، وهؤلاء حفاظ، وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد. ولا يقال: يُحتمل على واقعتين؛ لأنّا نقول: المخرج متحد، والأصل عدم التعدُّد. والمراد باليدين هنا الكفَّان لا غير. وفي رواية لمسلم من طريق حبَّان بن وَاسِع، وعن عبد الله بن زيد، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وفيه:"وغسل يده اليمنى ثلاثًا، ثم الأخرى ثلاثًا" فيُحمل على أنه وضوء آخر، لكون مخرج الحديثين غير متحد.
وقوله: "ثم مَضْمَض واستنثر ثلاثًا" وللكُشْميهني: "مضمض واستنشق" والاستنثار يستلزم الاستنشاق بلا عكس، وقد ذكر في رواية وُهَيْب الثلاثة، وزاد بعد قوله:"ثلاثًا، بثلاث غرفات"، واستدل به على استحباب الجمع بين
المضمضة والاستنشاق من كل غَرْفة. وفي رواية خالد بن عبد الله الآتية قريبًا: "مضْمضَ واستنشق من كفٍّ واحدة" فعل ذلك ثلاثًا، وهو صريح في الجمع في كل مرة، بخلاف رواية وُهَيْب، فإنها تطرقَّها احتمال التوزيع بلا تسوية، وفي رواية سليمان بن بلال في باب الوضوء من التَّورْ:"فمضمضَ واستنشق ثلاث مرات من غَرْفةٍ واحدة"، واستدل بها على الجمع بغَرْفة واحدة. وفي رواية خالد المذكورة عند مسلم:"ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض"، فاستُدل بها على تقديم المضمضة على الاستنشاق، لكونه عطف بالباء التعقيبية، وفيه بحث. وقد مرَّ الكلام على المضمضة والاستنشاق متفرقًا في مواضع ذكرهما.
وقوله: "ثم غسل وجهه ثلاثًا" لم تختلف الروايات في ذلك.
قال في "الفتح" ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم مسح الرأس أن يستدلَّ به على وجوب الترتيب، للإتيان بقوله:"ثم" في الجميع؛ لأن كلاًّ من الحكمين مجملٌ في الآية بينته السنة. ويجاب عن هذا بأن الآية دلَّت على عدم وجوب الترتيب للعطف فيها بالواو، فيُحتمل الترتيب في الحديث على السنة، بخلاف مسح الرأس كله، فهو ظاهر الآية، فبينت السنة وجوبه.
وقوله: "غسل يديه مرتين مرتين" كذا بتكرار مرتين، ولم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في غسل اليدين مرتين، وقد مرت رواية مسلم عن حِبَّان بن واسِع.
وقوله: "إلى المرفقين" بالتثنية مع فتح الميم وكسر الفاء، وفي رواية الأصيلي بكسر الميم وفتح الفاء، وفي رواية المُسْتَملي والحموي:"إلى المرفق" بالإفراد على إرادة الجنس وهو مفصل الذراع والعَضُد، وسمي بذلك لأنه يُرتفق به في الاتِّكاء.
واختلف العلماء هل يدخُل المرفقان في غسل اليدين أم لا، فقال الجمهور: نعم. وخالف زُفر، وحكاه بعضهم عن مالك، ولم يثبت ذلك عنه صريحًا، وانما حكى عنه أَشْهب كلامًا محتملًا.
واحتج بعضهم للجمهور بأن إلى في الآية والحديث بمعنى مع، كقوله تعالى:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، ورُدَّ هذا بأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن القرينة دلّت عليه، وهي كون ما بعد إلى من جنس ما قبلها.
وقال ابن القصار: اليد يتناولها الاسم إلى الإبط، لحديث عمار:"أن يتيمم إلى الابط" وهو من أهل اللغة، فلما جاء قوله تعالى:{إِلَى الْمَرَافِقِ} بقي المرفق مغسولًا مع الذِّراعين بحق الاسم فعلى هذا فإلى هنا حد للمتروك من غسل اليدين لا للمغسول. وفي كون ذلك ظاهرًا من السياق نظر.
وقال الزَّمَخْشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقًا، فأما دُخولها في الحكم وخروجها فأمرٌ يدور مع الدليل، فقدله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] دليل عدم الدخول النهي عن الوصال. وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره. دليل الدخول كون الكلام مسوقًا لحفظ جميع القرآن. وقوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زُفر مع المتَيِّقن.
ويمكن أن يُستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدَّارقطني بإسناد حسن عن عثمان في صفة الوضوء:"فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضُدَيْن" وفيه عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ ادار الماء على مرفَقَيه" لكن إسناده ضعيف. وفي البزار والطبراني عن وائل بن حَجَر في صفة الوضوء: "وغسل ذِراعيه حتى جاوزَ المِرفق"، وفي الطحاوي والطبراني عن ثعلبة بن عبّاد، عن أبيه مرفوعًا:"ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه" فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا. قال إسحاق بن راهويه: إلى في الآية يحتمل أن تكون بمعنى الغاية، وأن تكون بمعنى مع، فبينت السنة أنها بمعنى مع، وقد قال الشافعي في "الأم": لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فعلى هذا فزُفر محجوج بالاجماع قبله، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر بعده، وقد مر في أول هذا الكتاب بعض الكلام على غسل المرافق
عند ذكر الآية.
وقوله: "ثم مسح رأسه بيديه" زاد ابن الطبّاع: "كله" كما في رواية ابن خزيمة في "صحيحه" الماضية، وفي رواية خالد بن عبد الله:"برأسه" بزيادة الباء.
قال القرطبي: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه.
وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولًا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحًا به، فلو قال: وامسحوا برؤوسكم. لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، فهو على القلب، والتقدير: وامسحوا رؤوسكم بالماء.
وقال الشافعي: احتمل قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلّت السنة على أن بعضه يجزىء، والفرق بينه وبين قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء: 43] في التيمم، أن المسح فيه بدل من الغسل، ومسح الرأس أصل، فافترفا، ولا يرد كون مسح الخفِّ بدلًا من غسل الرجل؛ لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.
ويرد على ذلك أنه قيل: لعله اقتصر على مسح الناصية لعذر؛ لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية كما هو ظاهر من سياق مسلم في حديث المغيرة.
وقال الشافعية: قد روي عنه مسح مقدم الرأس من غير مسح على العمامة ولا تعرض لسفر، وهو ما رواه الشافعي عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه. وهو مرسل، ولكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولًا، أخرجه أبو داود عن أنس، وفي إسناده أبو معقِل لا يعرف حاله، فقد اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من المجموع. وفي الباب أيضًا عن عثمان في صفة الوضوء، قال: ومسح مقدَّم
رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مُختلف فيه. وصحَّ عن ابن عُمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم، وهذا كله مما يتقوى به المرسل المتقدم، قال فى "الفتح".
قلت: انظر كيف يقوى المرسل من القوة حتى يعارض الأحاديث الصحيحة المرفوعة، وكيف يلتئم هذا مع ما يأتي عنه في باب صب الماء على البول في المسجد من أن المرسل عند الشافعي لا يعتضد إلا إذا كان من كبار التابعين، وكان من أرسل إذا سمي لا يُسمى إلا ثقة، فهل وُجدت هذه الشروط هنا.
واحتجّوا أيضًا بأن الباء للتبعيض، وعورض بأن بعض أهل العربية أنكر كونها للتبعيض. قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التَّبعيض فقد جاء عن أهل اللغة بما لا يعرفون. وأجيب بأن ابن هشام نقل التبعيض عن الأصمعي والفارسي والقُتَيبي وابن مالك والكوفيين، وجعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان].
قلت: مع هذا الاختلاف لا يتحقق حامل الآية على التبعيض أنه مصيب في حمله للوجه العربي، فبقي الاحتياط في الدين عدم العمل على التبعيض.
وقال بعضهم: الحكم في الآية مجمل في حق المقدار فقط؛ لأن الباء للالصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل إلى محل المسح، فيتناول جميعه كما تقول: مسحت الحائط بيدي، ومسحت رأس اليتيم بيدي. فيتناول مسح الحائط كله، ورأس اليتيم كله. وإذا قُرنت بمحل المسح يتعدّى الفعل بها إلى الآلة، فلا تقتضي الاستيعاب، وإنما تقتضي التصاق الآلة بالمحل، وذلك لا يستوعب الكل عادة، فمعنى التبعيض إنما ثبت بهذا الطريق.
لكن يلزمهم على هذا أن يكون الواجب مسح قدر اليد من الرأس، وهم لا يقولون بذلك، بل يحصل المسح عندهم بشعرات. وأما استدلال الحنفية
على إيجاب مسح الربع بمسحه عليه الصلاة والسلام بالناصية، وأنه بيان للاجمال فى الآية؛ لأن الناصية ربع الرأس. فاجيب عنه بأنه لا يكون بيانًا إلا إذا كان أول مسحه كذلك بعد الآية، وليس الأمر كذلك. وبأن قوله:"بناصيته" يحتمل بعضها كما جاء نظيره في "برؤوسكم". وبأن حديث المغيرة فيه: "ومسح على العمامة" فهو دال على وجوب تعميم الرأس بالمسح، فلو لم يكن ذلك لاقتصر على الناصية، وأما عدم نزع العمامة فلعذرٍ اقتضى ذلك.
وقوله: "فأقبل بهما وأدبر" أي: بهما ولمسلم: "مسح رأسه كله، وما أقبل، وما أدبر، وصدغيه".
وقوله: "بدأ بمقدَّم رأسه" بفتح الدال المشددة، بأن وضع يديه عليه، وألصق مسبّحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه، والجملة عطف بيان لقوله:"فأقبل بهما وأدبر"، ومن ثَم لم تدخل الواو على قوله:"بدأ".
وقوله: "ثم ردَّ هما إلى المكان الذي بدأ منه" أي: ليستوعب جهتي الشعر بالمسح.
عندنا معاشر المالكية للإتيان بالسنة، سواء كان على الرأس شعرًا أم لا.
والظاهر أن هذا من الحديث، وليس مدرجًا من كلام مالك، وقد جعله مالك، وابن عُلَيّه، وأحمد في رواية، وأصحاب مالك غير أَشْهب بيانًا للمسح الواجب وبيان الواجب واجب.
وقال القسطلاّني: لا يُقال: إنه بيان للواجب؛ لأنه يلزم منه وجوب الدر إلى المكان الذي بدأ منه، ولا قائل بوجوبه، ويلزم أن يكون تثليث الغسل وتثنيته واجبين؛ لأنهما بيان أيضًا، فالحديث ورد في الكمال، ولا نزاع فيه، بدليل أن الإقبال والإدبار لم يُذكرا في غير هذا الحديث.
قلت: ما قاله يجاب عنه بأن الردَّ والتثليث والتثنية ورد في الأحاديث عدم فعلها، فدل ذلك على أن فعلها للفضل لا للوجوب، ولا كذلك تعميم مسح
الرأس، فلم يرد في الاقتصار على بعضه إلا ما مر مما لا يُعارض الصحيح.
قال في "الفتح" وهذا يختصُّ بمن له شعر.
قال القسطلاّني: وإلا فلا حاجة إلى الردِّ، فلو رد لم تُحسب ثانية؛ لأن الماء صار مستعملًا. وهذا التعليل يقتضي أنه لو رد ماء المرة الثانية حُسبت ثالثة، بناء على الأصح، من أن المُستعمل في النَّفل طهور، إلا أن يُقال: السنة كون كل مرة بماء جديد.
قلت: ما قاله غير وارد على المالكية. فإن مذهبهم أن الرد سنة لا واجب، كان على الرأس شعرٌ أو لم يكن، ومذهبهم أن الماء ما دام على العضو لا يصير مستعملًا.
وفيه حجة على من قال: السنة أن يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه، لظاهر قوله:"أقبل وأدبر" ويرد عليه أن الواو ولا تقتضي الترتيب، ويأتي قريبًا عند المصنف من رواية سُليمان بن بلال:"فأدبر بيديه، وأقبل" فلم يكن في ظاهره حجة؛ لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متَّحد، فهما بمعنى واحد، وعَيَّنَت رواية مالك البداءة بمقدم الرأس، فيحمل قوله:"أقبل" على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي: بدأ بقُبُل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك.
وقوله: "ثم غسل رجليه" زاد في رواية وُهيب الآتية: "إلى الكعبين"، والبحث فيه كالبحث في قوله:"إلى المرفقين".
والمشهور أن الكعب هو العظم الناشز عند ملتقى الساق والقدم، وحكى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة: إنه العظم الذي في ظهر القدم عند معقد الشراك. وروى ابن القاسم عن مالك مثله. والأول هو الصحيح الذي يعرفه أهل اللغة.
وقد أكثر المتقدمون من الرد على من زعم ذلك، ومن أوضح الأدلة حديث