الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والستون
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِى قِرَاءَتِنَا.
قوله "في خِرَب المدينة" هو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء، جمع خِرْبة بالسكون، ويقال بفتح الخاء وكسر الراء، ككَلِمة وكلْمَة، وهذا أصوب، وأوفق للقياس. وفي التفسير:"في حرث" بفتح المهملة وسكون الراء، وعند مسلم بلفظ "كان في نخل" ولابن مردويه "في حرث للأنصار". وهذا يدل على أن نزول الآية وقع في المدينة، لكن روى التِّرمِذيُّ عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل عنه فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ورجاله رجال مسلم، ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك إن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصح. وقوله "وهو يتوكأ" جملة اسمية حالية، أي يعتمد. وقوله "على عَسِيب" بمهملتين آخره موحدة بوزن عظيم، وهي الجَرِيدة التي لا خُوص لها. وفي رواية ابن حبان "ومعه جريدة". قال ابن فارس: العُسْبان من النخل كالقُضْبان من غيره. وقوله "فمر بنفر من اليهود" النَّفَر بالتحريك، عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة، وفي
رواية التفسير "إذ مر اليهود" بالرفع على الفاعلية، وعند الطبريّ "إذ مررنا على يهود" ويحمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا، فيصدق أن كلًا مر بالآخر.
وقوله "على يهود" هذا اللفظ معرفة تدخله اللام تارة، وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة، ففرقوا بين مفرده وجمعه بالياء في المفرد، كما قالوا زنْج وزنْجي، وليس في شيء من الطرق تسمية من هؤلاء اليهود. وقوله "لا يجيء فيه بشيء تكرهونه" برفع يجيء على الاستئناف، والمعنى لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، وبالجزم على جواب النهي، وهو على مذهب الكوفيين، وبالنصب على معنى لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء. ولا زائدة. وفي رواية التفسير "لا يستقبلكم بشيء تكرهونه" وفي الاعتصام لا يسمعكم ما تكرهون"، وهي كلها بمعنىً وإعراب.
وقوله فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ وسؤالهم بقولهم: ما الروح؟ مُشْكلٌ، لأن الروح جاء في القرآن لمعان كثيرة، كما سترى إن شاء الله تعالى، لكن الأكثرون على أنهم سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد. وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في الجسد، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه. وقال القرطبي: المرجح أنهم سألوه عن روح الإنسان، لأن اليهود لا تعترف بان عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملَك، وأن الملائكة أرواح.
وقال فَخْر الدين الرّازِيّ: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، كما قال الجمهور، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيّز أم لا؟ وهل قديمة أو حادثة؟ وهل تبقى بعد إنفصالها عن البدن أو تفنى؟ وما حقيقة تنعيمها أو تعذيبها؟ وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة. والجواب يدل على أنها
شيء موجود، مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد، ولا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى {كُنَّ} [البقرة: 228]، فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه.
وجنح ابن القيِّم في "كتاب الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، قال: وأما أرواح بني آدم، فلم تقع تسميتها في القرآن إلا نفسًا، كذا قال، وفيه نظر، إذ لا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري عن ابن عباس في هذه القصة أنهم قالوا عن الروح: وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.
وقيل: سألوه عن جبريل، وقيل: عن عيسى، وقد مر ما قاله القرطبيُّ في ذلك، وقوله "فقلت إنه يوحى إليه فقمت" أي: حتى لا أكون مشوشاً عليه، أو فقمت حائلًا بينه وبينهم. وفي رواية التفسير "فقمت مقامي" وفي الاعتصام "فتأخرت عنه". وقوله "فلما انجلى عنه" أي: انكشف عنه عليه الصلاة والسلام الكرب الذي كان يتغشاه حال الوحي. وقوله "فقال"، وفي رواية الأربعة "قال". وقوله "ويسألونك" بإثبات الواو، كالتنزيل. وفي رواية أبي ذَرّ والأصيليّ وابن عساكر "يسألونك" بحذف الواو. وقوله "قل الروح من أمر ربي". أي من الإبداعيات الكائنة "بكن" من غير مادة، وتولد من أصل واقتصر على هذا الجواب، كما اقتصر موسى عليه السلام في جواب {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] بذكر بعض صفانه، إذ الروح لدقته، لا تمكن معرفة ذاته، إلا بعوارض تميزه عما يلتبس، فلذلك اقتصر على هذا الجواب، ولم يبين الماهية لكونها مما استأثر الله بعلمها، ولأن في عدم بيانها تصديقاً لنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقوله "من أمر ربي" قال الفخر: يحتمل أن يكون المراد بالأمر الفعل، كقوله {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله، فيكون الجواب
الروح من فعل ربي، إن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة، فيكون الجواب أنها حادثة. وقال الإسماعيلى: المراد أن الروح من جملة أمر الله، وأن الله اختص بعلمه، ولا سؤال لأحد عنه، وقال ابن القيم: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقًا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور، كالخلق على المخلوق، ومنه {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] وقال ابن بطّال: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه، بدليل هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق، ليُعرِّفَهُم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه.
وقال القرطبيُّ: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب الأولى، وقيل: المراد بقوله "من أمر ربي" كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة. ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح، أن عندهم في التوراة، أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله، فقالوا نسأله، فإن فسرها فهو نبيَّ، وهو معنى قولهم "لا يجيء بشيء تكرهونه" وروى الطبريُّ في هذه القصة: فنزلت الآية، فقالوا: هكذا نجده عندنا. ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإِسناد علقمة.
وقد اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية، أقوالٌ كثيرةٌ، فمن الذي في القرآن {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15]{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]. فالأول جبريل، والثاني القرآن. والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره.
ووقع إطلاق روح الله على عيسى، وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح. وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد به في الآية، وقد مر ما قيل في الروح المسؤول عنه من الاختلاف، وقيل: الروح ملَكٌ يقوم وحَدْه صفًا يوم القيامة، وقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه. وقيل: ملك له سبعون ألف لسان، وقيل: له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله تعالى، يخلق الله بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة. وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش. وقيل: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم الروح، يأكلون ويشربون، لا ينزل ملك من السماء، إلا نزل معه واحد منهم. وقيل: بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون.
وقد اختلف في حقيقة الروح التي بها حياة البدن من ادَّعى معرفة حقيقتها اختلافًا كثيرًا متباينًا، فقيل هي النَّفس الداخل والخارج، وقيل الحياة، وقيل: جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل: هي الدم، وقيل: هي عرض، حتى قيل إن الأقول فيها بلغت مئة. ونقل ابن مَنْده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة. وقال ابن العربيّ. اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شيء واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس، كما يعبر عن الروح والنفس بالقلب وبالعكس، وقد يعبر بالروح عن الحياة، حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء، بل إلى الجماد مجازًا.
وقال السهيليّ: يدل على مغايرة الروح والنفس. وقوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] وقوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك.
قلت: لم أفهم ما قاله من كونه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، فمن أي وجه عدم الصحة؟ من اللفظ؟ فاللفظ ممكن، أو من جهة المعنى، فالمعنى غير محقق حتى يحكم عليه بعدم الصحة.
وقد أمسك كثير من السلف عن الخوض فيها، فممن رأى الإمساك عن ذلك أستاذ الطائفة أبو القاسم الجُنَيد، فقال فيما نقله في "عوارف المعارف" عنه، بعد أن نقل كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك، والتأدب بادب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ثم نقل عن الجنيد أنه قال: الروح استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير.
وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليط، لكونه يطلق على أشياء، فأضمروا بأنه بأي شيء أجاب، قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله تعالى كيدهم، وأجابهم جوابًا مجملًا مطابقًا لسؤالهم المجمل. وقال السَّهْروردي في "العوارف": يجوز أن يكون من خاض فيها، سلك سبيل التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذكر ما لا يحتمل إلا به من غير قطع، بأنه المراد، فمن ثم يكون القول فيه.
قال: وظاهر الآية المنعُ من القول فيها، لختم الآية بقوله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه، فلا تسألوا عنه، فإنه من الأسرار. وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه، ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا، وقد خالف الجُنَيد ومن تبعه من الأئمة جماعةً من متأخري الصوفية، فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها، وعاب من أمسك عنها. ونقل ابن مَنْده في كتاب الروح له، عن محمد بن نصر المَرْوَزِي