الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والعشرون
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قوله: "فأفرغ على كفيه ثلاث مرار" يعني: فصب الماء ثلاث مرار على كفيه، وفي رواية الأصيلي وكريمة:"ثلاث مرات". والظاهر أنه أفرغ على واحدة بعد واحدة لا عليهما، وقد بين في رواية أخرى أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى.
وقوله: "فغسلهما" قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، واختلف العلماء في أيهما أفضل، فمشهور مذهب مالك التفريق أفضل، ومذهب الشافعية الجمع أفضل، واستدلوا بقوله:"غسلهما ثلاثًا" قالوا: لو أراد التفريق لقال: غسلهما ثلاثًا ثلاثًا. ولا يخفى أن ما قالوه غير لازم من اللفظ لمن تأمل فيه.
وفي الحديث غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، ولو لم يكن عقب نوم احتياطًا.
وقوله: "ثم أدخل يمينه في الإناء" أي: فأخذ منه الماء. وفيه الاغتراف
باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف. قال في "الفتح": ولا دلالة فيه نفيًا ولا إثباتًا.
وقوله: "فمضمض" في رواية "فتمضمض" بالتاء بعد الفاء. والمضمضة: ادخال الماء في الفم، وخضخضته فيه، ومجه بقوة.
وقوله: "واستنثَرَ" الاستنثار هو طرح الماء من الأنف بعد الاستنشاق، وسيأتي الكلام عليه وعلى حكمته في الباب الذي يليه. وفي رواية الكُشْميهني:"واستنشق" بدل قوله: "واستنثر". وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة.
وليس في طرق هذا الحديث تقييد المضمضة والاستنشاق بعدد غير طريق يونس عن الزُهري فيما ذكره ابن المنذر، وكذا فيما ذكره أبو داود بوجهين آخرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه، فإن في أحدهما:"فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا"، وفي الآخر:"فتمضمض واستنشق ثلاثًا".
وقوله: "ثم غسل وجهه ثلاثًا" أي: غسلًا ثلاثًا، وحد الوجه طولًا من قُصاص الشعر إلى أسفل الذهن، وحده عرضًا من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن اتفاقًا فيما بين العارض والعارض، وعلى المشهور فيما بين الأذن والعارض.
وفيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق كما دل عليه العطف بثم المقتضية للمهلة والترتيب، وحكمة ذلك اعتبار أوصاف العبادة؛ لأن اللون يُدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف، فقدِّمت المضمضة والاستنشاق -وهما مسنونان- قبل الوجه -وهو مفروض- احتياطًا للعبادة.
وقوله: "ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار"،. والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء، وبالعكس، لغتان مشهورتان.
وقوله: "ويديه" أي: كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزُّهري في الصوم، وكذا مسلم من طريق يونس، وفيها تقديم اليمنى على اليُسرى، والتعبير في كل منهما بثُمَّ، وكذا القول في الرجلين أيضًا.
وقوله: "ثم مسح برأسه" وجاء حذف الباء في الروايتين المذكورتين في هذا الحديث، وليس في شيء من طرقه عند "الصحيحين" ذكر عدد للمسح، فاقتضى ذلك الاقتصار على مرة واحدة وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، إلاّ أن مالكًا يُسنُّ عنده رد مسح الرأس كما يأتي إن شاء الله تعالى مستوفي في باب مسح الرأس كله. وقال الشافعي: يستحبُّ التثليث في المسح كما في الغَسْل، واستدل بظاهر رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا. وأجيب بأنه مجمل، تَبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب، أو يختص بالمغسول.
قال أبو داود في "السنن": أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. وقال ابن المُنذر: الثابت عنه عليه الصلاة والسلام في المسح مرة واحدة. وأيضًا: المسح مبني على التخفيف، فلا يُقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ. وأيضًا لو اعتبر العدد في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدلك غير مشترط على الصحيح عند أكثر العلماء، وقد اتفق على كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزئًا.
وبالغ أبو عبيد فقال: لا نعلم أحدًا من السلف استحب تثليث الرأس إلاّ إبراهيم التّيمي، وفيما قاله نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خُزيمة وغيره في حديث عثمان بتثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة، لكن لا يخفى أن هذه الزيادة شاذة، لما مر قريبًا عن أبي داود فلا تثبت بها حجة لشذوذها.
وقوله: "ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى المرفقين" أي: مع الكعبين، وهما العظمان المرتفعان عند مفصل الساق والقدم. وقوله:"من توضأ نحو وضوئي هذا" قال النووي: إنما لم يقل مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يُقدر عليها. لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق، ولفظه:"من توضأ مثل هذا الوضوء" وله في الصيام: "من توضأ وضوئي" ولمسلم عن حُمران: "توضأ مثل وضوئي هذا" وعلى هذا فالتعبير بنحومن تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية
مجازًا، ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهرًا لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يُخِلُّ بالمقصود.
وقال ابن دقيق العيد: بين نحو ومثل فرق من حيث إن لفظ "مثل" يقتضي المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين، بحيث يخرجان من الوحدة. ولفظ "نحو" لا يقتضي ذلك. ولعلها استُعملت هنا بمعنى المثل مجازًا، أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدَحُ في المقصود.
وفي "شرح العمدة": إنما حمل "نحو" على معنى "مثل" مجازًا أو على جل المقصود، لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين، باختلال شيء منها يختل الثواب المترتب، بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه يُكتفى فيه بأصل الفعل الصادق عليه الأمر، نعم علمه عليه الصلاة والسلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمه غيره، وحينئذ فيكون قول عثمان رضي الله تعالى عنه "مثل" بمقتضى الظاهر.
وقوله: "ثم صلى رَكْعتين" فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء.
وقوله: "لا يحدث فيهما نفسه" قال في "الفتح": المراد به ما تسترسل النفس معه، ويمكن المرء قطعه؛ لأن قوله:"يحدِّث" يقتضي تكسبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفوٌّ عنه.
ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلًا ورأسًا، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ "لم يُسِرَّ فيهما".
ورده النووي، فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقره، نعم: من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلًا أعلى درجة بلا ريب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما ضمن الغفران لمن راعى ذلك بمجاهدة نفسه عن خطرات الشيطان، ونفيها عنه، وتفرغ قلبه، ولا ريب أن المتجردين عن شواغل الدنيا، الذين غلب ذكر الله على قلوبهم يحصل لهم ذلك.
وروي عن سعد رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما قمت في صلاة فحدثتني نفسي فيها بغيرها. قال الزُّهري: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا، ما ظننت أن يكون هذا إلاّ في نبي.
ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد رفعه مطلقًا، ووقع في رواية الحكيم الترمذي في هذا الحديث:"لا يحدِّث نفسه بشيء من أمور الدنيا" وهو في "الزهد" لابن المبارك أيضًا، "والمصنف" لابن أبي شَيبة. ومنها ما يتعلق بالآخرة، فإن كان من متعلقات تلك الصلاة كالتفكر في معاني ما يتلوه من القرآن، فذلك سائغ فاضل، وإن كان أجنبيًّا منها أشبه أحوال الدنيا، ولذا قال البِرماوي فيما روي أن عمر كان يجهز جيشه في الصلاة: ينبغي تأويله لكونه لا تعلق له بالصلاة، إذ السائغ إنما هو ما يتعلق بها من فهم المتلو فيها وغيره، كما قاله عز الدين بن عبد السلام.
وقوله: "غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" بضم الغين مبنيًّا للمفعول، ولابن عساكر:"غفر الله له"، وظاهره يعم الصغائر والكبائر، لكنهم خصصوه بالصغائر دون الكبائر، لما في مسلم من التصريح بذلك، فيُحمل المطلق على المقيد. وزاد ابن أبي شيبة "وما تأخر"، ويأتي لفظه إن شاء الله تعالى في باب المضمضة، وقد استوفيت الكلام على هذا البحث في كتاب الإيمان عند حديث قيام ليلة القدر.
وفي رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تَغْتَروّا" أي: لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب، فتسترسلوا في الذنوب اتكالًا على غفرانها بالصلاة، فإن الصلاة التي تكفر الذنوب هي المقبولة، ولا اطلاع لأحد عليه. أو المعنى هو أن المكفَّر بالصلاة هو الصغائر، فلا تغتروّا فتعملوا الكبيرة بناء على تكفير الذنوب بالصلاة، فإنه خاص بالصغائر. أو: المعنى لا تستكثروا من الصغائر، فإنها بالإصرار تُعطى حكم الكبيرة، فلا يكفرها ما يكفر الصغيرة. أو: إن ذلك خاص بأهل الطاعة، فلا يناله من هو مرتبك في المعصية.