الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلَالٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ".
قوله: "رَقِيتُ" بفتح الراء وكسر القاف أي: صعدت.
وقوله: "فتوضأ" بالفاء التعقيبية، وفي نسخة بالواو، ولأبي ذرِّ:"توضأ" بدونهما، وللإسماعيليّ وغيره:"ثم توضَّأ" وللكُشْمِيْهَنِيِّ: "يومًا" بدل توضأ، وهو تصحيف. وزاد مسلم:"إن أبا هُريرة قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ"، فأفاد رفعه. وفيه ردُّ على مَنْ زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة، بل هو من روايته ورأيه.
وقوله: "فقال" وفي رواية الأربعة: "قال" بحذف حرف العطف على الاستئناف، كأنَّ قائلًا قال: ثم ماذا؟ فقال: قال: إني سمعت إلخ.
وقوله: "يقول" حال، وهو بلفظ المضارع استحضارًا للصورة الماضية، أو لأجل الحكاية عنها.
وقوله: "إنَّ أمتي" أي: أمة الإجابة، وقد تُطلق أمة محمد ويُراد بها أمة الدعوة، وليست مرادة هنا.
وقوله: "يُدعَوْن يومَ القيامة" -بضم أوله وفتح ثالثه- أي: ينادَوْن على رؤوس الأشهاد بذلك، أو يسمَّوْنَ بذلك.
وقوله: "غُرًّا" -بضم المعجمة وتشديد الراء- جمع أغرَّ أي: ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. و"غرَّا" منصوب على المفعولية ليُدعون، أو على الحال، أي: إنهم إذا دُعوا على رؤوس الأشهاد نُودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة.
وقوله: "محجَّلين" -بالمهملة والجيم- من التحجيل، وهو بياض يكون في قوائم الفرس، أو في ثلاث منها، وأصله من الحِجْل -بكسر المهملة- وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضًا النور.
فإن قيل: الغرة والتحجيل في الآخرة صفات لازمة غير منتقلة، فكيف يكونان حالين؟ أجيب: بان الحال تكون منتقلة أو في حكم المنتقلة إذا كانت وصفًا ثابتًا مؤكدًا، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91]، ومنه:"خلق الله الزرافة يديها أطولَ من رجليها" فأطول حال لازمة غير منتقلة، لكنّها في حكم المنتقلة، لأن المعلوم من سائر الحيوانات استواء القوائم الأربع، فلا يخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه، وكذلك هنا المعلوم في سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم، صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى.
وأخصر من هذا أن كون الحال منتقلة وصف غالب لا لازم كما قال ابن مالك.
ويُحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض، ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة، فتكون منتقلة بهذا المعنى.
وقوله "من آثار الوضوء" أي: لأجل، أو: من سببية، أي: بسبب آثار الوضوء ومثله قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]، أي: بسبب خطاياهم أُغرِقوا، وحرف الجر متعلق بمحَجَّلينَ، أو بيدعوَن على الخلاف في التنازع بين البصريين والكوفيين. و"الوُضوء" بضم الواو ويجوز فتحها، فإن الغرة
والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسب إلى كل منهما.
واستدل الحُلَيْميُّ بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لما أخرجه المصنف في قصة سارة رضي الله تعالى عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة "لما همَّ الملِكُ بالدنوِّ منها قامت تتوضّأُ وتصلّي"، وفي قصة جُرَيْج الراهب أيضًا أنه "قام فتوضأ وصلّى ثم كلَّم الغلام"، فالظاهر أن الذي اختُصَّت به هذه الأمة هو الغُرة والتحجيل لا أصل الوضوء. وقد صُرِّح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال:"سِيْما ليست لأحدٍ غيرِكم" وله من حديث حذيفة نحوه، وسِيْما -بكسر المهملة وإسكان الياء الأخيرة- أي: علامة. واعترض بعضهم على الحُلَيْمي بحديث: "هذا وُضوئي ووضوءُ الأنبياءِ قبلي" وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة.
وقوله: "فمن استطاعَ منكم أن يطيلَ غرَّتَهُ فلْيفعلْ" أي: فليُطِلِ الغرة والتحجيل، واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى، نحو:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي والبرد، واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنئة دون التحجيل وهو مذكر، لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في رواية مسلم ذكر الأمرين، ولفظه:"فلْيطلْ غرتَه وتحجيلَه". ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تُطلق على كلٍّ من الغرة والتحجيل. وقال ابن بطّال: كنّى أبو هريرة بالغُرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله. وفيما قاله نظر، لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوعٌ؛ لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسِلَ إلى صفحة العنق مثلًا، قاله في "الفتح".
قلت: وفيه عجب، لأنه نقل عن الرافعي الذي هو على مذهبه أن الغرة تطلق على كلٍّ من الغرة والتحجيل ولم يعترض عليه، ولما قال ابن بطّال ما قاله الرافعي، قال: إن فيه قلب اللغة. ومراد ابن بطّال أن الزيادة في غير الوجه من أعضاء الوضوء زيادة في العضو الذي أمر الشارع بغسله لإطلاق اليد إلى الإبط،
والرجل إلى أصل الفخذ، والزيادة في الوجه لا يمكن أن تكون في العضو المطلوب غسله، بل هي في عضوآخر، إما الرأس، وإما العنق، وهذا مخالف لقوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إذ لا يطلق على واحد من الرأس والعنق أنه من الوجه.
واختلف القائلون بالزيادة على الفرض في القدر المستحب من التطويل في التحجيل، فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة روايةً وعملًا، وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شَيْبة وأبو عُبيد بإسنادٍ حسن. وقيل: المستحب الزيادة إلى نصف الساق والعضد. وقيل: إلى فوق ذلك. وأما الغرة فتحصُلُ بأن يغسل شيئًا من مقدَّم رأسه، وما يجاوز وجهه زائدًا على القدر الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه.
وحمل ابن عرفة من المالكية فيما نقله الأُبِّيُّ عنه الغرة والتحجيل على أنهما كناية عن إنارة كل الذات، لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء واستدل بما أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الله بن بُسر:"أمَّتي يومَ القيامةِ غرٌّ من السجود، محجلةٌ من الوضوء".
قلت: هذا الحديث مفسر لكون المراد من حديث الباب الإنارة لا اعتبار فيه بلفظ الإِطالة، وتفسر الإطالة المذكورة في الحديث بأن المراد بها المداومة على الوضوء، لأن الطول والدوام معناهما واحد، ويمواظبة على الوضوء لكل صلاة تطول غرته بتقوية نور أعضائه.
وما قاله في "المصابيح" من أن حديث الترمذي معارَض بظاهر ما في البخاري غير ظاهر، إذ لا معارضة بينهما، بل الظاهر ما قلناه من كونه تفسيرًا له.
وكذلك قول صاحب "الفتح": "إن تفسير الإطالة بالدوام معتَرَضٌ بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، وكيف وقد صرح برفعه إلى الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم". فيه أن مذهب الراوي أو تفسيره ليس حجة على مجتهد آخر على ما هو المعروف. وقوله: "وقد صرح برفعه إلى الشارع" إنما صرح إذا كان
صرح باللفظ لا بالتفسير، والخلاف بيننا إنما هو في تفسير اللفظ لا في اللفظ، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما في اللفظ.
وادّعى ابن بطّال وعِياض وابن التّين اتِّفاق العلماء على عدم استحباب الزيادة على المرفق والكعب، واستدلّوا بحديث "مَنْ زاد على هذا فقد أساء وظلم".
ورد عليهم في "الفتح" منتصرًا لمذهبه بأن ما قالوه معتَرضٌ من وجوه: فرواية مسلم صريحة في الاستحباب، فلا تعارض بالاحتمال. وبأن دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك مردودة بما مر عن ابن عُمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية، والحديث إنما هو في الزيادة في عدد المرات أو النقص عن الواجب.
وما قاله فيه اعتراض، لأن رواية مسلم التي قال صريحة في الاستحباب، ليس فيها تصريح بتفسير الغرة والتحجيل واستحبابهما، فهي كرواية البخاري في قبول التأويل. ومرادهم بالعلماء المتفِّقين على خلاف أبي هُريرة الصحابة، يعنون أنهم لم يرفعوا هذه الزيادة، وابن عمر لم يرفعها، وإنما رُويت عنه من فعله، وفعله لا يجب على مجتهد اتِّباعه كما هو معلوم، واستدلالهم بالحديث في غاية الإيضاح؛ لأنه إذا كانت الزيادة على ما حدَّه الشارع من المستحبّات مكروهة، فأحرى أن تكون في المحدودات الواجبة أشد كراهة، وهذا بديهي، فالله تعالى قال:{إِلَى الْمَرَافِقِ} ، و {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، وقال:{وُجُوهَكُمْ} . وكون الزيادة لم ترو عن أحد من الصحابة إلا عن أبي هُريرة في رواية نُعيم عنه خاصة صرح به في "فتح الباري" فقال: ظاهره أن قوله: "مَنْ استطاع منكم .. إلى آخر" بقية الحديث، لكن رواه أحمد عن نُعيم، وفي آخره: قال نُعيم: لا أدري قوله: "مَنْ استطاع منكم
…
إلخ" من قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قول أبي هُريرة، قال: ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة، وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هُريرة غير رواية نعيم هذه.