الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والسبعون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ". فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِى وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".
قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" قدمت هذا القول تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يستحى منه، فإن كتمان هذا من عادتهن، لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال، ولذا قالت لها عائشة، كما في مسلم: فضحت النساء. والمراد بالحياء هنا: معناه اللغويّ، وقد مر في كتاب الإيمان أن الحياء لغةً: تغير وانكسار، وهو مستحيل في حقه تعالى، فيحمل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق، أو لا يمنع من ذكر الحق. وقد يقال: إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات، ولا يشترط في النفي أن يكون ممكنًا، لكنْ لما كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحق، عاد إلى جانب الإثبات، فاحتيج إلى تأويله.
وقوله "فهل على المرأة من غُسل" من زائدة، وقد سقطت في رواية المصنف في الأدب، والغُسل بضم الغين، وروي بفتحها، وهما مصدران عند أكثر أهل اللغة، وقال آخرون: بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. وقوله "إذا احتلمت" الاحتلام افتعال من الحُلم، بالضم والضمتين، وهو ما يراه النائم في نومه، يقال منه؛ حلَم بالفتح، واحتلم، والمراد به هنا أمر خاص منه، وهو الجماع. وفي رواية أحمد عن أم سُلَيم أنها قالت: يا رسول الله، إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام، اتغتسل؟
وقوله "إذا رأت الماء" أي المني بعد الاستيقاظ، فإذا ظرفية، ويجوز أن تكون شرطية، أي إذا رأت وجب عليها الغسل، وجعْل رؤية المني شرطًا للغُسل يدل على أنها إذا لم تر الماء لا غسل عليها. وقوله "فغطت أم سلمة" تعني وجهها. قال ذلك عُروة أو غيره، وفاعل تعني زينب والضمير يعود على أم سلمة، ويحتمل أن تكون أم سلمة قالته على سبيل الالتفات، من باب التجريد، كأنها جردت من نفسها شخصًا، فاسندت إليه التغطية إذ الأصل "فغطيت".
وقوله "وقالت يا رسول الله وتحتلم المرأة" بحذف همزة الاستفهام، وللكشميهنيّ "أو تحتلم المرأة" بإثباتها، وهو معطوف على مقدر يقتضيه السياق، أي أترى المرأة الماء وتحتلم؟ ويأتي في الأدب للمصنف عن هشام: فضحكت أم سلمة. ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبًا وغطت وجهها حياء، وروى مسلم الحديث عن الزهري عن عروة لكن قال عن عائشة وفيه أن المراجعة، وقعت بين أمّ سلمة وعائشة.
وأخرج أيضًا من حديث أنس قال: جاءت أُم سليم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالت له وعائشة عنده، فذكر الحديث. ويجمع بينهما بأن تكون عائشة وأم سلمة جميعًا أنكرتا على أم سليم وهو جمع حسن لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في مجلس واحد. وقال النّوويّ في "شرح المهذب". يجمع بين الروايات بان أنسًا وعائشة وأُم سلَمة حضروا القصة. والذي يظهر أن أنسًا لم يحضر القصة، وإنما رواها عن أم سُليم.
وقد سألت عن هذه المسألة أيضًا خولةُ بنت حكيم، عند أحمد والنَّسائيّ وابن ماجه. وفي آخره "كما ليس على الرجل غسل، إذا رأى ذلك فلم يُنزل"، وسَهْلةُ بنت سُهيل عند الطَّبرانيّ، ويُسْرة بنت صَفْوان عند ابن أبي شَيْبة.
وقوله "قال: نعم، تربت يمينك" بكسر الراء، من ترب الرجل، إذا
افتقر، أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى، وهي كلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها، كما يقولون: قاتله الله. وقيل: معناه لله دره، وقال عياض: هذا خطاب على عادة العرب في استعمال هذه الألفاظ، عند الإنكار للشيء، والتأنيس، أو الإِعجاب أو الاستعظام، لا يريدون معناها الأصليّ، وكثيرًا ما يرد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك، وهوت أمه، ولا أرض لك. قال الهروِيّ: ومنه قوله في حديث خزيمة "أنعم صباحًا تربت يداك" فأراد الدعاء له، ولم يرد الدعاء عليه.
وقوله "فبم يُشْبهها ولدها" أصله "فبما" فحذفت الألف. يُشبهها: فعل ومفعول، وولدها فاعل، والضمير يرجع إلى المرأة. وفي رواية عند المصنف في الهجرة "فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد" أي جذبته إليها. وعند مسلم عن عائشة "إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله". ونحوه للبزّار عن ابن مسعود وفيه "ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان الشبه له" والمراد بالعلو هنا السبق، لأن كل من سبق، فقد علا شأنه، فهو علو معنوي. وأما ما وقع عند مسلم من حديث ثوبان رفعه "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله" فهو مشكل من جهة أنه يلزم منه اقتران الشبه للأعمام إذا علا ماء الرجل، ويكون ذكرًا لا أنثى، وعكسه والمشاهد خلاف ذلك؛ لأنه قد يكون ذكراً ويشبه أخواله لا أعمامه، وعكسه.
قال القرطبيُّ: يتعين تأويل حديث ثوبان بان المراد بالعلو السبق. قال في "الفتح": والذي يظهر ما قدمته وهو تأويل العلو في حديث عائشة بالسبق. وأما حديث ثوبان فيبقى العلو فيه على ظاهره، فيكون السبق علامة التذكير والتأنيث، والعلو علامة الشبه، فيرتفع الإشكال، كذا قال.
والظاهر أن فيه تغييرًا، وإصلاحه أن يقال: فيكون العلو علامة التذكير والتأنيث، والسبق علامة الشبه، فيرتفع الإشكال ثم قال: وكان المراد بالعلو الذي يكون سبب الشبه بحسب الكثرة، بحيث يصير الآخر مغمورًا فيه، فبسبب ذلك يحصل الشبه، كذا قال. والظاهر أن فيه تغييرًا أيضًا، وإصلاحه أن يقال: بالعلو الذي يكون سبب التذكير والتأنيث، ويقال فيما بعده: فبسبب ذلك يحصل التذكير والتأنيث.
ثم قال: وينقسم ذلك إلى ستة أقسام.
الأول: أن يسبق ماء الرجل ويكون أكثر فيحصل له المذكورة والشبه.
والثاني: عكسه.
والثالث: أن يسبق ماء الرجل ويكون ماء المرأة أكثر، فتحصل الذكورة، والشبه للمرأة، والصواب عندي أن يقال: فتحصل الأنوثة والشبه للرجل.
والرابع: عكسه.
والخامس: أن يسبق ماء الرجل، ويستوك، فيذكر، ولا يختص بشبه، والصواب عندي أن يقال: فيشبه، ولا يختص بذكورة ولا أنوثة.
والسادس: عكسه.
قال ابن بَطّال: فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن، وعكسه غيره فقال: فيه دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن. والظاهر أن مراد ابن بطّال الجواز لا الوقوع، أي فيهن قابلية ذلك. وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال، ونفى ابن بطّال الخلاف فيه، وليس بصواب، فقد حكى ابن المنذر وغيره الخلاف فيه عن إبراهيم النخعِيّ، واستبعد النووي في "شرح المهذب" صحته عنه، لكن رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد جيد، وكأن أم سليم لم تسمع حديث "إنما الماء من الماء" أو سمعته وقام عندها ما يوهم خروج المرأة من ذلك، وهو ندور بروز الماء منها.