الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع والعشرون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".
قوله: "إذا توضأ" أي: إذا شرع في الوضوء.
وقوله: "فليَجْعَل في أنفه ماء" كذا لأبي ذر، وسقط لغيره لفظ ماء للعلم به، واختلف رواة "الموطأ" في إسقاطه وذكره، وثبت ذكره لمسلم.
وقوله: "ثم لينتثر" بوزن لِيَفْتَعِل لأبي ذر والأصيلي، ولغيرهما:"ثم ليَنْثُر" بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب "الموطأ" يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النَّثْرة، وهي طرف الأنف في الطهارة.
وقوله: "وإذا استيقظ أحدكم" عطف على قوله: "إذا توضأ" واقتضى سياق المصنف أنه حديث واحد، وهو في "الموطأ"، و"مسلم"، و"الإسماعيلي" حديثان، فكأن البخاري كان يرى جواز جمع الحديثين إذا اتحد سندهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين.
وقوله: "من نومه" أخذ بعمومه الجمهور، فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل، لقوله في آخر الحديث:"باتت يده" لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل، وفي روايتين لأبي داود ساق مسلم إسنادهما: "إذا قام أحدكم
من الليل" وفي الأخرى: "إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح" وللترمذي من وجه صحيح مثل الأولى، لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة.
قال الرافعي في "شرح المسند" يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلًا أشد منها لمن نام نهارًا، لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة.
وقوله: "فلْيغسِل يده" أي: بالإفراد، ثم الأمر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار. والقرينة الصارفة للأمر عن الوجوب عند الجمهور التعليل بأمر يقتضي الشك، لأن الشك لا يقتضي وجوبًا في هذا الحكم استصحابًا لأصل الطهارة. واستدل أبو عَوانة على عدم الوجوب بوضوئه صلى الله عليه وسلم من الشَّن المعلق بعد قيامه من الليل كما يأتي في حديث ابن عباس، وتُعُقّب بأن قوله:"أحدكم" يقتضي اختصاصه بغيره صلى الله عليه وسلم. وأجيب بأنه صح عنه غسل يديه قبل إدخالهما في الإناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز.
قلت: وضوءه عليه الصلاة والسلام من الشَّن لا دليل فيه على عدم الوجوب، ولا ترك فيه للمأمور به، لأنه ليس فيه ترك الغسل قبل الإدخال في الإناء الذي هو موضوع الحديث.
وحمل مالك الأمر على التعبد لما في رواية مسلم وأبي داود وغيرهما: "فليغسلهما ثلاثًا" وفي رواية: "ثلاث مرات" قائلًا: إن التقييد بالعدد دالٌّ على التعبد كما قال في غسل الإناء بولوغ الكلب، لأن غسل النجاسة إنما تُطلب منه إزالة عين النجاسة وحكمها بأي عدد كان.
ولا تزول الكراهة بدون الثلاث عند الشافعي، وهي المطلوبه عند كل وضوء، لكن عندنا معاشر المالكية الكراهة تزول بغسلة واحدة، والثلاثة مستحبة على أحد قولين مرجحين، والثاني موافق لهم.
واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضرَّ الماء، خلافًا لداود وإسحاق
والطبري: إنه يَنْجُس. واستدل الطبري بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه ضعيف، أخرجه ابن عدي. والمراد باليد هنا الكف دون ما زاد عليها اتفاقًا، وهذا كله في حق من قام من النوم، لما دل عليه مفهوم الشرط، وهو حجة عند الأكثر.
أما المسُتيقظ فيُستحب له الفعل لحديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يُكره الترك لعدم ورود النهي فيه، وقد روى سعيد بن منصور بسند صحيح عن أبي هريرة أنه كان يفعله ولا يرى بتركه بأسًا. وعند المالكية يُكره عندهم الغمس قبل الغسل مطلقًا، لحمل الأمر عندهم على التعبد كما مر، ولفعله صلى الله عليه وسلم له على الدوام.
وقوله: "قبل أن يُدخلها" ولمسلم وابن خُزيمة: "فلا يغمِسْ يده في الإناء حتى يغسلها" وهي أبين في المراد من رواية الإِدخال، لأن مطلق الإدخال لا تترتب عليه كراهة، كمن أدخل يده في إناء واسع، فاغترف منه بإناء صغير من غير أن تلامس يده الماء.
وقوله: "في وَضوئه" بفتح الواو، وهو الماء الذي يُتوضأ به. وفي رواية الكُشْمِيهني:"في الإناء" أي: الذي أُعد للوضوء. ولابن خُزيمة: "في إنائه أو وَضوئه" بالشك، والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء ويلحق به إناء الغُسل، وكذا سائر الآنية قياسًا، لكن في الاستحباب من غير كراهة، لعدم ورود النهي فيها عن ذلك، قاله في "الفتح".
وهل تُغسلان مجتمعتين أو مفترقتين قولان مبنيان على اختلاف الألفاظ الواردة في الحديث، ففي بعض الطرق:"غسل يديه مرتين مرتين"، وذلك يقتضي الإفراد، وهو مشهور مذهب مالك. وفي بعضها:"فغسل يديه مرتين" وذلك يقتضي الجمع.
وخرج بذكر الإناء البرك والحياض التي لا تَفْسُد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها، فلا يتناولها النهي.
وقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده من جسده" أي: هل لاقت
مكانًا طاهرًا منه أو نجسًا بثرةً أو جرحًا أو أثر الاستجمار بالأحجار بعد بلل المحل بالعرق أو باليد.
قال البيضاوي: فيه إيماء إلى أن الباعث على الأمر بذلك احتمال النجاسة؛ لأن الشارع إذا ذكر حكمًا وعقّبه بعلة دلَّ على أن ثبوت الحكم لأجلها، ومثله قوله في حديث المحرم الذي سقط فمات:"فإنه يبعثُ ملبيًا" بعد نهيهم عن تطييبه، فنبه على علة النهي، وهي كونه محرمًا.
وتعقبه أبو الوليد الباجي بأنه لو كان لأجل النجاسة استلزم الأمر بغسل ثوب النائم لجواز ذلك عليه. وأجيب بأنه محمول على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل. وهذا جواب في غاية الضعف، فمن أين لقائله بهذا التعيين؟ وإذا حصل العرق في اليد ففي المحل أولى على ما لا يخفى، وأيضًا إذا تنجست يد النائم بالعرق احتمل تنجس الثوب والجسد منها. أو يجاب بأن المستيقظ لا يريد غمس ثوبه في الماء حتى يؤمر بغسله، بخلاف اليد، فإنه محتاج إلى غمسها.
قال في "الفتح": وهذا أقوى الجوابين.
قلت: هذا أضعف من الأول، لأنه إذا كان لا يريد إدخاله في الماء يريد الصلاة به، فيغسله لأجل الصلاة به.
والدليل على أنه لا اختصاص لذلك بمحل الاستجمار ما رواه ابن خُزيمة وغيره عن أبي هريرة في هذا الحديث، ففيه:"أين باتت يدهُ منه" وقد تابع فيه عبد الصمد عن شعبة، وأخرجه ابن مَندة عن طريقه، فلم يقع فيه تفرد.
ومفهوم قوله: "لا يدري" أن من درى أين باتت يده، كمن لف عليها خرقة مثلًا، فاستيقظ وهي على حالها، أن لا كراهة، وإن كان غسلها مستحبًّا على المُختار كما في المستيقظ. ومن قال بان الأمر في ذلك للتعبد كمالك لا يفرق بين شاكٍّ ومتيقن للطهارة.
واستدل بهذا الحديث على التفرقة بين ورود الماء على النجاسة، وورود
النجاسة على الماء، وهو ظاهر.
قلت: هذا ظاهر عند من جعل الأمر تعللًا، وأما من جعله تعبدًا فلا دليل فيه عنده على ما قيل.
واستدل به أيضًا على أن النجاسة تؤثر في الماء، وهو صحيح، لكن كونها تؤثر التنجيس وإن لم يتغير فيه نظر، لأن مطلق التأثير لا يدل على خصوص التأثير بالتنجيس، فيحتمل أن تكون الكراهة بالمتيقن أشد من الكراهة بالمظنون، قاله ابن دقيق العيد، ومراده أنه ليست فيه دلالة قطعية على من يقول: إن الماء لا ينجس إلا بالتغير.
قلت: بل ولا ظنية، لأن القائل بأن المطلق لا يتنجس إلاّ بالتغير جعل الأمر في هذا الحديث للتعبد كما مر عن المالكية.
وفيه تنبيه على أنه ينبغي للسامع لأقواله عليه الصلاة والسلام أن يتلقاها بالقبول ودفع الخواطر الرادة لها، فقد روي أن شخصًا سمع هذا الحديث، فقال: إنه يعرف أين تبيت يده منه، فاستيقظ من النوم، ويده داخل دبره محشوة، فتاب عن ذلك وأقلع، نرجو الله تعالى السلامة من الخواطر الرديئة.
وفيه الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عما يُستحيى منه إذا حصل بها الإفهام، واستحباب غسل النجاسة ثلاثًا. لأنه أمرنا بالتثليث عند توهمها، فعند تيقنها أولى.
قلت: هذا عند من يرى أن الأمر لأجل النجاسة لا عند القائل بأنه تعبد، ولكن يقال لهذا: لم لا تقول بانها يُندب غسلها سبعًا كما ورد في ولوغ الكلب احتياطًا للطهارة إذا كنت تقول الأمر فيهما لأجل النجاسة.
وفيه أيضًا أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه، وفيه أيضًا إيجاب الوضوء من النوم، وفيه تقوية من يقول بالوضوء من مسّ الذكر، حكاه أبو عَوانة في "صحيحه" عن ابن عُيينه، وفيه أن القليل من الماء لا يصير مستعملًا بإدخال اليد فيه لمن أراد الوضوء.