الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والثلاثون
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ".
قوله: "إن رجلًا" لم يسمِّ هذا الرجل، وهو من بني إسرائيل.
وقوله: "يأكل الثَّرى" بالمثلثة، أي: يلعق التراب الندي، وفي "المحكم": الثرى التراب. وقيل: التراب الذي إذا بُلَّ لم يصرْ طينًا لازبًا.
وقوله: "من العطش" أي: بسبب العطش.
وقوله: "حتى أرواه" أي: جعله ريّانَ.
وقوله: "فشكر الله له" أي: أثنى عليه، فجزاه على ذلك بأن قبل عمله. وقيل: معنى "فشكر الله له" أي: أظهر ما جازاه به عند ملائكته.
وقوله: "فأدخله الجنة" من باب عطف الخاص على العام، أو الفاء تفسيرية على حد قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، على ما فُسر أن القتل كان نفس توبتهم.
وفي رواية المصنف في كتاب الشرب: "بينما رجلٌ يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهثُ يأكل الثَّرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ مني، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟! قال: "في كلِّ كبد رَطْبةٍ أجر".
وقوله: "بينما رجلٌ يمشي" للدارقطني في "الموطئات" عن مالك: "يمشي بفلاة"، ولابن وَهْب عنه:"يمشي بطريق مكة".
والفاء في قوله: "فاشتدَّ عليه العطش"، واقعة موضع إذا، كما وقعت إذا موضعها في قوله {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] وفي رواية المُستملي: "العطاش" وهو داء يصيب الغنم تشرَبُ فلا تُروى، وهو غير مناسب هنا. وقيل: يصح على تقدير أن العطش يحدث منه هذا الداء، كالزكام، وسياق الحديث يأباه.
وقوله: "يلهَثُ" -بفتح الهاء- واللَّهَث -بفتح الهاء- هو ارتفاع النَّفس من الإعياء، يقال: لهث الكلب: أخرج لسانه من العطش، وكذا الطائر. ولهث الرجل إذا أعياه ويقال: إذا بحث بيديه ورجليه.
وقوله: "بلغ هذا مثلَ الذي" بفتح مثل، أي: بلغ مبلغًا مثل الذي بلغ بي.
وقوله: "ثم رَقِي" بفتح الراء وكسر القاف كصَعِد وَزْنًا ومعنى، وفيه فتح القاف بوزن قضى، وهي لغة طيّىء يفتحون العين فيما كان من الأفعال معتل اللام، والأول أفصح وأشهر.
وقوله: "وإن لنا في البهائم أجرًا؟! " معطوف على محذوف، تقديره: الأمر كما ذكرت. "وإن لنا في البهائم" أي: في سقيها أو الإحسان إليها.
وقوله: "في كل كبد رطبة أجرًا" أي: كل كبد حية، والمراد رطوبة الحياة، أو لأن الرطوبة لازمة للحياة، فهو كناية. ومعنى الظرفية هنا أن يقدر محذوف، أي: الأجر ثابت في إرواء كل كبد حية، والكبد يذكر. ويؤنث، ويحتمل أن تكون في سببية، كقولك:"في النفس الدية".
قال: الداوودي: المعنى: في كل كبد حيٌّ أجر، وهو عام في جميع الحيوان. وقال أبو عبد الملك: هذا الحديث كان في بني إسرائيل، وأما الإِسلام فقد أمر بقتل الكلاب، وأما قوله:"في كل كبد" فمخصوص ببعض البهائم مما
لا ضرر فيه، لأن المأمور بقتله كالخنزير لا يجوز أن يُقَوّى ليزداد ضرره. وكذا قال النووي: إن عمومه مخصوص بالحيوان المحترم، وهو ما لم يؤمر بقتله، فيحصل الثواب بسقيه، ويلتحق به إطعامه وغير ذلك من وجوه الإحسان إليه. وقال ابن التين: لا يمتنع إجراؤه على عمومه، يعني: فيُسقى ثم يُقتل؛ لأنا أُمرنا أن نحسن القتلة، ونُهينا عن المُثلة.
قلت: والأمر بقتل الكلاب عمومًا قد ورد نسخه فلا يُستدل به على خصوصية الحديث.
واستدل بالحديث على طهارة سؤر الكلب، وظاهر البخاري الاستدلال به على ذلك؛ لأن ظاهر الحديث أنه سقى الكلب فيه، ولم يذكر أنه غسله.
وأما قول من قال: إنه يحتمل أن يكون صبه في شيء فسقاه، أو غسل خفه بعد ذلك، أو لم يلبسه بعد ذلك، فكلها احتمالات في غاية البعد، لأنها كلها تجويزية عقلية لا يحتجُّ بها، فمن أين له وهو مسافر في فلاة كما مر بشيء يصب فيه الماء، وهو لم يجد ما يأخذه فيه إلا خفه.
ورُدَّ أيضًا على من استدل به بأنه فعل بعض الناس، ولا يُدرى هل هو كان ممن يُقتدى به أم لا؟ وبأن الاستدلال به مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وفيه اختلاف، ولو قلنا به لكان محله فيما لم ينسخ. ورُدَّ هذا بأناّ لم نحتجَّ بمجرد الفعل المذكور، بل إذا فرغنا على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فإنا لا نأخذ بكل ما ورد عنهم، بل إذا ساقه إمامنا مساق المدح إن علم ولم يقيده بقيد صح الاستدلال به.
وفيه جواز السفر منفردًا وبغير زاد، ومحل ذلك في شرعنا ما لم يَخَفْ على نفسه الهلاك.
وفيه الحث على الإحسان على الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسقي المسلم أعظم أجرًا.