الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ". قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ.
قوله: "لا تُقبل صلاةٌ" بالضم على البناء لما لم يسم فاعله، وأخرجه المصنف في ترك الحيل، أبو داود بلفظ:"لا يقبل الله"، والمراد بالقَبول هنا ما يرادِف الصحة، وهي موافقة الأمر ذي الوجهين الشرع، والإِجزاء أخص منها لاختصاصه بالعبادات. وحقيقة القَبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئةً رافعةً لما في الذمة، والثمرة هي حصول الثواب الذي لا يعلمه إلا الله، ولما كان الإِتيانُ بشروطها مظِنّة الإِجزاء الذي القبول ثمرته، عبر عنه بالقبول مجازًا.
وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "مَنْ أتى عرّافًا لم تُقبل له صلاةٌ" فهو الحقيقي، لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تُقبل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من جميع الدنيا، قاله ابن عمر، قال: لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
وقوله: "مَنْ أحدثَ" أي: وُجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين مطلقًا، لما مر أنه أحد إطلاقاته، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك، تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء كمسِّ الذكر، ولمس المرأة، والقيء ملءِ الفم، والحجامة، فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء
منها. وعليه مشى المصنف فيما يأتي في باب مَنْ لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وقيل: إن أبا هُريرة إنما اقتصر في الجواب على ما ذُكر لعلمه أن السائل كان يعلمُ ما عدا ذلك.
واستُدلَّ بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختياريًّا أم اضطراريًّا، لعدم التفرقة في الحديث بين حدثٍ وحدثٍ في حالةٍ دون حالةٍ.
ويُردُّ على مَنْ يقول إذا سبقه الحدث يتوضأ ويبني على صلاته، وهو قول أبي حنيفة. وأجاب العيني عنه قائلًا: إنه ليس فيه ردٌّ أصلًا ، لأن مَنْ سبقه الحدث إذا ذهب وتوضأ وبنى على صلاته يصدق عليه أنه توضأ وصلّى بالوضوء.
قلت: هذا الجواب ظاهر البطلان، لأن الباني لا يمكنه البناء إلا على شيء صحيح، فإذا بنى على ما قبل الحدث من صلائه كان الحدث غير مبطل لصلاته، وكانت صلاته ملفقة من وضوءين، وهذا عجيب في القياس.
واستُدِلَّ به أيضًا على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة، لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء وما بعدها مخالف لما قبلها، فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا.
وقولُه: "حتّى يتوضأَ" أي: بالماء، أو ما يقوم مقامه من الصعيد الطاهر، وقد روى النسائي بإسنادٍ قوي عن أبي ذرٍّ مرفوعًا:"الصعيد الطيب وَضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين" فأطلق الشارع على التيمم أنه وُضوء، لكونه قام مقامه، وإنما اقتصر على ذكر الوضوء نظرًا إلى كونه الأصلي.
ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة مَنْ كان محدثًا فتوضأ، أي: مع باقي شروط الصلاة.
وقوله: "قال رجل من حَضْرَمَوْت" بفتح الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، وفتح الراء والميم، ويقال: بضم الميم. اسم بلد باليمن وقبيلة أيضًا، وهما اسمان جُعلا اسمًا واحدًا، قال الزّمخشري: فيه لغتان: التركيب ومنع الصرف، والإضافة، وإذا أضيف جاز في المضاف إليه الصرف وتركه.
وقوله: "ما الحدث؟ " في رواية: "فما الحدث؟ ".
وقوله: "فُساء أو ضُراط" الأول بضم الفاء والمد، والثاني بضمِّ الضاد، وهما يشتركان في كونهما ريحًا خارجًا من الدُّبر، لكن الثاني مع صوت، وقد مرَّ قريبًا وجه تخصيص أبي هريرة لهذين النوعين.
وقد جعل في الحديث الوضوء رافعًا للحديث، فلا يعني بالحدث الخارج المعتاد، ولا نفس الخروج، لأن الواقع لا يرتفع، فلم يبق أن يعني إلا المنع المرتب على الأعضاء كلاًّ كالأكبر، أو بعضًا كالأصغر، أو الوصف الذي هو الصفة الحكيمة إلى آخر ما مرَّ أول الكتاب.
وقد قال عياض: إن الحديث نصٌ في وجوب الطهارة. وتعقبه الأُلِّيُّ بأن الحديث إنما فيه أنها شرط في القبول، والقبول أخص من الصحة، وشرط الأخص لا يكون شرطًا في الأعم، وإنما كان القبول أخص لأنه حصول الثواب على الفعل، والصحة وقوع الفعل مطابقًا للأمر، فكل مُتَقَبَّلٍ صحيحٌ دون العكس، والذي ينتفي بانتفاء الشرط الذي هو الطهارة القبول لا الصحة، وإذا لم تنتف الصحة لم يتم الاستدلال بالحديث، والفقهاء يحتجون به وفيه من البحث ما سمعت، فإن قلت: إذا فُسِّرت الصحة بأنها وقوع الفعل مطابقًا للأمر، فالقواعد تُدل على أن الفعل إذا وقع مطابقًا للأمر كان سببًا في حصول الثواب. قلت: غرضنا إبطال التمسك بالحديث من قبل الشرطية، وقد اتضح، ثم نمنع أنها سبب في حصول الثواب، لأن الأعم ليس سببًا في حصول أخصه المعين.
ويجاب بما مر من أن المراد بالقبول هنا ما يُرادف الصحة، وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزِئَةً رافعةً لما في الذمة، فعبر بالقبول عن الصحة مجازًا، لأن الغرض من الصحة مطابقة العبادة للأمر، وإذا حصل ذلك ترتب عليه القَبول، وإذا انتفى القبول انتفت الصحة لما قام من الأدلة على كون القبول من لوازمها، فإذا انتفى انتفت.