الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والثلاثون
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا. قَالَ وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلَاّ الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمَسُّ إِلَاّ الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الإِهْلالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
قوله: "تصنع أربعًا" أي: أربع خصال.
وقوله: "لم أر أحدًا من أصحابك" أي: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بعضُهم، والظاهر من السياق انفراد ابن عمر بما ذُكر دون غيره ممن رآهم عبيد. وقال المازري: يحتمل أن يكون مراد: لا يصنعُهنَّ غيرُك مجتمعةً، وإن كان يصنع بعضها أو المراد: الأكثر منهم.
وقوله: "لا تمسُّ من الأركان" أي: أركان الكعبة الأربعة.
وقوله: "إلاّ اليمانِيَينْ" من باب التغليب، وإلا فالذي فيه الحجر الأسود عراقي، لأنه على جهته، ولم يقع التغليب بالأسود خوف الاشتباه على جاهل، واليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم، ومن ثمَّ خُصا بالاستلام. واليماني
بتخفيف الياء على المشهور، لأن الألف عوض عن ياء النسب، فلو شدّدت لكان جمعًا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد، وقال: إن الألف زائدة.
وفي البيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان، كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يُقبل الأول ويُستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور، واستحبَّ بعضهم تقبيل الركن اليماني فقط.
وعلى هذا لو بني البيت على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الآن استُلمت كلها، ولذلك لما ردّهما ابن الزُّبير على القواعد استلمهما واستلمهما الناس، فقد روى الأَزْرَقي في "كتاب مكة" أن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت، وأدخل فيه من الحِجْر ما أُخرج منه، ورد الرُّكنين على قواعد إبراهيم، خرج إلى التَّنعيم، واعتمر، وطاف بالبيت، واستلم الأركان، الأربعة، ولم يزل البيت على قواعد إبراهيم إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها حتى قُتل ابن الزبير. وأخرَجَ من طريق ابن إسحاق، بلغني أن آدم لما حج استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعًا يستلمان الأركان.
وظاهر الحديث أن غير ابن عمر من الصحابة الذين رآهم عبيد كانوا يستلمون الأركان كلها، وقد صح ذلك عن معاوية وابن الزبير، فقد أخرج أحمد والترمذي والحاكم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه. فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلَاّ الحَجَرَ واليماني. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. وقد رواه أحمد، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. فيقول ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وأما رواية أحمد عن شعبة أن ابن عباس هو الذي استلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور. فهي رواية مقبولة،
وقد رواها أحمد أيضًا، عن سعيد بن أبي عَروبة على الصواب.
وروى الشافعي أن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحَجَرَ، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجورًا. ويقول ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . [الأحزاب: 21].
وأخرج أحمد أيضاً عن مجاهد، عن ابن عباس أنه طاف مع معاوية، فقال: ليس شيء من البيت مهجورًا. فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فقال معاوية: صدقت.
وحمل ابن التين تبعًا لابن القصار استلام ابن الزبير للكل على ما بعد تعميره للبيت على قواعد إبراهيم. وهو متعقّب بما أخرجه ابن أبي شيبة موصولًا، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء من البيت مهجورًا. وفي "الموطأ" عن هشام بن عُروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها، فهذا يدلُّ على أن هذا إعادته مطلقًا.
قلت: ليس في ما ذكر أنه كان يفعل قبل تعميره للبيت حتى يُساق على ابن التين.
وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضًا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة، عن سُويد بن غَفَلة من التابعين.
وأجاب الشافعي عن قول من قال: ليس شيء من البيت مهجورًا، بأنّا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلًا وتركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لهما لكان في ترك ما بين الأركان هجرًا له، ولا قائل به.
وقوله: "النعال السِّبْتية" بكسر المهملة وسكون الموحدة آخره مثناة فوقية، التي لا شعر عليها، مشتقة من السِّبت وهو الحَلْق، وهو ظاهر جواب ابن عمر الآتي قريبًا، أو هي جلد البقر المدبوغ بالقَرَظِ. والسُّبتَ بالضم نبتٌ يُدبغ به،
أو كل مدبوغ. أو: قيل لها سِبتية لأنها انسبتت بالدباغ، أي: لانت به، يقال: رطبة منسَبِتة، أي: لينه، أو نسبة إلى سوق السِّبت.
وإنما اعتُرِض على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بذلك لأنه لباس أهل
النعيم، وإنما كانوا يلبَسون النعال بالشعر غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل
بالطائف وغيره.
وقوله: "أهلَّ الناس" أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية للإحرام بحج أو عمرة.
وقوله: "حتى كان يوم التَّروية" يومُ بالرفع، اسم كان، وبالنصب خبرها، فعلى الأول كان تامة، وعلى الثاني ناقصة، والرؤية هنا تحتمل البصرية والعلمية، ويوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، وسمي بالتَّرْوِية -بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية- لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء، لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبارٌ ولا عيونٌ، وأما الآن فقد كئرت جدًّا واستَغْنَوا عن حمل الماء.
وقد روى الفاكِهاني، عن مجاهد، قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد: إذا رأيتَ الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشِبها، فخذ حِذْرك. وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلَّكَ.
وقيل في تسمية التروية أقوال أخرى شاذة: منها أن آدم رأى فيها حواء، واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلة أنه يذبح ابنه، فأصبح متفكرًا يتروّى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يُعلِّم الناس فيها مناسك الحج.
ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو الثاني لكان يوم التروّي بتشديد الواو، أو الثالث لكان من الرؤيا، أو الرابع لكان من الرواية.
وقوله: "يمسُّ إلا اليمانِيَينْ" قد زاد ابن عمر في غير هذه الرواية: "إنّما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الرُّكنين الشامييَّن لأن البيت لم يُتَمَّ على قواعد إبراهيم.
وقوله: "يلبَس النعال" ولغير الأربعة: "النعل" بالإفراد.
وقوله: "فأنا أحبُّ أن ألبَسها"، في رواية الحموي والمستملي:"فإني أحبُّ".
واستدل بهذا الحديث في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السِّبتية، ومحبة ابن عمر لها لذلك، على جواز لبسها على كل حال.
وقال أحمد: يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصَاصِيَّة أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم، واحتج به على ما ذكر، قال:"بينما أنا أمشي في المقابر وعلي نعلان، إذا رجل ينادي من خلفي: يا صاحب السِّبتيَّتين، إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك".
وتعقبه الطَّحاوي بأنه يحتمل أن يكون الأمر بخلعهما لأذى فيهما، وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولَّوا عنه مدبرينَ، وهو دالٌّ على لُبس النعال في المقابر. قال: وثبت حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه" قال: فإذا جاز دخول المسجد بالنعال، فالمقبرة أولى.
ويحتمل أن يكون النهي لإكرام الميت، كما ورد النهي عن الجلوس على القبر، وليس ذكر السِّبتيتين للتخصيص، بل اتفق ذلك، والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال.
وقوله: "فانا أحبُّ أن أصبغَ بها" وفي رواية: "فإني أحبُّ" يحتمل صبغ ثيابه لما في الحديث المروي في "سنن" أبي داود: "وكان يصبُغُ بالورس والزَّعفران حتى عِمامته" أو صبغ شعره، لما في "السنن":"إنه كان يصفِّر بهما لحيتَه" وكان أكثر الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم يخضِب بالصُّفرة. ورجح الأول القاضي عياض، وأجيب عن الحديث المستدل به للثاني باحتمال أنه كان يتطيب بهما، لا أنه كان يصبُغ بهما، لكن حديث الباب صريح في جواز الصبغ بالصفرة، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف يأتي للمؤلف في عدة مواضع في البيع والنكاح واللباس أنه تزوج، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صُفرة.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فاجاز مالك جواز لبس الثوب المزَعْفَر للحلال، ولم يجزْه في البدن، وقال: إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة. ونَقَل ذلك عن علماء المدينة، واحتج بما أخرجه أبو داود عن أبي موسى رفعة:"لا يقبلُ الله صلاة رجل في جسده شيء من خلوق" فإن مفهومه أن ما عدا الجسد لا يتناوله الوعيد.
وأخرج الحاكم من حديث عبد اللة بن جعفر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزَّعفران"، وأخرج الطبراني عن أم سَلَمة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداءه بزعفران"، والأول في سنده عبد الله بن مُصعب الزُّبيري وهو ضعيف، والثاني فيه راوٍ مجهول.
وتمسكوا في منعه في الجسد بما أخرجه أبو داود والتِّرمذي في "الشمائل" والنسائي في "الكبرى" عن سَلْم العَلَويّ، عن أنس: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صُفرة، وكان قلّما يواجه أحدًا بشيء يكرهه، فلما قام، قال:"لو أمرتُم هذا أن يترك هذه الصفرة" لكن سَلْم فيه لين. وأخرج أبو داود عن عمّار رفعه، قال:"لا تحضُر الملائكة جنازة كافر ولا متضمِّخٍ بالزعفران"، وأخرج أيضًا عنه قال: قدمت على أهلي ليلًا وقد تشقَّقت يداي، فخلّقوني بزعفران، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرحِّب بي، وقال:"اذهَبْ فاغسِل عنك هذا".
وهذه الأحاديث معارضة لحديث ابن عمر، فإما أن تكون ناسخة له، وإما أن تكون مقدمة عليه لأنها نهي، والعمل بالنهي مقدم على العمل بالطلب.
واستدل بعضهم على جواز التَّزَعْفُر للعروس دون غيره بحديث عبد الرحمن بن عوف، وخُصَّ به عموم النهي عن التَّزَعْفُر للرجال، ويأتي قريبًا الجواب عنه.
ومنع أبو حنيفة والشافعي ومن تبعهما ذلك في البدن والثوب للمحرم وغير المحرم، وتمسكوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وهي صحيحة، وفيها ما هو
صريح في المدَّعَى كحديث أنس عند البخاري قال: "نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل" إلى غير هذا، وأجابوا عن قصة عبد الرحمن بأجوبة منها:
إن ذلك كان قبل النهي. وهذا يحتاج إلى تاريخ، ويؤيده أن في قصة عبد الرحمن سياق يشعر بأنها كانت في أوائل الهجرة، وأكثر من روى النهي من تأخرت هجرته.
ثانيها: إن أثر الصفرة التي كانت على عبد الرحمن تعلقت به من جهة زوجته، فكان ذلك غير مقصود له، ورجحه النووي، وعزاه للمحققين، وجعله البيْضاوي أصلًا ردَّ إليه أحد الاحتمالين أبداهما ذهب قوله:"مهيم؟ " فقال: معناه ما السبب في الذي أراه عليك؟ فلذلك أجاب بأنه تزوج. قال: ويُحتمل أن يكون استفهام إنكار لما تقدم من النهي عن التضمُّخ بالخَلوق، فأجاب بقوله:"تزوجت" أي: فتعلق بي منها، ولم أقصد إليه.
ثالثها: إنه كان قد احتاج إلى التطيب للدخول على أهله، فلم يجد من طيب الرجال حينئذٍ شيئًا، فتطيب من طيب المرأة، وصادف أنه كان فيه صفرة، فاستباح القليل منه عند عدم غيره جمعًا بين الدليلين. وقد ورد الأمر في التطيب للجمعة ولو من طيب المرأة، فبقي أثر ذلك عليه.
رابعها: كان يسيرًا ولم يبق إلا أثر. فلذلك لم ينكر.
خامسها: وبه جزم الباجيّ: إن الذي يُكره من ذلك ما كان من زعفران وغيره من أنواع الطيب، وأما ما كان ليس بطيب فهو جائز.
سادسها: إن النهي عن التَّزَعْفُر للرجال ليس على التحريم، بدلالة تقريره لعبد الرحمن بن عوف في هذا الحديث.
سابعها: إن العروس يُستثنى من ذلك، ولاسيما إذا كان شابًّا. قال أبو عُبيد: كانوا يرخصون للشابِّ في ذلك أيام عرسه. قيل: كان في أول الإِسلام من تزوج لبس ثوبًا مصبوغًا علامة لزواجه، ليُعان على وليمة عرسه. قال: وهذا غير معروف.
قال في "الفتح": وفي استفهامه له صلى الله عليه وسلم عن ذلك دلالة على أنه لا يختص بالتزويج، لكن وقع في بعض طرقه:"فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى علي بشاشة العرس، فقال: أتزوجت؟ فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار" فقد يتمسك بهذا السياق للمدَّعَى، ولكن القصة واحدة، وفي أكثر الروايات أنه قال له:"مهيم؟ " أو: "ما هذا؟ " فهو المعتمد. وبشاشة العرس: أثره وحسنه، أو فرحه وسروره، يقال: بشَّ بفلان، أي: أقبل عليه فرحًا به، ملطفًا به.
وقوله: "حتى تنبعث به راحلته" أي: تستوي قائمة إلى طريقه، والمراد ابتداء الشروع في أفعال النُّسك، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يُحرم عقب الصلاة جالسًا، وهو قول عند لشافعية أيضًا، لحديث الترمذيّ:"أنه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج حين فرغ من ركعتيه" وقال: حسن. وقال آخرون: الأفضل أن يُهِلَّ من أول يوم من ذي الحجة. وقد كان ابن عمرُ يُنكر على رواية ابن عباس الآتية في الحج بلفظ: "ركب راحلته حتى استوى على البَيْداء أهلَّ" ويقول: والله ما أهل إلا من عند المسجد مسجد ذي الحُلَيْفة.
وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم عن سعيد بن جُبير قال: قلت لابن عبّاس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله فذكر الحديث، وفيه:"فلما صلى في مسجد ذي الحُلَيْفة ركعتين، أوجب من مجلسه، فأهلَّ الحج حين فرغ منها، فسمع منه قوم، فحفظوه، ثم ركب، فلما استقلت به راحلته أهلَّ، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى، فسمعوه حين ذلك، فقالوا: إنما أهلَّ حين استقلّت به راحلته، ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهلّ، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه، فنقل كل واحد ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه وأيم الله، ثم أهل ثانيًا وثالثًا". فعلى هذا كان إنكار ابن عمر على من يخصُّ الإهلال بالقيام على شرف البيداء، وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل.
واستنبط بعض العلماء من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي أو غيره، فأما تقبيل يد الآدمي فقد تكلمنا عليه بما