الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترهيب من منع الزكاة، وما جاء في زكاة الحلى
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهبٍ، ولا فضةٍ لا يُؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفايح من نار فأُحمى عليها في نهار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أُعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله (1) إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل يا رسول الله: فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبلٍ لا يؤدى منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاعٍ قرقرٍ أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤُهُ بأخفافها، وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أُولاها رد عليه أُخراها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنمٍ لا يُؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ أوفر ما كانت لا يفقد منها شيئا ليس منها عقصاءُ ولا جلحاء، ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤهُ بأظلافها كُلما مر عليه أولها رد عليه آخرها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار. قيل يا رسول الله: فالخيل؟ قال: الخيل ثلاثة: هى لرجلٍ وزرٌ (2)، وهى لرجل سِترٌ (3)، وهى لرجل أجرٌ، فأما التى هى له وزرٌ: فرجلٌ ربطها رياءً وفخراً ونواءً (4) لأهل الإسلام فهى له وزرٌ، وأما التى هى له ستر: فرجل ربطها رياءً وفخراً ونواء لأهل الإسلام فهى له وزرٌ، وأما التى هى له سترٌ: فرجلٌ ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهى له سترٌ، وأما التى هى له أجرٌ: فرجلٌ ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرجٍ (5)
أو روضةٍ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شئٍ إلا كُتب له عدد ما أكلت حسناتٌ، وكتب له عدد أروائها (6) وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفاً وشرفين إلا كتب له عدد آثارها وأرواثها
(1) طريقه.
(2)
ذنب.
(3)
عز ورفعة.
(4)
غداء.
(5)
زروع ومراع.
(6)
ثفلها.
حسناتٌ، ولا مرَّ بها صاحبها على نهرٍ فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله تعالى له عدد ماشربت حسناتٍ. قيل يا رسول الله: فالحمر؟ قال: ما أُنزل على في الحمر إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، والنسائي مختصراً.
2 -
وفي رواية للنسائى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجلٍ لا يُؤدى زكاة ماله إلا جاء يوم القيامة شجاعاً من نارٍ فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره في يومٍ كان مقداره خمسين الف سنةٍ حتى يُقضى بين الناس.
3 -
وعن جابرٍ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من صاحب إبلٍ لا يفعل حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاعٍ قرقرٍ تستنُّ عليه بقوائمها وأخفافها. ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت، وقعد لها بقاعٍ قرقرٍ فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماءُ، ولا منكسرٌ قرنها، ولا صاحب كنزٍ لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه، فإذا أتاه فرَّ منه، فيناديه خذ كنزك الذى خبأته فأنا عنه غنىٌّ، فإذا رأى أن لا بُدَّ له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل. رواه مسلم.
(القاع): المكان المستوى من الأرض.
(والقرقر): بقافين مفتوحتين، وراءين مهملتين: هو الأملس.
(والظِّلف): للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس.
(والعقصاء): هي الملتوية القرن.
(والجلحاء): هى التى ليس لها قرن.
(والعضباء): بالضاد المعجمة هى المكسورة القرن.
(والطول): بكسر الطاء وفتح الواو، وهو حبل تشدّ به قائمة الدابة وترسلها ترعى، أو تمسك طرفه وترسلها.
(واستنت): بتشديد النون. أي جرت بقوة.
(شرفاً): بفتح الشين المعجمة والراء: أي شوطاً. وقيل: نحو ميل.
(والنواء) بكسر النون وبالمد: هو المعاداة.
(والشجاع): بضم الشين المعجمة وكسرها هو الحية، وقيل: الذكر خاصة، وقيل: نوع من الحيات.
(والأقرع): منه الذهب شعر رأسه من طول عمره
4 -
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحدٍ لا يُؤدى زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يُطوق (1) به عنقه، ثم قرأ علينا النبى صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية. رواه ابن ماجه، واللفظ له، والنسائي بإسناد صحيح، وابن خزيمة في صحيحه.
5 -
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله فرض على أغنياء (2) المسلمين في أموالهم بقدر الذى يسع فقراءهم ولن يُجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا (3) إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يُحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً. رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وقال تفرد به ثابت بن محمد الزاهد.
(قال الحافظ): وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيره، وبقية رواته لا بأس بهم، وروى موقوفا على علىٍّ رضي الله عنه، وهو أشبه.
6 -
وعن مسروقٍ رضي الله عنه قال: قال عبد الله: آكل الربا وموكله وشاهداه إذا علماه والواشمة والمؤتشمة، ولا وى الصدقة، والمرتدُّ أعرابياً بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. رواه ابن خزيمة في صحيحه واللفظ له، ورواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن الحارث الأعور عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(لاوى الصدقة): هو المماطل بها الممتنع عن أدائها.
7 -
وروى الأصبهاني عن علىٍّ رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله
(1) كذا ع ص 259، وفي ن د: يطوق على عنقه.
(2)
في ن د: الأغنياء
(3)
لم يجدوا ما يستر عورتهم
عليه وسلم آكل الربا، وموكله (1)، وشاهده، وكاتبه (2)، والواشمة (3) والمستوشمة (4) ومانع الصدقة، والمحلل (5) والمحلل له.
8 -
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ (6) للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التى فرضت لنا عليهم، فيقول الله عز وجل: وعزتى وجلال لأدنينكم (7) ولأباعدنهم (8)، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وأبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب كلاهما من رواية الحارث ابن النعمان. قال أبو حاتم: ليس بقوىَ، وقال البخاري: منكر الحديث.
9 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرض علىَّ أول ثلاثةٍ يدخلون الجنة، وأول ثلاثةٍ يدخلون النار، فأما أول ثلاثة
(1) آخذه ومعطيه: أي أبعده الله من رحمته وأقصاه من عطفه، وهذا مشاهد.
(2)
الذى يخط بيده عقد الاتفاق، وصك الأخذ.
(3)
واضعة الوشم، وهو المادة الزرقاء على الجسم.
(4)
كذا الموضوع عليها. والوشم: أن يغرز الجلد بإبرة، ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو بخضر وقد وشمت تشم وشماً فهى واشمة، والمستوشمة والمؤتشمة: التى يفعل بها ذلك أهـ نهاية.
(5)
هو أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا فيتزوجها رجل آخر على شريطة أن يطلقها بعد وطئها لتحل لزوجها الأول، وقيل: سمى محللا بقصده إلى التحليل كما يسمى مشتريا إذا قصد الشراء، وفي حديث بعض الصحابة لا أوتى بحال ولا محلل إلا رجمتهما، جعل الزمخشرى هذا الأخير حديثا لا أثرا، وفي هذه اللفظة ثلاث لغات: حللت وأحللت وحللت، وفيه (لعن الله المحلل له) وفي رواية:(المحل والمحل له) أهـ نهاية.
(6)
واد في جهنم، أو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، ومنه حديث أبى هريرة:(إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول ياويله).
(7)
لأقربنكم من النعيم، ولأحفنكم برضاى.
(8)
قال تعالى (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم فروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون) 19 - 35 من سورة المعارج. (هلوعا) شديد الحرص قليل الصبر (منوعا) يبالغ بالإمساك والأوصاف (حق معلوم) كالزكوات والصدقات المؤلفة للذى يسال والذى لا يسأل فيحسب نفسه غنياً فيحرم.
وفي آيات الذاريات: (وفى أموالهم حق للسائل والمحروم) وصف المتقين يجودون بنصيب يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله وإشفاقا على الناس (للسائل والمحروم) للمستجدى والمتعفف الذى يظنه الناس غنيا فيحرم من الصدقة.
يدخلون الجنة، فالشهيد (1)، وعبدٌ مملوك أحسن عبادة ربه، ونصح لسيده (2)، وعفيفٌ متعففٌ (3) ذو عيالٍ، وأما أول ثلاثةٍ يدخلون النار فأمير مُسلط (4)، وذو ثروةٍ من مالٍ لا يؤدى حق الله في ماله، وفقيرٌ فخورٌ (5). رواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان مفرّقاً في موضعين.
10 -
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: أُمرنا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له (6). رواه الطبراني في الكبير موقوفاً هكذا بأسانيد أحدهما صحيح، والأصبهاني.
وفي روايةٍ للأصبهانى قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمسلمٍ ينفعه عمله.
11 -
وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك بعده كنزاً مُثِّلَ له يوم القيامة شجاع (7) أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذى خلفت، فلا يزال يتبعه حتى يُلقمه (8) يده فيقضمها (9) ثم يتبعه سائر جسده، رواه البزاز وقال: إسناده حسن، والطبراني وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
12 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذى لا يؤدى زكاة ماله يُخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان قال: فيلزمه، أو يطوقه يقول: أنا كنزك. أنا كنزك. رواه النسائي بإسناد صحيح.
(الزبيبتان) هما الزبدتان في الشدقين، وقيل: هما النكتتان السوداوان فوق عينيه، والشجاع تقدم.
(1) الذى قتل في سبيل الله.
(2)
خادم أدى حقوق ربه وسيده، وكان أميناً صادقاً.
(3)
لا يسأل الناس؛ ويعتمد على الرازق سبحانه. ويعمل عملا، وله أولاد وزوجة.
(4)
حاكم ظالم جائر لم يخف الله في أوامره.
(5)
كذا ع ص 261، وفى ن د، ط: فقيه فخور، أي محتاج كثير الكبر والفخر والعظمة يتكبر على الناس.
(6)
لم تهذبه صلاته بإخراج الزكاة لأنها ناقصة.
(7)
كذا ع، وفى ن د: شجاعا.
(8)
يقرب ويحازى.
(9)
يأكلها بأطراف الأسنان. وقضم الناس هلكهم، ومنه احذروا القضم.
13 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من آتاهُ الله مالاً فلم يُؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، يعنى شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية:(ولا يحسبن الذين يبخلون) الآية. رواه البخاري والنسائي ومسلم.
14 -
وعن عمارة بن حزمٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربعٌ فرضهن الله في الإسلام فمن جاء بثلاث لم يُغنين (1) عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت. رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة، ورواه أيضاً عن نعيم بن زياد الحضرمى مرسلاً.
15 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتىَ بفرسٍ يجعل كل خطوةٍ معه أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل عليه السلام، فأتى على قومٍ يزرعون في يومٍ، ويحصدون في يومٍ، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال ياجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تُضاعف (2) لهم الحسنة بسبعمائة ضعفٍ، وما أنفقوامن شئٍ فهو يخلفه، ثم أتى على قومٍ ترضخ (3) رءُوسهم بالصخر كلما رُضخت (4) عادت كما كانت، ولا يُفتر عنهم (5) من ذلك شئ. قال: ياجبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت (6) رءُوسهم عن الصلاة، ثم أتى على قومٍ على أدبارهم (7) رقاعٌ (8)، وعلى أقبالهم رقاعٌ
(1) فى ن د: لم تغن: أي لم تسد ولم تكف: أي الأربعة أركان مشيدة قصر الإسلام الفخم فإن عدم واحدة انهدم قصره، وزال ركنه.
(2)
يضاعف خيراته وحسناته، ويبارك فيه.
(3)
ترمى.
(4)
دقت وكسرت، من المراضخة: المراماة بالسهم والرضخ: الشدخ، ورضخ: أعطى.
(5)
لا تحصل فترة وتخفيف، ولا يمنع عنهم هذا العمل بل يستمر.
(6)
أي كسلت وتباعدت، وعدوها ثقيلة.
(7)
ظهورهم، ومنه قوله تعالى:(ويولون الدبر) والدبر: ضد القبل، جمع أدبار: ضد أقبال: أي من مقدمه ومؤخره.
(8)
قطع بالية، وخرق مكتوب عليها تقصيره في حقوق الله كما ورد في النهاية في شرح:(يجئ أحدكم يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق) أراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، وخفوقها حركتها أهـ والمعنى أن الله يسمهم بعلامات المقصرين، ويكشف ستره سبحانه، ويجعل منظرهم كئيبا ليتحسروا على ما فرطوا، ويندموا على ما قصروا في دنياهم فليعتبر الأغنياء كما قال صلى الله عليه وسلم:(رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) يريد صلى الله عليه وسلم حث المسلمين على الأعمال الصالحة، وتشييد مشروعات الخير بثمرات أموالهم لتنفع في أخراهم (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه).
يسرحون (1)
كما تسرح الأنعام إلى الضريع (2)، والزقوم (3)، ورضف (4) جهنم. قال: ما هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله، وما الله بظلامٍ للعبيد (5). الحديث بطوله في قصة الإسراء وفرض الصلاة. رواه البزار عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره عن أبي هريرة.
16 -
وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته منه، وكنتُ أكثرهم لزوما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تلف مالٌ في برٍّ ولا بحرٍ إلا بحبسِ (6) الزكاة. رواه الطبراني في الأوسط، وهو حديث غريب.
17 -
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) يمشون إلى جمع المال في الدنيا كما تمشى الماشية، والإبل إلى المراعى .. والمسارح: المواضع التى تسرح إليها الماشية للرعى، وفيه حديث أم زرع (له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك) استعمل النبى صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة يسرحون لخستهم يوم القيامة ودناءتهم وحقارتهم، وأنهم في الدنيا مثل الحيوانات يسعون لملء بطونهم وجيوبهم فيكنزون، ولا يعلمون خيراً كما قال تعالى في الكفار:(يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) وهؤلاء أيضاً الذين لا يخرجون الزكاة ينالون عقابا مثلهم.
(2)
نبت بالحجاز له شوك كبار ويقال له الشيرق وفيه حديث أهل النار (فيغاثون بطعام من ضريع) قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم: (هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع).
(3)
عبارة عن أطعمة كريهة في النار. قال تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلى في البطون كغلى الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم) سورة الدخان.
(الأثيم): كثير الآثام، والمراد به الكافر (كالمهل): ما يمهل في النار ليذوب (خذوه) أيها الزبانية (فاعتلوه): فجروه إلى وسط النار، وقولوا له استهزاء به (ذق) تقريعاً على مكان يزعمه، ويقصر فى الزكاة (تمترون): تشكون في ثواب الإنفاق، وتمارون في عذاب الله.
(4)
حجارة محماة على النار واحدها رضفة.
(5)
الله سبحانه تنزه عن الظلم، وما هذا إلا جزاء ما كنزوا في دنياهم، وكانت آياته تعالى تتلى عليهم في بيان الإنفاق، وفضل الزكاة فيزيدون بخلا.
(6)
عدم إخراجها بسبب دمار البيوت العامرة.
مانع الزكاة يوم القيامة في النار. رواه الطبراني في الصغير عن سعد بن سنان، ويقال فيه سنان بن سعد عن أنس.
مانع الزكاة يوم القيامة في النار
18 -
وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خالطت منه إلا أهلكته الصدقة، أو قالَ: الزكاةُ مالا إلا أفسدته رواه البزار والبيهقي. (وقال الحافظ): وهذا الحديث يحتمل معنيين: أحدهما أن الصدقة ما تُركت في مال ولم تخرج منه إلا أهلكته. ويشهد لهذا حديث عمر المتقدم: ما تلف مالٌ في برٍّ ولا بحرٍ إلا بحبس الزكاة. والثانى: أن الرجل يأخذ الزكاة وهو غنى عنها فيضعها مع ماله فتهلكه. وبهذا فسره الإمام أحمد، والله أعلم.
19 -
وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهرت لهم الصلاة فقبلوها، وخفيت لهم الزكاة فأكلوها، أولئك هم المنافقون (1). رواه البزار.
20 -
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منع قومٌ الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين (2). رواه الطبراني في الأوسط، ورواته ثقات، والحاكم والبيهقى في حديث إلا أنهما قالا:
ولا منع قومٌ الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ورواه ابن ماجه والبزار والبيهقى من حديث ابن عمر، ولفظ البيهقى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر المهاجرين (3) خصالٌ خمسٌ إن ابتليتم (4) بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة (5) في قومٍ قط حتى يُعلنوا بها إلا فشا
(1) الكذابون المراءون الذين إسلامهم ناقص، وإيمانهم ضعيف.
(2)
القحط وشدة الأزمة والفقر ونزع البركة من المال والبنين، ومنه:(أعنى عليهم بسنين كسنى يوسف) التى ذكرها الله تعالى في كتابه (ثم يأتى من بعد ذلك سبع شداد) أي سبع سنين فيها قحط وجدب، ومنه: (اللهم أعنى على مضر بالسنة بقلب لامها تاء في أسنتوا: إذا أجدبوا.
(3)
يخاطب صلى الله عليه وسلم الذين انتقلوا من موطنهم إلى المدينة المنورة، وهاجروا لله ورسوله.
(4)
اختبرتم بهن. أىوحصلن في زمنكم، ثم طلب صلى الله عليه وسلم الاستعاذة منهن، والتحصن من وجودهن، والتفضل بإبعادهن عن أصحابه وأحبابه رضي الله عنهم، وقال ذلك ليعلم المسلمين أن يتجنبوهن.
(5)
الزنا وفعل السوء.
فيهم الأوجاع (1)
التى لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين (2)، وشدة المؤنة، وجور السلطان (3)، ولم يمنعوا زكاة (4) أموالهم إلا منعوا القطر (5) من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله (6) إلا سلط عليهم عدوٌ من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم (7) بكتاب الله إلا جعل بأسهم (8) بينهم.
21 -
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله: خمسٌ بخمسٍ. قيل: يا رسول الله ما خمس بخمسٍ؟ قال: ما نقض قومٌ العهد إلا سلط (9) عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم (10) الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر، ولا طفَّفُوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأُخذوا بالسنين. رواه الطبراني في الكبير وسنده قريب من الحسن وله شواهد.
(1) الأمراض. سرح نظرك أيها المسلم في هذا العصر لترى أمراضا ما سمعها آباؤنا وأجدادنا الأقدمون رحمهم الله، وجاءت هذه الكوارث من إطلاق العنان للمرأة، والتبجح بكلمة حرية تغدو وتروح وتتبرج وتتزين، وتختلط بالأجنبى، وهناك الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، والعدوى بالأمراض المهلكة المدمرة وإنى أحمى قلمى أن يذكرها، وأدع عاقبة المجون، وهذه الدعارة للحوادث المشاهدة وشكوى الشباب المندفع في هذا السبيل بلا عقل، ولا خوف من الله تعالى، وبين الله تعالى في محكم كتابه قبح الزنا. قال تعالى (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا).
أي لا تقدموا إلى فعلته بالعزم والإتيان بالمقدمات فضلا عن أن تباشروه (فاحشة) أي فعلة ظاهرة القبح زائدته إلى قطع الأنساب للنسل مهلكة للجسم مخلطة الأنساب (وساء سبيلا) وبئس طريقاً طريقه وهو الغضب على الإيضاع المؤدى إلى قطع الأنساب، وهيج الفتن. والزنا: وطء المرأة في غير عقد شرعى. قال تعالى (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين).
وزنا وزنؤ: حقن بوله. قال البيضاوى: إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء فإن المشاكلة علة للألفة والتضام، والمخالفة سبب للتفرقة والافتراق، والمعنى أن المؤمن يعد هذا حراما فلا يتشبه بالفسقة العصاة.
(2)
القحط والفقر.
(3)
ظلم الحاكم والتعدى، وشدة القوانين المضيقة على الحرية.
(4)
المفروضة وبخلوا.
(5)
لم ينزل مطر يمد الأنهار، ويسقى الزروع.
(6)
الاستقامة، وتوحيد الله، وعبادته بحق، والإيمان به وبرسله.
(7)
علماؤهم وقضاتهم وحكامهم يأتمرون بأوامر الله، وينفذون أحكامه.
(8)
أي سلط الله عليهم الشقاق والذلة، والفتن الداخلية وحروب بعضهم لبعض والغيبة والدس والكيد، والبأس: الشدة والمكروه (والله أشد بأساً وأشد تنكيلا) وقال تعالى: (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون).
(9)
حفظ الإيمان. قال تعالى (وأوفا بالعهد إن العهد كان مسئولا).
(10)
حصدت أرواحهم الأمراض المختلفة.
(السنين): جمع سنة، وهى العام المقحط الذى لم تنبت الأرض فيه شيئاً سواء وقع قطر أو لم يقع.
22 -
وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: لا يُكوى رجل بكنزٍ فيمس درهم درهماً، ولا دينارٌ ديناراً يوسع جلده حتى يوضع كل دينارٍ ودرهمٍ على حدته (1). رواه الطبراني في الكبير موقوفاً بإسناد صحيح.
23 -
وعنه رضي الله عنه قال: من كسب طيباً (2) خبَّثَهُ (3) منع الزكاة، ومن كسب خبيثا (4) لم تطيبه الزكاة. رواه الطبراني في الكبير موقوفاً بإسناد منقطع.
24 -
وعن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال: جلست إلا ملإ من قريشٍ فجاء رجلٌ خشنُ الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم، ثم قال: بشر الكانزين برضفٍ يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدى أحدهم حتى يخرج من نُغضِ (5) كتفه، ويوضع على نُغضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه (6) فيتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه، وأنا لا أدرى من هو، فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذى قلت. قال: إنهم لا يعقلون شيئاً قال لي خليلى. قلت: من خليلك؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم: أتبصر أحداً (7)؟
قال: فنظرت إلى الشمس ما بقى
(1) المعنى أن الله تعالى يكبر جسمه حتى يضع كل درهم على جلده فيسعه ليذوق عذاب ناره.
(2)
حلالا.
(3)
نجسه، وجلب على نفسه العذاب.
(4)
حراما من وجوه غير شرعية كالسرقة والرشوة والغش والخداع وهكذا.
(5)
أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذى على طرفه بفتح النون وضمها، وكذا الناغض.
(6)
كذا ع ص 264، وفى ن د ثدييه.
(7)
جبل عظيم، لم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجد عنده مثل هذا الجبل؛ ولو وجد لأنفقه كله في الخير، ولم يبق إلا ثلاثة دنانير يرصدها لانتظار فعل الخير.
شرح قوله صلى الله عليه وسلم (لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء).
الدليل من كتاب الله تعالى
على أن منع الزكاة والصدقات يزيل النعم، ويخرب الديار العامرة، وكذا المن والرياء. =
من النهار، وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرسلنى في حاجةٍ؟ قلت: نعم
= أريد أن أسرد عليك حوادث صحيحة مرت على قوم كانوا في بحبوحة العيش ورغده، وهناءة الضمير، وسعة الرزق، ووفرة المال، ولكن أصابهم البخل، وحفهم الشح، فضيعوا حقوق الفقراء، ومنعوا الزكاة وحرموا المساكين، أو جادوا للرياء والسمعة والمن، ولم يقصدوا وجه الله في إنفاقهم:
أولا: بستان لرجل صالح منفق، وكان ينادى الفقراء وقت الجنى، وقطع الثمرة، ويترك لهم ماأخطأه المنجل، وألقته الريح، أو يجمع ثمر النخل، ويترك لهم ما يبسط تحت النخلة، فيجتمع لهم شئ كبير، فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا ليقطعنها وقت الصباح خفية عن المساكين. قال تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبيح 18 ولا يستثنون 19 فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون 20 فأصبحت كالصريم 21 فتنادوا مصبحين 22 أناغدوا على حرثكم إن كنت صارمين 23 فانطلقوا وهم يتخافتون 24 أن لا يدخلنا اليوم عليكم مسكين 25 وغدوا على حرد قادرين 26 فلما رأوها قالوا إنا لضالون 27 بل نحن محرمون 28 قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 29 قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين 30 فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون 31 قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين 32 عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون 33 كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) 34 سورة ن.
قال البيضاوى يريد الذى كان دون صنعاء بفرسخين أهـ (إنا بلوناهم) أي اختبرنا أهل مكة - شرفها الله تعالى - بالقحط، لأن المشركين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم الوليد بن المغيرة أو الأخنس بن شريق، وفيه قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم) الآيات (ولا يستثنون) ولا يقولون إن شاء الله، ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم، فمر عليها بلاء، فأصبحت كالبستان الذى قطع ثمره، بحيث لم يبق فيه شئ وقد بكروا يتشاورون فيما بينهم، وعزموا أن ينكدوا على الفقراء، فنكد عليهم، بحيث لا يقدرون إلا على النكد، أو غدوا حاصلين على النكد والحرمان ومكان كونهم قادرين على الانتفاع، وقيل الحرد الحنق أي لم يقدروا إلا على حنق بعضهم لبعض، وقيل الحرد: القصد والسرعة، قال الشاعر:
أقبل سيل جاء من أمر الله
…
يحرد حرد الجنة المغلة
أي غدوا قاصدين إلى جهنم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها، وقيل علم للجنة.
أقروا ببخلهم (إنا لضالون) حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا (طاغين) متجاوزين حدود الله تعالى ثم تابوا إلى الله تعالى، واعترفوا بذنبهم (عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها) قيل نفعت التوبة، فعفا عنهم سبحانه وأبدلهم خيراً منها. تبنا إلى الله، اللهم ارزقنا التوفيق والسعادة إنك غفور رحيم.
(كذلك العذاب) يشير الله تعالى إلى أن المعاصى سبب النقم والقحط والجوع وشدة الأزمة في الدنيا، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:(حصنوا أموالكم بالزكاة)، وقال تعالى:(إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم 35 افنجعل المسلمين كالمجرمين 36 ما لكم كيف تحكمون 37) سورة ن.
أي للصالحين في الآخرة، أو في جوار القدس جنات ليس فيها إلا التنعيم الخالص، وأن الله تعالى يضع القناعة والرضا في قلوب الصالحين في الدنيا، فيشعرون بسعادة الحياة، فتنشح صدورهم فرحين مسرورين.
الدليل الثانى: رجلان أخوان من بنى إسرائيل: الأول كافر واسمه قطروس. والثانى مؤمن واسمه يهوذا، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطرا فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا، وصرفها المؤمن =
قال: ما أُحب أن لى مثل أحُدٍ ذهباً أُنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون
= في وجوه الخير، فضاع مال الأول وذهب سدى، وبقى الثانى مباركا ينفعه وينفع ذريته، قال تعالى:(واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً، وفجرنا خلالهما نهراً، وكان له ثمر، فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً. قال له صاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا. لكنا هو الله ربى ولا أشرك بربى أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربى أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيداً زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا، وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها، ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحداً ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثواباً وخير عقبا) 32 - 44 سورة الكهف.
بساتين كروم ونخل بينهما زرع جامع للأقوات والفواكهة متواصل العمارة على الشكل الحسن، والترتيب الأنيق يدون شربهما بنهر يزيد بهاءهما، وقد أخذ الغرور صاحبهما وضرهما بعجبه وكفره وبخله، وطال أمله ونسى ربه وتمادى في غفلته واغتراره بمهلته (ما أظن أن تبيد هذه أبداً) فنصحه المسلم أن الله عدلك وكملك (ثم سواك رجلا) جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب فإن من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه كأنه قال: أنت كافر بالله، ولكنى مؤمن بالله أي شئ شاء الله كان ولا قوة إلا بالله فيجب عليك أن تعترف بتعجز نفسك، وتكل الأمر والقدرة لله وأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونته وإقداره.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم: (من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره). واعترف المسلم بالعجز، وسلم لله، ورجا من الله خيراً من جنة الكافر في الدنيا، وتوقع أن تفنى جنة الكافر (وأحيط بثمره) لا حول ولا قوة إلا بالله زال هذا النعيم في لحظة، وأهلك أمواله حسبما توقعه صاحبه، وأنذره منه وسقطت عروشها وكرومها على الأرض، فتذكر موعظة أخيه، وتمنى عدم إشراكه، فلا يهلك الله بستانه، ولا أحد يدفع الإهلاك عنه سوى الله الواحد الأحد، ولله النصرة وحده لا يقدر عليها غيره، وعاقبة النعيم الباقى لأوليائه وأحبابه، وله تعالى السلطان والملك، ولا يعبد غيره سبحانه، آمنا به وبرسله فاللهم وفقنا لنعمل.
الدليل الثالث: رجل مبتل بالفخفخة، وحب الثناء، ويميل إلى مدح الناس، ويحب الظهور، ويعمل رياء ويتصدق ويمن فلا ينفع عمله، ولا تقبل صدقاته، وماله يذهب بلا فائدة. قال تعالى:(أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) 266 البقرة.
وشاهدنا وجود النعم مع كبر السن لا يحفظها إلا العمل لله لتبقى والهمزة فيه للإنكار: أي لا يحب وجود حديقة فيها أنواع الأشجار المثمرة ترعرعت وأينعت وازهرت مع كبر سنه، ووجود صغار لا قدرة لهم على الكسب، وإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب، والإعصار: ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كالعمود. والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها حب الرياء والإيذاء في الحسرة والأسف، فإذا كان يوم القيامة، واشتدت حاجته إليها وجدها محيطة بحال من هذا شأنه، وأشبههم به من حال بره في عالم الملكوت، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور، والتفت إلى ما سوى الحق، وجعل سعيه هباء منثوراً (تتفكرون) رجاء أن تعتبروا بها أهـ بيضاوى. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أي له جنة جامعة للمثار فبلغ الكبر، وله ذرية ضعفاء، والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة أهـ نسقى.
وقيل هذه الآية بين الله تعالى مضاعفة الثواب. وزيادة النعم للمنفق ابتغاء وجهه الكريم لا يقصد سوى رضاه، ولايحب الرياء العامل بقوله تعالى (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوات عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين) 264 البقرة.
أي رد جميل، وتجاوز عن السائل وإلحاحه، أو نيل المغفرة من الله بالرد الجميل أو عفو من السائل بأن يعذر، ويغتفر رده (والله غنى) عن إنفاق بمن وأذى (حليم) عن معالجة من يمن ويؤدى بالعقوبة، ومثل المرائى في إنفاقه كحجر أملس لم يؤثر فيه نزول المطر، وتركه المطر أملس نقياً من التراب، وفيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صدقات الكافرين، والله لا يهديهم إلى الخير والرشاد، ولابد للمؤمن أن يتجنب عنها، وإن شاهدنا (وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار) ما جاء التلف إلى هذه الحديقة الغناء إلا لعصيان الله من بخل وأذى ورياء، فبدل الله نعمته نقمة، وغناه فقرأ، ويسره عسراً، وأصابه الكبر ولم يقيد هذا الخير بطاعة الله وأداء زكاة ماله وطغى وتجبر، وعلى عباد الله تكبر، وورم أنفه؛ ومشى ببطء وبطر وبغى على قومه، وحكى الله تعالى عن العلماء الناصحين قارون ذا المال الكثير:(وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين 77 وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) 78 سورة القصص.
ماذا أصاب هذا الطاغية؟ إن الله حكى عنه: (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح. تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون عُلُوَّا في الأرض ولا فسادًاوالعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) 85 القصص.
(علوا): غلبة وقهرا (فساداً) ظلماً وشحاً (خير منها) ذاتاً وقدرا ووصفا.
روى أن قارون كان يؤذى موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بنى إسرائيل ليرفضوه، فبرطل بغيا لترميه بنفسها، فلما كان يوم العيد قام موسى خطيباً: فقال: من سرق قطعناه، ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصناً رجمناه، فقال قارون: ولو كنت؟ قال: ولو كنت. قال: إن بنى إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت، فناشدها موسى عليه السلام بالله أن تصدق، فقالت: جعل لى قارون جعلا أن أرميك بنفسى، فخر موسى شاكياً منه إلى ربه، فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت، فقال: ياأرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه، ثم قال: خذيه فأخذته إلى وسطه، ثم قال: خذيه فأخذته إلى عنقه، ثم قال: خذيه فخسفت به، وكان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه، فأوحى الله إليه ما أفظعك استرحمك مرارا فلم ترحمه؛ وعزتى وجلالى لو دعانى مرة لأجبته، ثم قال بنو إسرائيل: إنما فعله ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون) حلت هذه المصيبة بقارون لأنه لم يزك، وهذا عنوان ما نبغيه، والله أعلم، ولو اتقى الله قارون =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج الزكاة كأمر نبيه عليه السلام، دام ذكره، وحسن حاله، وأثمر ماله وزها فعله، ولكن بخل في الخير، وشح في حقوق الله مسكنه وماله في باطن الأرض، وهذا شرع الله لدن آدم. قال تعالى:(واذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) 84 سورة البقرة.
إخبار بمعنى النهى (ثم توليتم) على طريقة الالتفات، ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبلهم على التغليب: أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتمون (إلا قليلا) يريد به من أقام اليهودية قبل النسخ، ومن أسلم منهم، وقبل هذه الآية ذكر الدستور ما حكاه عن اليهود (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلفالله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) 83 من سورة البقرة.
فأنت تجد دستور الله ونظامه، وعدله في مادتين:
أولا: المذنب يعاقب بالنار. ثانياً: المؤمن الذين عمل صالحاً ينعم بالجنة، وهذا هو ميثاق الله للأنبياء ليعلموها الناس، وتجد فيه الأمر بالزكاة، واتفقت الأديان والشرائع على أن الإحساس مصدر الخير ومعين البر وقد أرسل الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأقام الحجة على أشرار قومه وضلالهم في اتخاذ الأصنام من دون الله ووجه سؤالهم إلى الله تعالى المالك المعطى، قال تعالى:(وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون 17) أي الخير والشر وتميزون بين النافع والضار (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لايملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) 18 من سورة العنكبوت، أمرهم سيدنا إبراهيم بثلاثة:
أ - اطلبوا من الغنى الكريم الرزق.
ب - اخلصوا في طاعته سبحانه.
جـ - احمدوه وأثنوا عليه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين لما حفكم من النعم بشكره أو مستعدين للقائه بحسن العبادة والشكر، وإن شاهدنا (واشكروا له) لتدون النعم ويكثر الخير، وتزداد البركة وهكذا طلب سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكثيراً ما رأينا أسراً غنية مات عائلها فورث أبناؤه المال فأنفقوه في الملذات وأسرفوا وبذروا حتى فنى كما قال تعالى:(وأحيط بثمره)، (فأصابها إعصار) ولقد بحثت عن سبب ذلك فوجدت صاحبه كان غير مزك.
الدليل الرابع: البخيل يذمه الله، كما أن المرائى بالإنفاق يبغضه الله وقائدهما الشيطان، وهما مخالفان لأمر الله تعالى، ومالهما لا يبقى ولا ينفع الذرية، وهو عرضة للزوال، قال تعالى:(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً. وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله، وكان الله بهم عليما. إن الله لايظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما) 40 من سورة النساء (والجار ذى القربى) الذى قرب جواره، وقيل الذى له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (والجار الجنب) البعيد والذى لا قرابة له، وعنه عليه الصلاة والسلام:(الجيران ثلاثة: فجار له ثلاث حقوق حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. وجار له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام. وجار له حق واحد: وهو المشرك من أهل الكتاب)(والصاحب بالجنب) أي الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجنبك، وقيل المرأة (وابن السبيل) المسافر أو الضيف (وما ملكت أيمانكم) العبيد والإماء والخدم (إن الله لا يحب من كان مختالا) أي يكره كل متكبر بخيل يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم ولا يساعدهم ولا يمدهم بخيراته وإحسانه (فخورا) كثير الكلام معجباً بنفسه. غناء لشرهه وشهواته، ويتفاخر عليهم (من فضله) الغنى والعالم يضن بالإنفاق والإرشاد (وأعتدنا للكافرين) قال البيضاوى: وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله ومن كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء، والآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصيحاً لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر، وقيل في الذين كتموا صفة محمد عليه الصلاة والسلام أهـ بيضاوى ص 138 ومن يقتدى بهم مثلهم.
(والذين ينفقون) عطف على الذين يبخلون أو الكافرين، وإنما شاركهم في الذم أو الوعيد لأن البخل والسرف الذى هو الإنفاق على ما لا ينبغى من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في القبح واستجلاب الذم (ولا يؤمنون بالله) لم يتحروا بالإنفاق ثواب الله، ولم يرجوا مراضيه، وهم مشركو مكة، وقيل المنافقون، وإن الشيطان قائدهم فحملهم على ذلك وزينه لهم، وأن فعلهم عن طريق الخير، والله يضاعف الثواب ويهب النعم ويعطى صاحبها على سبيل التفضل من عنده عطاء جزيلا وخيراً كثيراً.
فأنت تجد أمر الله بالإحسان بعد توحيده، والاعتقاد بوجوده، وينهى عن البخل والرياء وهما خلتان مدمرتان القصور الشامخة، ومخربتان البيوت العامرة (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) قرآن كريم، قال تعالى:(أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير. هم درجات عند الله والله بصير بما تعملون) 164 من سورة آل عمران: أي من أطاع الله كما أساء ورجع بالمعاصى، والناس ذوو درجات عند الله لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب، وهو سبحانه عالم بأعمالهم ودرجاتها صادرة عنهم، فيجازيهم على حسبها، والله سبحانه وتعالى أعلم، اللهم وفقنا.
الدليل الخامس: رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء جماعة حتى لقب بحمامة المسجد ولكن بخل بماله فعد من المنافقين. قال الصاوى: كان أولا صحابيا جليلا ملازما للجمعة والجماعة والمسجد، ثم رآه النبى صلى الله عليه وسلم يسرع بالخروج أثر صلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل فعل المنافقين؟ فقال: إنى افتقرت ولى ولامرأتى ثوب أجئ به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلى به، فادع الله أن يوسع في رزقى أهـ.
قال الله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولو وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدى القوم الفاسقين) من سورة التوبة
قال البيضاوى: نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبى صلى الله عليه وسلم، وقال: ادع الله أن يرزقنى =
. . . . . . . . . . . . . . . .
= مالا، فقال عليه الصلاة والسلام: ياثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال: والذى بعثك بالحق لئن رزقنى الله مالا لأعطين كل ذى حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد، فقال: ياويح ثعلبة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه الكتاب الذى فيه الفرائض، فقال: ماهذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيى فنزلت، فجاء ثعلبة بالصدقة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن الله منعنى أن أقبل منك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال، هذا عملك قد أمرتك فلم تطعنى فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه أهـ.
أرأيت ثعلبة، وكان فقره نعمة، يؤدى الصلاة مع خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فيلح ويطلب دعوة صالحة فيقول له صلى الله عليه وسلم:(أما لك في أسوة حسنة، والذى نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معى ذهباً وفضة لسارت)(بخلوا به) منعوا حق الله منه (وتولوا) بعدوا عن طاعة الله، فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقا، وسوء اعتقاد في قلوبهم - ويجوز أن يكون الضمير للبخل - والمعنى فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم إلى يوم يلقونه جزاء أعمالهم بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح، وبكونهم كاذبين مخلفى الوعد (سرهم) ما أضمروه، وأسروه في نفوسهم (ونجواهم) وما يعلنون به فيما بينهم من المطاعن أو تسمية الزكاة جزية أهـ.
وهنا ذكر البيضاوى وغيره موازنة ما يؤيد أن الزكاة تعمر البيوت، وتزيد المال، وعدم إخراجها دمار شارحا قوله تعالى:(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات).
روى أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف وقال: كان لى ثمانية آلاف درهم فأقرضت ربى أربعة، وأمسكت لعيالى أربعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وفيما أمسكت، فبارك الله له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن أي على ثمانين ألف درهم، وتصدق عاصم بن عدى بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصارى بصاع تمر، فقال: بت ليلتى أجر بالجرير (أي الحبل) على صاعين فتركت صاعا لعيالى وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزه المنافقون (أي لاموه وعرضوا به ورموه بالجبن والإسراف) وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصما إلا رياء، ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت:(والذين لا يجدون إلا جهدهم) أي إلا طاقتهم (فيسخرون منهم) يستهزئون بهم (سخر الله منهم) أي جازاهم على سخريتهم، وعاقبهم بالفقر والخزى، والذل في الدنيا، وفى الآخرة بدخول جهنم.
هذه تعاليم الإسلام يتصدق سيدنا عبد الرحمن بنصف ماله ثقة بالله، وبانتظار ثوابه، ومضاعفة خيراته ولقد نما ماله، وزاد خيره حتى ورثت إحدى زوجاته نصف الثمن على ثمانين ألف درهم.
ما شاء الله. (8 × 80000 = 640000 درهم: أي 700 جنيه) رأس مال سيدنا عبد الرحمن عند موته ستمائة وأربعون ألف درهمورأيت ذلك الزارع المسكين الذين يقضى طيلة ليله في جر الحبل، وتصدق بصاع نصف أجره، وقبله النبى صلى الله عليه وسلم صدقة. لماذا؟ ليعلمه النبى صلى الله عليه وسلم حب الخير، وانتظار سعة الله، وزيادة رزقه، ومشاركة المسلمين في الفتح، وأن يضرب معهم بسهم في الغزو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويعطى درس سخاء للمسلمين أن يجودوا ولو قل مالهم، ليكثر الله عليهم من نعمه، ويقيهم شر البخل الذى طرد ثعلبة من رحمة الله.
إذا كنت في نعمة فارعها
…
فإن المعاصى تزيل النعم
ماذا أفاد قارون وثعلبة بعد موتهما، وقانون الله العام في محكمة كتابه:(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفى الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابى أصيب به من أشاء ورحمتى وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون) 157 من سورة الأعراف. الخبائث. الدم ولحم الخنزير والربا والرشوة وطلب بنو إسرائيل.
اللهم ابعث لنا حسن معيشة، وتوفيق طاعة، ونعمة الحياة والرخاء، وهناءة العيش وصحة البدن سبحانك تبنا إليك، فأجاب الله تعالى (رحمتى) للمؤمن والكافر، ولكن يدون نعيمها، ويكثر خيرها في الدنيا والآخرة لاثنين:
أولا: المؤمن الذى يخاف الله، ويجتنب الكفر، ويبعد عن المعاصى.
ثانيا: المؤمن الذى يزكى، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه. ومضمون الآية جواب دعاء موسى عليه السلام، وأن الذى الذى أصاب المسلمين الآن سببه بخل الأغنياء، وشح الموسرين، فأين إنشاء المدارس، وتشييد دور العلم، وإقامة المعاهد والمصانع، وإدارة المتاجر ووجود المشاقى والملاجئ، وتشجيع مشروعات الخير.
سرح نظرك نحو أوربا وأمريكا تجد تاريخ الأبطال مملوء بالأعمال الجسام، والوقف على أعمال البر بالآف الجنيهات فسادوا وملكوا واستعمروا وفازوا بالمخترعات الحديثة، وعاش أبناؤهم في رغد العيش وعز النفس:
كما مات قوم وما ماتت مكارمهم
…
وعاش قوم وهم في الناس أموات
والله تعالى رغب في الانفاق لتدوم سعادة الحياة، وكثيراً ما ذكر صفات المؤمنين وكرر:
أ - في سورة القصص (ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون).
ب - في سورة الشورى (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) وعرف العقلاء أن متاع الدنيا فان منقض، ونعيم الله باق في الدنيا والآخرة. قال تعالى:(وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون. أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) 61 من سورة القصص.
الوعد الحسن بالجنة وهو مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده سبحانه، ومتاع الدنيا مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع، ويحضر صاحب النعمة ليسأل عنها فيما أفناها (لتسألن يومئذ عن النعيم).
وقال تعالى: (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين) 45 سورة المدثر.
وقال تعالى: (أرأيت الذى يكذب بالدين، فذلك الذى يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين).
3 سورة الماعون: أي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً، ولا يحسن إليه، ولا يحث أهله على الصدقة لعدم اعتقاده بالجزاء. قال تعالى:(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون: ويمنعون الماعون) 7 سورة الماعون.
قال البيضاوى: أي الزكاة وما يتعاود في العادة والفاء للجزاء والمعنى إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين والموجب للذم والتوبيخ فالسهو عن الصلاة التى هى عماد الدين والرياء الذى هو شعبة من الكفر، ومنع الزكاة التى هى فطرة الإسلام أحق بذلك أهـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (يدع اليتيم) هو أبو جهل كان وصيا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه، أو أبو سفيان: نحر جزوراً فسأله يتيم لحماً فقرعه بعصاه، أو الوليد بن المغيرة، أو منافق بخيل: وشاهدنا واد في جهنم (ويل) لمانعى الزكاة البخلاء فقد جعل الله مأواهم جهنم لم ينفقوا في طاعة الله ولم يحسنوا في حياتهم إلى الفقراء.
إن الله تعالى جعل الإنفاق في الخير من صفات المؤمنين. قال تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين 1 إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون 2 الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون 3 أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) 4 من سورة الأنفال.
أي ابتعدوا أيها المؤمنون عن الاختلاف والمشاجرة، وخافوا الله في أداء أعمالكم وواسوا أقرباءكم ومدوهم بالمساعدة وأعينوهم (وأصلحوا ذات بينكم).
قال البيضاوى: الحال التى بينكم المساواة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول: أي إن كنتم كاملى الإيمان، وكمال الإيمان بهذه الثلاثة:
أ - طاعة الأوامر.
ب - الاتقاء عن المعاصى.
جـ - إصلاح ذات البين بالعدل والإحسان، وتلك شاهدنا الزكاة تعمر البيوت بالألفة والمودة، والبخل مدمر وباعث الشقاق ومرسل الكدر ومحرك الضغائن وموقد العداوة ومزيل راحة الضمير وهناءة البال. ثم قصر سبحانه وتعالى صفات المؤمنين:
أولا: فزع القلوب لذكر الله استعظاما له، وتهيباً من جلاله، ولا تقدم على معصية خشية لله.
ثانيا: زيادة الإيمان بسماع القرآن، واطمئنان النفس به، ورسوخ اليقين بربه، وتوطيد العزيمة على العمل بموجبه.
ثالثا: يفوض المؤمنين الأمر إليه سبحانه، ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
رابعا: يقيمون الصلاة.
خامسا: ينفقون من كسب حلال، هؤلاء حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التى هى العيار عليها من الصلاة والصدقة. وإن الله كافأهم:
أ - بدرجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ولهم كرامة وعلو منزلة عند الله.
ب - محو ذنوب ما فرط منهم.
جـ - أعد لهم في الجنة نعيما لا ينقطع عدده ولا أمده مسكين أيها الإنسان تسعى وتجاهد وتجالد في حياتك ودنياك مشوبة بهموم وأكدار، فهل لك أن تمحص خصال المؤمنين وتتفقدها فيك وتجتهد أن تتخلى بها وتعمل عسى أن يصيبك هذا الجزاء الصادر من الكريم الحليم الذى لا تنفد خزائنه، ولا يجم معين فيضه وفضله، وقد جعل سبحانه وتعالى الشح صفة ملازمة للمنافقين البعيدين عن رحمته سبحانه. قال جل شأنه:(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) 68 من سورة التوبة.
أي صفات العصاة متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان يأمرون بالكفر والمعاصى وينهون عن الإيمان والطاعة والزكاة ويمسكون عن المبار وقبض اليد كناية عن الشح (نسوا الله) غفلوا عن طاعته وتركوا ذكره (فنسيهم) تركهم من لطفه وفضله: (وعدالله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) 69 التوبة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أي أبعدهم الله من رحمته وفضله وأهانهم بعذاب مستمر لا ينقطع. قل لى بربك: أي الحالتين تحب؟ مؤمن تحلى بالسخاء وعمر الإيمان قلبه فأضاءت شموس الحكمة، فعمل بأوامر الله فكثرة خيره وزاد رزقه ومتعه الله برضاه دنيا وأخرى، وآخر عاص فاسق بخيل شحيح سلط الله عليه الدنيا فشغلته واستخدمته، فجمع المال لغيره ولكن حوسب به وعذب على بخله وحرم من محبة الأصفياء والأقربين، قال تعالى:(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم 29 ياأيها الذين آمنوا إن الله تتقوا يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) 30 من سورة الأنفال.
فتنة سبب الوقوع في الإثم أو محنة من الله تعالى ليبلوا الناس. أيعملون الصالحات بالنعمة؟ أولا (أجر عظيم) لمن آثر رضا الله، وراعى حدود الله (فرقانا) هداية في قلوبهم تفرقون بين الحق والباطل ومخرجا من الشبهات ونجاة عما تحذرون في الدنيا والآخرة وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم ويستر خطاياكم ويعفو عنكم والله صاحب الفضل الجزيل تنبيهاً على أن ما وعده على التقوى تفضل منه وإحسان، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل.
الدليل السادس: البخلاء فيهم خصلة النفاق والمنافقون مذمومون في الدنيا والآخرة، وأموالهم ظاهرها نعمة وعز وباطنها عذاب وخراب وفتنة ونقمة ولما فيها من غضب على التقصير في الزكاة، وقد أخبر الله عن المنافقين صفتين:
أ - يصلون ونفوسهم مريضة وقلوبهم خاوية من حب الله وخشيته.
ب - ينفقون مضطرين ويصرفون مكرهين ومن كان هذا عمله فلا تنفعه أمواله ويخسر دنياه وآخرته بل يحق عليه العذاب بالله. قال تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون. فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) 56 من سورة التوبة.
فقد بين الله تعالى عدم قبول نفقات الفاسقين الكافرين بالله تعالى لعدم إخلاصهم في حب الله ورسوله، وهذا في الكفار معاصرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يتشبه في البخل وعدم إخراج الزكاة ومحاربة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو منهم وعقابه مثلهم (وتزهق أنفسهم) أي فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في عاقبة أعمالهم، إذا ضيعوا ثمرة المال فبخلوا وشحوا في الإنفاق في سبيل الله.
وأما المزكون والمتشبهون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعاملون بالسنة فأخبر الله عنهم بالغنى والسعة والسعادة والغنيمة والنصر في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة. أي تعمر بيوتهم ويتمتعون بمنافع الدارين قال تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون. أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) 89 من سورة التوبة.
أي إن تخلف عن مساعدتك يا محمد أولو الفضل والسعة ورضوا عدم الجهاد وجلسوا مع النساء والخوالف فقد جاهد معك من هو خير منهم ولهم جزاء كبير ونجاح وكثرة مال وخير وفير وفوز بالمطالب.
إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفيتهم عن دينٍ (1) حتى ألقى الله عز وجل. رواه البخاري ومسلم.
25 -
وفي رواية رواية لمسلمٍ أنه قال: بشر الكانزين بكىٍّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكىٍّ من قبل أقفائهم حتى يخرج من جباههم. قال: ثم تنحى (2) فقعد. قال قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذرٍّ. قال فقمت إليه فقلت: ما شئ سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئاً قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم قال: قلت ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونةً، فإذا كان ثمناً لدينك فدعه (3).
(الرضف): بفتح الراء، وسكون الضاد المعجمة: هو الحجارة المحماة.
(والنغض): بضم النون وسكون الغين المعجمة بعدها ضاد معجمة: وهو غضروف الكتف.
فصل
26 -
روى عن عمرو بن شعيبٍ رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن امرأةً أتت النبى صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنةٌ لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهبٍ، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يُسوركِ الله بهما يوم القيامة سوارين من نارٍ. قال فحذفتهما (4) فألقتهما إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله. رواه أحمد وأبو داود، واللفظ له والترمذي والدارقطني، ولفظ الترمذي والدارقطنى نحوه:
أن امرأتين أتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيديهما سوارانِ من ذهبٍ، فقال لهما: أتؤديان زكاته؟ قالتا: لا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبان
(1) روى الأحنف بن قيس عن صاحبى جليل نصح للقوم أن يزكوا ولايكنزوا خشية أن يعذبوا بوضع النار على أكتافهم وعلى أثدائهم ثم ولى فجلس تحت عمود فتبعه وسأله عن قوله، فقال: هؤلاء جهلاء أغبياء (لايعقلون). (يجمعون الدنيا) وأقسم أن يتجنب مجالسهم ويباعد محادثتهم ولا يطلب منهم شيئاً ولا يؤمنهم على فتوى في الدين، لماذا؟ لأن البخل طمس على بصيرة هؤلاء والشح دعاهم لجمع المال ولم يزكوا وقل عملهم الصالح فضاعت ثمرة العلم.
(2)
بعد وترك مجالسهم.
(3)
إن كان هذا المعطى شيئاً يثلم دينك وينقص إيمانك ويذيقك حراما فابعد منه واجتنب أخذه.
(4)
في رواية: فخلعتهما.
أن يُسَوِّرَكُمَا الله بسوارين من نارٍ؟ قالتا: لا. قال فأديا زكاته" ورواه النسائي مرسلاً ومتصلاً، ورجح المرسل.
[المَسَكَةُ]: محركة، واحدة المسك، وهو أسورة من ذبل أو قرن أو عاج، فإذا كانت من غير ذلك أضيفت إليه.
[قال الخطابي] في قوله: "أيَسُرُّكِ أن يُسَوِّرَكِ الله بهما سوارين من نارٍ" إنما هو تأويل قوله عز وجل: "يَوْمَ يُحْمى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ". انتهى.
27 -
وعن عائشة زوج النبي رضي الله عنها قالت: "دخل عليَّ رسول الله فرأى في يدي فَتَخَاتٍ من وَرِقٍ، فقال: ما هذا يا عائشةُ؟ فقلتُ: صنعتهن أتزينُ لك يا رسول الله. قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلتُ: لا. أو ما شاء الله. قال: هي حَسْبُكِ من النار" رواه أبو داود والدارقطني، وفي إسنادهما: يحيى بن أيوب الغافقي، وقد احتج به الشيخان وغيرهما، ولا اعتبار بما ذكره الدارقطني من أن محمد بن عطاء مجهول، فإنه محمد بن عمر بن عطاء نسب إلى جده وهو ثقة ثبت. روى له أصحاب السنن، واحتج به الشيخان في صحيحهما.
[الفتخات]: بالخاء المعجمة جمع فتخة، وهي: حلقة لا فصَّ لها تجعلها المرأة في أصابع رجليها، وربما وضعتها في يدها، وقال بعضهم: هي خواتم كبار كان النساء يتختمن بها.
[قال الخطابي]: والغالب أن الفتخات لا تبلغ بانفرادها نصاباً، وإنما معناه أن تضم إلى بقية ما عندها من الحليِّ فتودي زكاتها فيه.
28 -
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "دخلتُ أنا وخالتي على النبي وعلينا أسورةٌ من ذهبٍ، فقال لنا: أتعطيان زكاتهُ؟ قالتْ فقلنا: لا، فقال: أما تخافان أن يُسَوِّرَكُمَا الله أسورةً من نارٍ، أدَّيَا زكاتهُ" رواه أحمد بإسناد حسن.
29 -
وعن محمد بن زيادٍ رضي الله عنه قال: سمعت أبا أمامة وهو يسأل عن حِلْيَةِ السيوف أمِنَ الكنوزِ هيَ؟ قال: نعم من الكنوز، فقال رجلٌ: هذا شيخٌ
أحمق قد ذهب عقلهُ، فقال أبو أمامة: أما إني ما أحدثكم إلا ما سمعتُ" رواه الطبراني، وفي إسناده بقية بن الوليد.
الترهيب من منع أداء الزكاة
30 -
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: "جاءت هند بنت هُبيرةَ رضي الله عنها إلى رسول الله وفي يدها فَتَخٌ من ذهبٍ: أي خواتيم ضِخَامٌ، فجعل رسول الله يضربُ يدها، فدخلت على فاطمة رضي الله عنها تشكو إليها الذي صنع بها رسول الله فانتزعت فاطمة سلسلةً في عنقها من ذهب قالت: هذه أهداها أبو حسنٍ، فدخل رسول الله فقال: يا فاطمة أيُغُرُّكِ أن يقول الناسُ ابنةُ رسول الله، وفي يدكِ سلسلةٌ من نارٍ، ثم خرج ولم يقعد فأرسلت فاطمةُ رضي الله عنها بالسلسلة إلى السوقِ فباعتها واشترت بثمنها غلاماً، وقال مَرَّةً عَبداً، وذكر كلمةً معناها فأعتقته فَحُدِّثَ بذلك النبي فقال: الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار" رواه النسائي بإسناد صحيح.
31 -
وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله قال: "أيما امرأةٍ تَقَلَّدَتْ قلادةً من ذهبٍ قُلِّدَتْ في عنقها مثلها من النار يوم القيامة، وأيما امرأةٍ جعلت في أذنها خُرْصاً من ذهبٍ جُعِلَ في أذُنها مثلهُ من النار يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد.
32 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "من أحبَّ أن يُحَلِّقَ جَبينهُ حلقةً من نارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حلقةً من ذهبٍ، ومن أحبَّ أن يُطَوِّقَ جَبِينَهُ بسوارٍ من نارٍ فليسوره بسوارٍ من ذهبٍ ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[قال المملي] رحمه الله: وهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء بالذهب تحتمل وجوهاً من التأويل.
أحدها: أن ذلك منسوخ فإنه قد ثبت إباحة تحلي النساء بالذهب.
الثاني: أن هذا في حق من لا يؤدي زكاته دون من أداها، ويدل على هذا حديث عمرو بن شعيب، وعائشة، وأسماء، وقد اختلف العلماء في ذلك، فروي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: أنه أوجب في الحلي الزكاة، وهو مذهب عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعبد الله بن شداد، وميمون بن مهران، وابن سيرين، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، واختاره ابن المنذر. وممن أسقط الزكاة فيه عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله، وأسماء ابنة أبي بكر، وعائشة والشعبي، والقاسم بن محمد، ومالك، وأحمد، وإسحق، وأبو عبيدة. قال المنذر: وقد كان الشافعي قال بهذا إذا هو بالعراق، ثم وقف عنه بمصر، وقال: هذا مما أستخير الله تعالى فيه.
[وقال الخطابي]: الظاهر من الآيات، يشهد لقول من أوجبها، والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب إلى النظر، ومعه طرَف من الأثر، والاحتياط أداؤها، والله أعلم.
الثالث: أنه في حق من تزينت به وأظهرته، ويدل لهذا ما رواه النسائي وأبو داود عن رِبْعِيّ بن خراش عن امرأته عن أخت لحذيفة أن رسول الله قال: "يا معشر النساء ما لَكُنَّ في الفضة ما تَحَلَّينَ به، أما إنه ليس منكن امرأةٌ تتحلى ذهباً وتُظْهِرُهُ (1) إلا عُذِّبَتْ به، وأخت حذيفة اسمها فاطمة. وفي بعض طرقه عند النسائي عن ربعي عن امرأة عن أخت لحذيفة رضي الله عنها، وكان له أخوات قد أدركن النبي، وقال النسائي: باب الكراهة للنساء في إظهار حلي الذهب، ثم صدّره بحديث عقبة بن عامر أن رسول الله كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوهما في الدنيا، وهذا الحديث رواه الحاكم أيضاً، وقال صحيح على شرطهما، ثم رأى النسائي في الباب حديث ثوبان المذكور، وحديث أسماء.
33 -
ورويَ أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنتُ قاعداً عند النبي فأتتهُ امرأةٌ فقالت: يا رسول الله سِوَارينِ من ذهبٍ؟ قال: سوارينِ من نارٍ. قالت يا رسول الله: طَوْقٌ من ذهبٍ؟ قال: طوقٌ من نارٍ. قالت: قُرْطَيْنِ من ذهبٍ؟ قال: قُرطينِ من نارٍ قال: وكان عليها سوارٌ من ذهبٍ فَرَمَتْ به".
(1) عبارة الفقه: ولا يجب في الحلي المباح زكاة. أما المحرم: كأساور الرجل وخلخاله، وحلي الخنثى فتجب الزكاة فيه.