الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة
1 -
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت رسول الله ? يقول: انطلق ثلاثة نفر (1)
ممن كان قبلكم حتى أَوَاهُمُ (2) المبيتُ إلى غار (3) قدخلوا فانحدرت (4) صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة، إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لى أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أَغْبُقُ قبلهما أهلا ولا مالا (5)، فنأى (6) بى طلبُ شجر يوماً فلم أرُحْ (7) عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فوجدتُهما نائمين، فكرهت أن أَغْبُقَ قبلهما أهلاً أو مالا، فلبثت والقدحُ على يدى، أنتظر استيقاظهما حتى بَرِق (8) الفجر. زاد بعض الرواه (والصبية يتضاغون عند قدمى) فاستيقظا فشربا غَبُوقَهُما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذ الصخرة فانفرجت (9) شيئا لا يستطيعون الخروج منها، قال النبى ? قال الآخر: اللهم كانت لى ابنة عم كانت أحب الناس إلىَّ فأردتُها (10) عن نفسها فامتنعت منى حتى أَلمَّتْ (11) بها سنة من السنين فجاءتنى فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلى بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه (12) فتحرجت (13) من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلى، وتركت الذهب الذى
(1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ونصلى ونسلم على سيدنا محمد القدوة الحسنة. وعلى آله وأصحابه.
وبعد فهذا فتح جديد: فى شرح جواهر أحاديث (الترغيب والترهييب) ابتدئ فيه بعون الله وبه أستعين. فأفسر ألفاظها العذبة وأبين مغزاها بعبارة سهلة؛ مقتبسا من القرآن الكريم ما يشرح الصدر، ويقر العين:
- النفر: من ثلاثة إلى عشرة، وكذا النفير والنفر، ويقال يوم النفر وليلة النفر لليوم الذى ينفر فيه الناس من منى، وهو بعد يوم القبر: أي الثبوت والإقامة.
(2)
ألجأهم.
(3)
بيت منقور في الجبل.
(4)
مالت: أي هبطت وسقطت.
(5)
في نسخة: ومالا.
(6)
بعد.
(7)
أذهب إليهما، أو أرح بضم الهمزة وكسر الراء، وهو مأخوذ من أرحت الإبل أي رددتها إلى مأواها بالليل، وليس مأخوذا من راح إذا ذهب.
(8)
تلألأ وأضاء.
(9)
اتسعت.
(10)
طلبتها: أي راودتها كما في نسخة.
(11)
نزلت بها سنة: أي عام قحط.
(12)
هو النكاح الحلال بعقد شرعى.
(13)
فامتنعت من الوقوع في الحرج أي الإثم.
أعطيتها: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرةُ غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
قال النبى?: وقال الثالث: اللهم إنى استأجرت أجراءَ وأعطيتهم غير رجلٍ واحدٍ ترك الذى له وذهب، فَثَمَّرْتُ (1) أجره حتى كثُرت منه الأموالُ فجاءنى بعد حين، فقال لى: يا عبد الله أد إلى أجرى؟ فقلت: كلُّ ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ (2) بى؟ فقلت إنى لا أستهزئُ بك، فأخذه كُلهُ فساقه فلم يترك منه شيئا: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
الترغيب في الاخلاص والصدق والنية الصالحة
(وفي رواية) أن رسول الله ? قال: بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينُجيكم إلا الصدق فليدع (3) كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم كان لى أجير عمل لى على فرق (4) من أُزْرٍ فذهب وتركهُ، وإنى عمدت (5) على ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره إلى أن اشتريت منه بقرا، وإنه أتاني يطلب أجرهُ، فقلت له اعمد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة (فذكر الحديث قريباً من الأول) رواه البخاري ومسلم والنسائي، ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبى هريرة رضى الله عنه باختصار، ويأتى لفظه في برّ الوالدين إن شاء الله تعالى.
(قوله): وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً. الغبوق بفتح الغين المعجمة: هو الذي يشرب بالعشى؛ ومعناه كنت لا أقدِّم عليهما في شرب اللبن أهلاً ولا غيرهم، يتضاغون: بالضاد والغين المعجمتين، أي يصيحون من الجوع. السنة: العام المقحط الذي لم تنبت الأرض
(1) نميت.
(2)
في نسخة: لا تستهتر.
(3)
فليتضرع إلى الله كل واحد ويلجأ إليه في طلب كشف الضر ويتوسل إليه بأرجى عمل عمله في الرخاء.
(4)
نحو ثلاثة آصع في الحجاز (مكيال يسع ستة عشر رطلا).
(5)
عمد للشيء: قصد له، وعمد الشيء أقامه بعماد يعتمد عليه فانعمه وبابهما ضرب.
فيه شيئاً سواء نزل غيث أم لم ينزل. تفضّ الخاتم: هو بتشديد الضاد المعجمة، وهو كناية عن الوطء. الفَرَق: بفتح الفاء والراء: مكيال معروف. فانساحت: هو بالسين والحاء المهملتين أي تنحت الصخرة وزالت عن فم الغار (1).
فضل الاخلاص عند مفارقة الدنيا
2 -
وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من فارق (2) الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض. رواه ابن ماجه والحاكم، وقال صحيح على شرط الشيخين.
3 -
وعن أبي فراس (رجل من أسلم) قال: نادى رجل فقال يا رسول الله ما الإيمان؟ قال الإخلاص، وفى لفظ آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سَلُونِى عمَّا شئتم، فنادى رجل يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، قال فما الإيمان؟ قال الإخلاص (3)، قال فما اليقين؟ قال التصديق (4). رواه البيهقي وهو مرسل
(1) المعنى: ان النبى صلى الله عليه وسلم يضرب مثلا لثلاثة عملوا صالحاً لله وأخلصوا إليه جل وعلا، في الطاعة ولما وقعوا في شدة توسلوا إلى الله بأرجى عمل عملوه رجاء أن الله يفرج كربهم؛ ويزيل ألمهم، ويبعد همهم قد رأوا الصخرة ثقيلة عليهم فلا يمكن رفعها، فتقرب الأول: بمحبة والديه وبرهما وإكرامهما وطاعتهما وإيثارهما على أهله وأبنائه ورعاية الأدب معهما، ولعل في هذا العمل الخالص ابتغاء وجهه الكريم سبب إجابة دعائه وتفريج غمه فكان. وتضرع الثاني: إلى ربه بامتناعه عن الفحشاء خوفاً منه جل وعلا وخشيته في السر والعلانية، بعد أن تمكن من حبيبته وإعطائها ما يملك من الدنانير، فأجاب الله دعاءه وأزال عسيره، ودعا الثالث: السرى ربه وطلب منه النجارة إذ حفظ أمانة الأجير لله ونماها حتى ملأ وادياً إبلا ويقرأ وغنما وراعيهما.
وهكذا يبارك الله في القليل الحلال فينمو ويكثر، ولما احتاج الأجير لأجرته سلمه ذلك المال الوفير لله ومحبة في ثواب الله ورجاء أن يفرج الله عنهم فكان ما رجوه وجاءهم الفرج تدريجا على ثلاث دفعات ليرى كل منهم أثر دعائه، وتوسله بصالح عمله.
يؤخذ ايضاً من هذا الحديث:
1 -
أن الإنسان يلزمه أن يعمل صالحا بإخلاص وصدق نية في حالة السعة والفرج ليكون ذلك سبباً لنجاته في يوم الضيق والشدة، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ (تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة) فما ظنك إذا انضم إلى ذلك توسل ودعاء باضطرار؟ لا شك أن ذلك يكون أقرب للإجابة وأسرع لتفريج الكرب وكشف البلاء، كما أخبر بذلك حيث قال:(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإ مع الله قليلا ما تذكرون) أية 62 سورة النمل.
2 -
وأن المال الحلا يقيض الله له من يحفظه ولو غير مالكة حتى إذا احتاج صاحبه يوما وجده كما وقع لذلك الأجير. وهذا الحديث ساقه النبى صلى الله عليه وسلم مثلا لأمته، ليحذوا حذو هؤلاء، ويسيروا على نهجهم في العمل الصالح بإخلاص وصدق نية، ليكون لهم ما كان لهؤلاء.
(2)
ترك، والمعنى: الذي عمل صالحاً لله وحده وأدى الصلاة في أوقاتها وأخرج الزكاة للمستحقين وتصدق على الفقراء رحمه الله وأغدق عليه الخير والنعيم في الجنة.
(3)
شيء في القلب يدعو إلى حسن النية وصفاء الطوية وإتقان العمل لله.
(4)
الاعتقاد الجازم بوجود الخالق جل وعلا فلا يخشى سواه.
4 -
وعن معاذ بن جبل أنه قال: حين بُعث إلى اليمن: يا رسول الله أوصنى، قال أخلص دينك يكفك العمل القليل. رواه الحاكم من طريق عبيد الله بن زجر عن ابن أبى عمران، وقال صحيح الإسناد كذا قال.
5 -
وَرُوِىَ عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طُوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلى عنهم كلُّ فتنة ظلماء. رواه البيهقى.
6 -
وعن أبي سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: نَضَّرَ (1) الله أُمْرَأً سمع مقالتى فوعاها (2) فرُب حامل فقه (3) ليس بفقيه ثلاث لا يغلُّ (4) عليهن قلب امرئ مؤمن: إخلاصُ العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين (5) ولُزُومُ جماعتهم (6) فإن دعاءهم محيط من ورائهم (7). رواه البزار بإسناد حسن، ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، ويأتى في سماع الحديث إن شاء الله تعالى.
قال الحافظ عبد العظيم، وقد روى هذا الحديث أيضا عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وأبى الدرداء، وأبى قرصافة (8) جندرة بن خيشنة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. وبعض أسانيدهم صحيح.
7 -
وعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أنه ظن أن له فضلا على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها (9) بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم. رواه النسائي وغيره، وهو في البخاري وغيره دون ذكر الإخلاص.
(1) زاده نضارة ونعيما، وبهجة وسروراً. أي جعل وجهه نضراً وحسناً.
(2)
حفظها وأداها على صحتها لينتفع المسلمون.
(3)
مسائل من مهام أمور الدين؛ إذ الفقه: علم أدلة الدين بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة، والغرض أن يحفظ ما يسمعه ويؤديه كما سمعه من غير تغيير.
(4)
غل يغل بضم الغين في المغنم غلولا: خان، وبضم الياء وكسر الغين من الاغلال وهو الخيانة، وغل صدره يغل: بفتح الياء وكسر الغين: إذا كان ذا ضغن، أو حقد: أي لا يدخله حقد أو خيانة تبعده عن الحق: أي هذه الخلال الثلاث يستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر كما في النهاية.
(5)
الأمراء، والعلماء، والولاة.
(6)
في مجالس العلم، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
(7)
قد يستجيب الله دعاءهم إذ صحبتهم قربانا إلى الله تعالى، ومحبتهم لله في الله، والله من ورائهم محيط.
(8)
في نسخة: قرفاصة.
(9)
المعنى: أن الله تعالى يتجلى بكرمه ورضوانه ونصره لمن أكرم الضعفاء ابتغاء وجهه، لان خلالهم محمودة مقبولة عنده، وينصر الأمة بسبب دعاء الضعفاء وصلاتهم وإخلاصهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم الحديث (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
8 -
وعن الضحاك بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا خير شريكٍ، فمن أشرك معى شريكاً فهو لشريكى، ياأيُها الناس أخلصوا أعمالكم، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص (1) له ولا تقولوا: هذه لله وللرَّحم (2) فإنها للرَّحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذه لله ولوجُوهِكُم (3) فإنها لوجوهكم، وليس لله منها شيء. رواه البزار بإسناد لا بأس به والبيهقى.
(قال الحافظ) لكن الضحاك بن قيس مختلف في صحبته.
9 -
وعن أبي أُمامه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجُلاً غَزَا (4) يلتمس الأجر والذكر، ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شئ له، فأعادها ثلاث مِرارٍ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شئ له (5)، ثم قال: إن الله عز وجل: لا يقبلُ من العمل إلَاّ ما كان خالصا، وابْتُغِىَ وجهه. رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، وسيأتى أحاديث من هذا النوع في الجهاد إن شاء الله تعالى.
10 -
وعن أبي الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: الدُّنيا ملعُونة (6) ملعون ما فيها إلا ما ابتغُىَ به وجه الله تعالى. رواه الطبراني بإسناد لا بأس به.
11 -
وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: يُجَاءُ بالدنيا يوم القيامة فَيُقال مِيزُوا ما كان (7) منها لله عز وجل فَيُمازُ، ويُرْمَى سَائِرُهُ في النار. رواه البيهقى عن شهر ابن حوشب عنه موقوفاً.
12 -
ورواه أَيضا عن شهر عن عمرو بن عَبْسَةَ (8) رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة جئ بالدنيا فَيُمَيَّزُ منها ماكان لله، وما كان لغير الله رُمِىَ به في نار جهنم. موقوف أيضاً.
(قال الحافظ) وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال من قِبَل الرأى والاجتهاد فسبيله سبيل المرفوع.
(1) في نسخة: أخلص.
(2)
تعطى لله ونيتك إكرام القرابة.
(3)
تعطى لله، وإكراما لأشخاص.
(4)
حارب الأعداء طالباً الثواب من الله عز وجل، والسيرة الطيبة، وحسن الأحدوثه.
(5)
حرمه الله من الأجر الجزيل لأنه أشرك في جهاده، ولم يطلب يعمله هذا حب الله، ونصر دينه، وإعلاء كلمته فقط، فرد الله عمله لأنه أغنى الشركاء.
(6)
بعيدة عن رحمة الله إذا اشتغل فيها العامل لغير الله.
(7)
في نسخة: ما فيها. ميزوا: افصلوا.
(8)
نسخة: عنبسة.
13 -
وَرُوِىَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ أخلص لله (1) أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. ذكره رُزَين العبدرى في كتابه، ولم أره فى شئ من الأصول التى جمعها، ولم أقف له على إسناد صحيح ولا حسن، إنما ذكر في كتاب الضعفاء كالكامل وغيره، لكن رواه الحسين بن الحسين المروزى في زوائده في كتاب الزهد لعبد الله ابن المبارك، فقال: حدثنا أبو معاوية أنبأنا حجاج عن مكحول عن النبى صلى الله عليه وسلم فذكره مرسَلاً؛ وكذا رواه أبو الشيخ ابن حبان وغيره عن مكحول مرسلاً، والله أعلم.
14 -
وروى عن أبي ذَرٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد أفلح (2) من أخلص قلبه للإيمان وجعل قلبه سليماً (3)، ولسانه صادقا (4)، ونفسه مطمئنة (5)، وخليقته مستقيمة (6)، وجعل أذنه مستمعه (7)، وعينه ناظرةً (8)، فأما الأُذُنُ فقمعٌ (9) والعين مقرَّةٌ (10) بما يُوعِى القلب، وقد أفلح من جعل قلبه واعياً. رواه أحمد والبيهقى، وفي إسناد أحمد احتمال للتحسين.
فصل
15 -
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنية (11) وفي رواية بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى
(1) أي عمل صالحاً، واتقى الله، وراعى أوامر القرآن ومناهيه، وأكل حلالا، وامتنع عن الشبهات،
(2)
فاز من نفى قلبه، وملأه تصديقاً بوجود الله، وآمن به وبملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً.
(3)
بعيدا عن الإلحاد والزيغ، مجتنباً الشبهات، قابل الله وهو عامل بكتاب وسنة نبيه.
(4)
يخبر بالواقع، ويقول الحق، ويشهد بالعدل.
(5)
يركن إلى الله عند حدوث المصائب فلا يجزع ولا يقول ما يغضب الرب، ولا يسخط، ولا ييأس.
(6)
يتحلى بمكارم الأخلاق.
(7)
للخير.
(8)
إلى آيات الله ليعتبر.
(9)
سامعة منصته. قمع كسمع: الاناء الذي يترك في رءوس الظروف لتملأ بالمائعات من الأشربة والأدهان، شبه آذان الذين يستمعون القول ويعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع التي تحفظ ما يفرغ فيها لتوصله إلى الإناء.
(10)
خاضعة معترفة بالذى يحفظه القلب المدبر المتعظ المفكر، أو مكان سرور للذى يستعملها في الخير.
(11)
بتفكير القلب: أي قصده فعل الشيء.
فمن كانت هجرته (1) إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها (2) فهجرته إلى ما هاجر إليه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
(قال الحافظ) وزعم بعض المتأخرين أن هذا الحديث بلغ مبلغ التواتر، وليس كذلك فإنه انفرد به يحيى بن سعيد الأنصارى عن محمد إبراهيم التيمى، ثم رواه عن الأنصارى خلق كثير نحو مائتى راوٍ، وقيل سبعمائه راوٍ، وقيل أكثر من ذلك، وقد روى من طرق كثير غير طريق الأنصارى، ولا يصح منها شيء: كذا قاله الحافظ على بن المدينى وغيره من الأئمة. وقال الخطابي: لا أعلم في ذلك خلافا بين أهل الحديث، والله أعلم.
16 -
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا (3) ببيداء من الأرض يُخسفُ بأوَّلِهِمْ وآخرهم. قالت قُلتُ يا رسول الله كيف يُخسَفُ بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم (4)، ومن ليس منهم (5)؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم (6) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
17 -
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يُبْعَثُ الناس على نياتهم (7)، رواه ابن ماجه باسناد حسن، ورواه أيضاً من حديث جابر إلا أنه قال: يحشر الناس.
18 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك (8) مع النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شِعْباً (9) ولا وادياً (10)
(1) عمله وانتقاله من مكة إلى المدينة حينما كانت مكة دار كفر.
والمعنى أن الأعمال لا يعول عليها عند الله تعالى، ولا يثاب عليها فاعلها إلا إذا صحبتها نية خالصه لله، ويتفرع على ذلك أن من هاجر من مكة إلى المدينة؛ وكان قصده بهجرته وجه الله ورسوله فهذه الهجرة مقبولة منه مثاب عليها، وأن من هاجر وكان قصده عرض الدنيا أو امرأة يتزوجها فليست هجرته مقبولة ولا مأجوراً عليها.
(2)
يتزوجها. والمعنى: العاقل يسعى جهده في درك الأعمال الصالحة لله، ويكد في دنياه وقلبه مملوء إيماناً بربه طالبا ثوابه ورضاه (ومن أوى إلى الله آواه).
(3)
المراد في آخر الزمان يسطو الأعداء على فتح مكة فيزلزل الله بهم الأرض فتخسف، ويجعل باطنها ظاهرها.
(4)
مجتمعات الناس للبيع والشراء.
(5)
أي فيهم قوم أخلصوا لله في عملهم ونياتهم.
(6)
يحاسبون على أعمالهم إن خيرا، وإن شرا.
(7)
الله سبحانه وتعالى يجمع الخلائق؛ ويحاسب كل إنسان على نيته وضميره وأفعاله.
(8)
كان صلى الله عليه وسلم يحارب في هذه البلدة (تبوك) وبعد ان انتصر انتصاراً باهراً. ورجع سالما أرشد عن رجال أخلصوا لله في نياتهم وقلوبهم ترعى المحاربين؛ وتشملهم بعطفهم ودعائهم، والله تعالى يثيبهم، ويعطيهم أجورهم مضاعفة.
(9)
طريقاً في الجبل.
(10)
طريقاً سهلة بعيدة عن عورة المسلك.
إلا وهم معنا، حبسهم العذر (1). رواه البخاري وأبو داود، ولفظه: إن النبى ? قال لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم (2) قالوا يا رسول الله: وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال حبسهم المرض.
19 -
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى أجسامكم (3) ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم. رواه مسلم.
ما نقص مال عبد من صدقة
20 -
وعن أبي كبشة الأنمارىَّ رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاثٌ أُقسم عليهن (4) وأحدِّثُكُمْ حديثا فاحفظه. قال: ما نقص (5) مال عبدٍ من صدقة، ولا ظلم (6) عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسأله (7) إلا فتح الله عليه باب فقر (أو كلمة نحوها) وأُحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقى (8) فيه ربه، ويصل (9) فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا (10)، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لى مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما يخبط (11) في ماله بغير علم، ولا يتقى فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث (12) المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لى مالا لعملت فيه بعمل فلان (13) فهو بنيته فوزرهما (14)
سواء (رواه أحمد والترمذي، واللفظ له، وقال حديث
(1) المرض.
(2)
قلوبهم متهجة لأجل نصر دين الله.
(3)
نضارة الجسم، وبهجة الصور لا تقدم الإنسان ولا تؤخره في دينه وسعادته، ولكن الذي يوصلك إلى الله جل وعلا حسن النية وخشية الله، والتفكير في خلق الله، وإضمار الخير للمسلمين وترك الشر، فالقلب بيت الرب، وهو الآمر الناهى لحركات الجسم، وهو العقل المدبر للافعال.
(4)
أوكد بصحتهن.
(5)
ما قل، والمعنى الزكاة: تنمي المال، والإنفاق لله يبارك ويجلب السعادة.
(6)
أوذى، وكظم عيظه، وفوض أمره إلى الله.
(7)
حاجة، وأظهر الذل والفقر، مع أنه في سعة ومغمور بالنعم.
(8)
يخشى الله ويخاف عذابه.
(9)
يزور أقاربه ويعطيهم من أمواله.
(10)
زكاة.
(11)
يجرى في ماله من غير هدي، وينفقه في الباطل، ولا يصرف في وجوه الحلال، ولا يخلد ذكراه بالصالحات، وأقاربه محرومون من خيره.
(12)
بأسوأ، لأن عمله سيء، وحالته رديئة، وأطلق عنان الهوى، واسترسل في الشهوات، واستعمل المال في وجوه الحرام.
(13)
يتمنى ذلك المعدم مالا لينفقه في شهواته وملذاته فيحاسبه الله على نياته الخبيثة؛ ويعاقب على ما نوى، إذ الذى أقعده عن الموبقات فقره وعدمه، فهذا مثل الخبيث.
(14)
عقابهما واحد؛ وذنبهما واحد ..
حسن صحيح ورواه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا وهو (1) يقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه بمثل الذي يعمل. قال رسول الله ? فهمافي الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علما ولا مالاً وهو يقول: لو كان لى مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء.
امتنان الله سبحانه وتعالى بمضاعفة الحسنات
21 -
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروى عن ربه عز وجل: إن الله كتب (2) الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائه ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة، زاد في رواية: أو محاها - ولا يهلكُ على الله إلا هالك. رواه البخاري ومسلم.
22 -
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة (3)، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها اكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائه. رواه البخاري واللفظ له، ومسلم.
23 -
وفي رواية لُمسلمٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائه ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها تكتب.
24 -
وفي أُخرى له: قال عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز
(1) في نسخة: فهو.
(2)
قدر أفعال العباد، وأحصى حسناتهم وذنوبهم، ولكن تفضل فحاسب على النية؛ فمن فكر فى عمل حسنة وامتنع اعطاه الله على العزيمة حسنة، وإذا نفذ الخير ضاعف الله له ثوابه بقدر إخلاصه لله: والله يضاعف لمن يشاء؛ وأما من أراد أن يعمل سيئة فأبى خوفا من الله تعالى أجزل له أجره، وضاعف ثوابه لامتناعه خوفاً من ربه عز وجل. ومن حلم الله أن ينتظر علي عبده، فإذا نفذ المحرم أمر الله الملائكة أن تقيدها سيئة واحد.
(3)
في نسخة: فان تركها فاكتبوا له بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
وجل: إذا تحدث عبدى بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، وإنما تركها من جَرَّايَ.
(قوله): من جراى بفتح الجيم وتشديد الراء: أي من أجلى.
يؤجر المتصدق على صدقته وإن كانت لغير مستحقها
25 -
وعن معن بن زيد رضي الله عنهما قال: كان أبى يزيد أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته (1) بها، فقال والله ما إياك أردت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لك ما نويت يايزيد، ولك ما أخذت يا معن. رواه البخاري.
26 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّقَ الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غنيّ فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على غنيٍّ فقال: اللهم لك الحمد على سارقٍ وزانيةٍ وغنيٍّ، فأُتِيَ فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغنى فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله. رواه البخاري واللفظ له، ومسلم والنسائي، وقالا فيه: فقيل له: أما صدقتك فقد تقُبِّلتْ، ثم ذكر الحديث.
27 -
وعن أبي الدرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى فراشه وهو ينوى أن يقوم يُصلى من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه: رواه النسائي وابن ماجه بإسناد جيد، ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبى ذَرٍّ أو أبى الدرداء على الشك.
(قال الحافظ عبد العظيم) رحمه الله وستأتى أحاديث من هذا النوع متفرقة في أبواب متعددة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (2).
(1) في نسخة: وأتيته.
(2)
معنى الباب: يسوق النبى صلى الله عليه وسلم الحكم للمسلمين ليقدموا على أعمالهم والإخلاص =