الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - باب القراءة في الصلاة
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
822 -
[1] عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 756، م: 394].
ــ
12 -
باب القراءة في الصلاة
اعلم أن القراءة فرض في الصلاة عند جمهور علماء الأمة، فعند الشافعي رحمه الله: في كُلِّها، وعند مالك رحمه الله: في ثلاث ركعات إقامة للأكثر مقام الكل تيسيرًا، وعندنا: في الركعتين، ومذهب أحمد كالشافعي -رحمهما اللَّه- في المشهور، وفي رواية كمذهبنا، وعند زفر والحسن البصري: في واحدة، وعن أبي بكر الأصم وسفيان بن عيينة: ليست إلا سنة؛ لأن مبنى الصلاة على الأفعال لا على الأقوال، ولذا تسقط بعدم القدرة على الأفعال مع القدرة على القراءة، وعلى العكس لا يسقط، كذا في شروح (الهداية)(1).
الفصل الأول
822 -
[1](عبادة بن الصامت) قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي رواية: (لمن لم يقرأ بأم القرآن)، الباء زائدة للتأكيد، وقال الطيبي (2): المعنى لم يبدأ القراءة بها، وهذا التوجيه لا يطرد فيما يأتي من الأحاديث: يقرأ بالطور وبالمرسلات، وتسميتها بفاتحة الكتاب ظاهر، وبأم القرآن وأم الكتاب لكونها مفتتحه ومبدأه، فكأنها أصله ومنشؤه، أو لأنها تشتمل على ما فيه من المقاصد، وقال الخليل:
(1) انظر: "شرح فتح القدير"(1/ 451).
(2)
"شرح الطيبي"(2/ 305).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كل شيء ضُمّ إليه سائر ما يليه يسمى أُمًّا، وقال ابن عرفة: سميت بأم القرآن وأم الكتاب؛ لأن السورة تضاف إليها، ولا تضاف هي إلى شيء من السور.
ثم إنه قد استدل الشافعي وأحمد فيما هو المشهور من مذهبه على تعيين الفاتحة وكونها ركنًا في الصلاة بهذا الحديث، وعندنا وعن أحمد في رواية: يجزئ قراءة آية من القرآن؛ لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:(اقرأ ما تيسّر معك من القرآن) كما مر.
والجواب عما تمسك به الشافعي رحمه الله أنه مشترك الدلالة؛ لأن النفي لا يرد إلا على النسب الذي هو متعلق الجار، لا على نفس المفرد، فيكون تقديره صحيحة فيوافق مذهبه، أو كاملة فيخالفه، وقد قدر الثاني في نحو (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، و (لا صلاة للعبد الآبق)، فيقدر ههنا أيضًا، وهو المتيقن، وقد يناقش أن متعلق الجار والمجرور الواقع خبرًا استقرار عام، فيكون التقدير: لا صلاة كائنة أو موجودة، وعدم الوجود شرعًا هو عدم الصحة.
وقد جاء في رواية: (لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح، كذا في (شرح كتاب الخرقي)(1)، هذا هو الأصل، بخلاف:(لا صلاة لجار المسجد) ونحوه، فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كونًا خاصًّا، أي: كاملة، فيكون من حذف الخبر، لا من وقوع الجار والمجرور خبرًا، ولأجل هذه المناقشة عدل صاحب (الهداية)(2) إلى أن الآية قطعية، فلا يجوز الزيادة بخبر
(1)"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 223).
(2)
"الهداية"(1/ 50).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَصَاعِدًا".
823 -
[2] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؛ فَهِيَ خِدَاجٌ -ثَلَاثًا- غَيْرُ تَمَامٍ". . . . .
ــ
الواحد؛ لكونه ظنيًّا، لكنه يوجب العمل، فقلنا بوجوبها دون فرضيتها، لئلا يلزم إبطالُ الظنِّي القطعيَّ.
وأما ما جاء في الحديث الثاني: (فهي خداج) أي: ناقصة، وأقيم المصدر مقام الصفة، أي: ذات خداج، فهو يصلح متمسكًا للفريقين، والظاهر مع الحنفية؛ لأنه وقعت هذه العبارة في ترك الدعاء بعد الصلاة كما مر، وقال في (شرح كتاب الخرقي) (1): الخداج: النقصان في الذات، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي، واللَّه أعلم.
وقوله: (فصاعدًا) في القاموس (2): بلغ كذا فصاعدًا: أي ما فوق ذلك، وقد يقال: إن هذا يدفع الوجوب؛ لأن الزائد ليس بواجب، ويجاب بأنه لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة، كما في قوله:(تقطع اليدين في نصف دينار فصاعدًا)، يعني يتعين قراءة الفاتحة، ولو زاد عليها شيئًا فذاك، فافهم.
823 -
[2](أبو هريرة) قوله: (من صلى صلاة) يحتمل أن يكون مفعولًا به، أو أن يكون مفعولًا مطلقًا، ولعل الأول هو الأولى؛ ليكون مرجع الضمير مذكورًا لفظًا، فافهم.
وقوله: (فهي خداج) قد مرَّ معناه في آخر (الفصل الثاني) من (باب صفة الصلاة).
(1)"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 223).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 279).
فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ، قَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: . . . . .
ــ
وقوله: (فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام) أي: فهل نقرأ؟
وقوله: (قال: اقرأ بها في نفسك) أي سرًّا بحيث تسمع نفسك (1)، ولا يجوز عند الشافعي الجهر بالقراءة للمأموم وإن كانت الصلاة جهرية.
وقوله: (قسمت) بصيغة المتكلم.
وقوله: (نصفين) التنصيف باعتبار الآيات، فإن الفاتحة سبع آيات، فثلاث منها ثناء على اللَّه تعالى، وثلاث مسألة للعبد، والآية المتوسطة نصفها دعاء باعتبار أن شطرها الأول وهو:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] أثره وغايته للَّه، وشطرها الثاني للعبد.
وعلم من هذا أن البسملة ليست من الفاتحة، كما هو مذهبنا، وكونها سبع آيات باعتبار عدِّ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، وغرض أبي هريرة الاستدلال على فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة، سواء كان المصلي إمامًا أو مأمومًا، كما يدل عليه الفاء التعليلية في قوله:(فإني سمعت)، ووجهه أن المراد بالصلاة الفاتحة إطلاقًا للكل
(1) قال القاري: بِهِ أَخْذَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِ مَعَ احْتِمَالِ التَّقْيِيدِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ كَمَا قَالَ بِهِ الإِمَامُ مَالِكٌ، وَالإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَوْ فِي السَّكَتَاتِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الإِمَامِ كَمَا قِيلَ لِلْمَسْبُوقِ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ، أَوْ مَعْنَاهُ فِي قَلْبِكَ بِاسْتِحْضَارِ أَلْفَاظِهَا، أَوْ مَعْنَاهُ أَوْ مَعَانِيهَا دُونَ مَبَانِيهَا، "مرقاة المفاتيح"(2/ 683).
مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 395].
824 -
[3] وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِـ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 399].
ــ
على الجزء، بل على أعظم الأجزاء، كذا قالوا، وفيه خفاء ظاهر، إذ يكفي في ذلك اشتمال الصلاة على الفاتحة وإن لم يكن فرضًا، والعلاقة لا تنحصر في الجزئية، بل يكفي فيها الجوار كما بين في موضعه، واللَّه أعلم.
ويمكن أن يستدل بأنه لما كان شأن الفاتحة هذا، فلا بد من قراءته في الصلاة حتمًا، أو يقال: إنه لما دل الحديث على أنها هي الصلاة وكلها مبالغة، كما في (الحج عرفة)، فلا أقل من أن يكون جزءًا لها، فليفهم.
وقوله: (مجدني عبدي) المجد: هو الشرف والكرم، وقيل: الشرف الواسع، وقيل: إذا قارن شرف الذات حسن الفعال فهو مجيد، وفي (القاموس) (1): مجَّده: عظَّمه، وأثْنَى عليه، وحملوه على الثناء على صفات الجلال، ويتضمنه معنى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ؛ لتفرده بالملك والعظمة والجلال فيه.
824 -
[3](أنس) قوله: (كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد للَّه رب العالمين) قد ذكرنا أن ظاهره أنهم كانوا لا يقرؤون البسملة، وهو ليس بمراد، فإن قراءتها في الصلاة مجمع عليه، لم يخالف فيها أحد، سواء كانت جزءًا من الفاتحة كما هو عند
(1)"القاموس المحيط"(ص: 301).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الشافعي، أو لم تكن كما هو عندنا، لكن في أول الصلاة فقط عند أبي حنيفة رحمه الله، فهي مفتاح الصلاة كالتعوذ، وفي رواية عنه -وهو مذهب صاحبيه-: في أول كل ركعة؛ لأن التسمية مفتاح القراءة، وكل ركعة مستقل فيها، وللاحتياط لاختلاف العلماء في كونها جزءًا من الفاتحة لا بين الفاتحة والسورة، إلا عند محمد في الصلاة السرية، وهو مذهب أحمد مطلقًا، فأول الشافعي الحديث بأن المراد كانوا يفتتحون بهذه السورة، كما يقال: قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، أي: السورة التي أولها {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} كما سبق، وللحديث تأويل آخر، وهو أنه لم يرد نفي قراءة البسملة بل نفي الجهر بها، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين- أنهم كانوا لا يجهرون بالتسمية وإن كانت الصلاة جهرية، كما هو المذهب عندنا.
قال الشيخ ابن الهمام (1): قال بعض الحفاظ: ليس حديث صريح في الجهر إلا وفي إسناده مقال عند أهل الحديث، ولذا أعرض أرباب المسانيد المشهورة الأربعة وأحمد رحمهم الله، ولم يخرجوا منها شيئًا مع اشتمال كتبهم على أحاديث ضعيفة، وعن الدارقطني أنه قال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر حديث، وعنه: أنه صنف بمصر كتابًا في الجهر بالبسملة، فأقسم بعض المالكية ليعرفه الصحيح منها، فقال: لم يصح في الجهر حديث.
وقال الحازمي: أحاديث الجهر وإن كانت مأثورة عن نفر من الصحابة، غير أن أكثرها لم يَسْلَمْ من شوائب، وقد روى الطحاوي وأبو عمر بن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنهما الجهر، وعن ابن عباس:(أنه لم يجهر النبي صلى الله عليه وسلم بالبسملة حتى مات)،
(1)"شرح فتح القدير"(1/ 291).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فقد تعارض ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، فإن صح فهو محمول على وقوعه أحيانًا، يعني ليعلمهم أنها تقرأ فيها.
وفي رواية مسلم (1): عن أنس رضي الله عنه: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ ببسم اللَّه الرحمن الرحيم)، ولم يرد نفي القراءة بل السماع للإخفاء، بدليل ما صُرِّح به عنه:(فكانوا لا يجهرون ببسم اللَّه الرحمن الرحيم)، رواه أحمد (2) بإسناد على شرط الصحيح، وعنه:(صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكلهم يخفون بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، رواه ابن ماجه، وروى الطبراني:(أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يُسِرّ ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي، ومن تقدم من التابعين)، وهو مذهب الثوري وابن المبارك.
وقال ابن عبد البر وابن المنذر: وهو قول ابن مسعود وابن الزبير، وعمار بن ياسر وعبد اللَّه بن المغفل، والحكم والحسن، والشعبي والنخعي والأوزاعي، وعبد اللَّه ابن المبارك وقتادة، وعمر بن عبد العزيز والأعمش، والزهري ومجاهد، وحماد وابن أبي عبيد، وأحمد وإسحاق رحمهم الله، وروى أبو حنيفة عن زيد بن عبد اللَّه بن مغفل عن أبيه (أنه صلى خلف إمام فجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، فناداه يا عبد اللَّه! إني صليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بها).
وقد روي في (صحيح ابن خزيمة) وابن حبان والنسائي عن نعيم المجمر: (صليت
(1)"صحيح مسلم"(ح: 399).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 275).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وراء أبي هريرة رضي الله عنه، فقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ثم قال إذا سلّم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاةً برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)، قال ابن خزيمة: لا ارتياب في صحته عند أهل المعرفة، وهذا غير مستلزم للجهر؛ لجواز سماع نعيم مع إخفاء أبي هريرة، فإنه مما يتحقق إذا لم يبالغ في الإخفاء مع قرب المقتدي، والصريح ما عن ابن عباس رضي الله عنهما:(كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم)، وفي رواية:(جهر)، قال الحاكم: صحيح بلا علة، وصححه الدارقطني، وهذان أمثل حديث في الجهر، انتهى كلام ابن الهمام.
وقد عقد الترمذي له بابين (1)، أحدهما:(باب في ترك الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم) فروى عن ابن عبد اللَّه بن مغفل قال: سمعت أبي وأنا أقول: بسم اللَّه الرحمن الرحيم قال: أي بني إياك والحدث، قال: ولم أر أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أبغض إليه الحدث في الإسلام، يعني منه، وقال: قد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان ولم أسمع أحدًا يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال أبو عيسى: حديث عبد اللَّه بن مغفل حديث حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، لا يرون أن يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، قالوا: ويقولها في نفسه.
وثانيهما: (باب من رأى الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم)، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم اللَّه الرحمن الرحيم)، قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب
(1)"سنن الترمذي"(2/ 11، ح: 244)، و (2/ 12، ح: 245).
825 -
[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا،
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو هريرة وابن عمر، [وابن عباس] وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين، رأوا الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وبه يقول الشافعي وإسماعيل بن حماد -هو ابن أبي سليمان- وأبو خالد الوالبي -اسمه هرمز-، وهو كوفي، انتهى كلام الترمذي.
ومن المتأخرين من المحدثين من اختار أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر حينًا ويسرّ أخرى، والجمهور على أن الجهر كان للإسماع ليعلموا أنه قرأها، واللَّه أعلم.
ولقد أطنبنا الكلام فيه لزعم الناس أن الجهر هو الصحيح، ويزعم طائفة أن عليًّا رضي الله عنه كان يجهر، والأمر بخلافه، فظهر أن مذهب أبي حنيفة هو الراجح الأصح.
825 -
[4](أبو هريرة) قوله: (إذا أمّن الإمام فأمّنوا) من التأمين، قال القاضي عياض (1): قيل: معناه إذا قال: آمين، وقيل: معناه إذا دعا بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} آخر السورة، ويسمى كل من الداعي والمؤمِّن داعيًا ومؤمِّنًا، قال اللَّه تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وكان أحدهما داعيًا والآخر مؤمِّنًا، وقيل: معناه إذا بلغ موضع التأمين، ولا يذهب عليك أن الظاهر هو المعنى الأول، وعليه العمل، ولا نزاع في صحة تسمية كل من المؤمِّن والداعي داعيًا ومؤمِّنًا، مع أن ما ثبت بالآية المذكورة تسمية المؤمِّن داعيًا لا عكسه.
والظاهر أن مآل المعنيين واحد، غايته أنه يفهم من ظاهر المعنى الأول تقدُّمُ الإمام في التأمين، ولا يبعد ذلك كما هو حال المأموم مع الإمام في سائر الأفعال،
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 65).
فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 78، م: 410].
ــ
ويمكن أن يكون المسنون هنا المبادرة إلى التأمين، والمقارنة والمعية مع الإمام فيه، كما نقل الطيبي (1) عن الخطابي من قوله: أي قولوا: آمين مع الإمام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معًا، ولا يدل على أنهم يؤخرون عن وقت تأمينه، كما يقول القائل: إذا رحل الأميرُ فارحلوا، يريد إذا أخذ الإمام في الرحل فتهيؤوا في الارتحال، فتكون رحلتكم مع رحلته، فافهم.
وقوله: (فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة) تعليل للمقدر في الكلام، وهو فإن الملائكة تؤمّن، وقد صرح به في الرواية الأخرى، فيكون معنى قوله:(فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة) أي: وافق قوله: آمين قول الملائكة إياه، وقيل: وافق في الصفة من الخشية والإخلاص، وقيل: هو أن يكون دعاؤه لعامة المؤمنين كالملائكة، وقيل: معناه من استجيب له كما يستجاب للملائكة، نقل المعاني الأربعة القاضي عياض (2)، والأظهر هو الأول؛ لقوله في الرواية الأخرى:(فإن الملائكة تؤمن).
هذا، وقد يختلج أنه كان الظاهر أن يقال:(استجيب له) مكان (غفر له)، وكأنه جعل اللَّه سبحانه مغفرة الذنوب من خصائص هذه الموافقة ولوازمها مع حصول الاستجابة أيضًا، ولعل الملائكة يستغفرون لهم في هذا الوقت، كما للجالس في مصلاه منتظرًا للصلاة، وذلك من شأن الملائكة دائمًا بقوله تعالى:{يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، خصوصًا عند مباشرة أمر الخير، فافهم.
(1)"شرح الطيبي"(2/ 310).
(2)
"مشارق الأنوار"(1/ 65).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ.
ــ
وقوله: (إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}) وهو وقت تأمينه، وقد يستأنس من هذا بالمعنى الذي نقل عياض بقوله: إذا أمن، فافهم.
ثم المشهور أن (آمين) اسم فعل بمعنى استجب، مبني على الفتح، بالمد والقصر مع تخفيف الميم، قال القاضي عياض (1):(آمين) تمد الهمزة وتقصر بتخفيف الميم، وحكى اللغويون تشديدها، وأنكره الأكثر، وأنكر ثعلب القصر أيضًا في غير ضرورة الشعر، وصححه يعقوب، والنون مفتوحة أبدًا مثل (ليت) و (لعل)، ويقال في فعله: أمَّن الرجل مشدد الميم تأمينًا.
وقال الشيخ (2): بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعند جميع القراء. وقال في (القاموس) (3): آمين بالمد والقصر، وقد يشدد الممدود (4) ويمال أيضًا، وعن الواحدي في (البسيط): اسم من أسماء اللَّه، ومعناه: اللهم استجب، أو كذلك فليكن، أو كذلك فافعل، انتهى.
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 64).
(2)
"فتح الباري"(2/ 262).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 1084).
(4)
قال القاري (2/ 686): وَأَمَّا آمِّينَ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ فَهُوَ خَطَأٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَاخْتُلِفَ فِي فَسَادِ صَلَاةِ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَالأَصَحُّ عَدَمُ فَسَادِهَا لِمَجِيئِهِ فِي الْقُرآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، أَيْ: قَاصِدِينَ، كذا ذكره الشيخ ابن الهمام (1/ 296).
وَفِي أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". [خ: 6402].
826 -
[5] وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لِيؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا: آمِينَ،
ــ
وقال عياض (1): اختلف في معناه، فقيل: المعنى كذلك يكون، وقيل: هو اسم من أسماء اللَّه، وقيل: هو (أمين) بقصر الهمزة، فدخلت عليها ألف النداء، كأنه قال: يا اللَّه استجب دعاءنا.
وفي (مجمع البحار)(2): أنه اسم اللَّه تعالى بمعنى المؤمن، ومعناه: يا آمين استجب، وردّه النووي؛ إذ لم يثبت بالقرآن والسنة المتواترة، وأسماؤه تعالى لا يثبت بدونهما.
وفي بعض الشروح: أنه رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة بسند ضعيف، وجاء في بعض الأحاديث:(آمين درجة في الجنة)، ومعناه أنها كلمة يكتب بها لقائلها درجة فيها، ويجيء الكلام في الجهر والإسرار بـ (آمين) في (الفصل الثاني).
826 -
[5](أبو موسى الأشعري) قوله: (فأقيموا صفوفكم) أي: سوّوها، بأن لا يكون فيها اعوجاج ولا فرج، وأتموها.
وقوله: (ثم ليؤمكم أحدكم) إشارة إلى جواز الإمامة لكل من المسلمين، وحيث
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 64 - 65).
(2)
"مجمع بحار الأنوار"(1/ 119).
يُجِبْكُمُ اللَّهُ، فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"فَتِلْكَ بِتِلْكَ"، قَالَ:"وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، يَسْمَعِ اللَّهُ لَكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 404].
ــ
ورد: (أكبركم) فلبيان الأفضل.
قوله: (فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم) كما هو شأن الإمام من التقدم والسبق، وهذا إشارة إلى علة التعقيب المفهوم من الفاء؛ لأن بذلك يستوي زمن ركوع الإمام والمأموم، كما قال:(فتلك بتلك) أي: اللحظة التي سبقكم الإمام بها مقابلة ومنجبرة باللحظة التي تأخرتم عنه، فيتساوى ركوعه وركوعكم في المقدار.
وقوله: (وإذا قال) أي: الإمام: (سمع اللَّه لمن حمده؛ فقولوا: ربنا لك الحمد) بلا واو، قد روي بواو، وكلاهما صحيح، وبالواو أرجح، ويروى:(اللهم ربنا لك الحمد) بلا واو، والجمع بين (اللهم) و (الواو) لم يصح (1)، كذا في (سفر السعادة)(2)، وروى السيوطي في (جمع الجوامع) الجمع بين (الواو) و (اللهم) عن عبد الرزاق، وقال السيوطي في (شرح صحيح البخاري): إن في رواية الكشميهني بالواو مع (اللهم)(3).
(1) أي: لم يثبت.
(2)
"سفر السعادة"(ص: 35).
(3)
ثبتت رواية الجمع عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (ح: 795)، قال العلامة اللكنوي في "النافع الكبير شرح الجامع الصغير" (ص: 88): واختلفوا في لفظ التحميد، فمنهم من ذكر:(ربنا لك الحمد)، ومنهم من قال:(ربنا ولك الحمد)، ومنهم من قال:(اللهم ربنا لك الحمد)، ومنهم من قال:(اللهم ربنا ولك الحمد)، وبكل ذلك وردت الأخبار النبوية، وأولاها الأخير، كما بسطناها في "السعاية"(2/ 187).
827 -
[6] وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةَ: "وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا".
ــ
والمراد بسماع اللَّه قبوله، يقال: سمع الأمير كلامَ فلان: أي قبله، فهو دعاء بقبول الحمد، كذا قال ابن الهمام (1)، ويحتمل أن يكون إخبارًا للترغيب والحمل على الحمد، وهو الظاهر من لفظ الحديث، وهو قوله:(يسمع اللَّه لكم).
ثم هذا الحديث متمسك الإمام أبي حنيفة في قوله بإتيان الإمام التسميع والمأموم التحميد، وأن لا يجمع الإمام بين التسميع والتحميد؛ لأن هذا قسمة، والقسمة تنافي الشركة، ولهذا لا يأتي المقتدي التسميع عندنا، وعند الشافعي رحمه الله كما ذكره الطيبي (2) -: يجمع بينهما الإمام والمأموم والمنفرد؛ لحديث أبي هريرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع اللَّه لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي ساجدًا) الحديث، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي)، وهذا الحديث يدل على الجمع بين الذكرين، وأن التسميع ذكر حالة الانتقال، والتحميد حالة القيام.
وعلى وفقه ذكر في (جامع التمرتاشي) من أهل مذهبنا وقال: فإن لم يأت بالتسميع حالة الرفع لا يأتي حالة الاستواء، وقيل: يأتي بهما، ومذهب مالك أيضًا مثل مذهب أبي حنيفة -رحمهما اللَّه-، وكذا مذهب أحمد في المشهور عنه تمسكًا بالحديث المذكور، وقد رواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الإمام يجمع، وهو مختار الطحاوي، ورواية عن أبي حنيفة، ولكن يأتي بالتحميد في نفسه سرًّا، وأما المنفرد فيجمع، وقد يروى الاكتفاء بأحدهما، وكذا عند أحمد.
827 -
[6](أبو هريرة، وقتادة) قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا) هذا دليل على مذهب
(1)"شرح فتح القدير"(1/ 298).
(2)
"شرح الطيبي"(2/ 311).
828 -
[7] وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأ فِي الظُّهْرِ فِي الأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُوْلَى مَا لَا يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ،
ــ
أبي حنيفة رحمه الله في منع القراءة للمقتدي، وعدم وجوب قراءة الفاتحة عليه، سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية، وسيأتي تفصيل الكلام فيه في آخر (الفصل الثاني).
828 -
[7](أبو قتادة) قوله: (يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين) أي: في كل ركعة سورة، والعلم بها إما بإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم، أو بسماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، كما قال:(ويسمعنا الآية أحيانًا)، وذلك محمول على أنه لغلبة الاستغراق في التدبر يحصل الجهر من غير قصد، أو لبيان الجواز (1)، أو لتعليمهم أنه يقرأ، أو يقرأ سورة كذا ليتأسّوا به، كذا قالوا، والظاهر من الإسماع قصده.
وقوله: (ويطول في الركعة الأولى) وهذا هو مذهب الأئمة في الصلوات كلها، وقد روي من مذهب محمد من أصحابنا لهذا الحديث المصرح به في الظهر والعصر والفجر، وقياس غيرها عليها، وقد روى عبد الرزاق (2) عن معمر في آخر هذا الحديث:(فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى)، ولأبي داود (3) وابن خزيمة نحوه،
(1) قال القاري: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لأَنَّ الْجَهْرَ وَالإِخْفَاءَ وَاجِبَانِ عَلَى الإِمَامِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِبَيَانِ الْجَوَازِ أَنَّ سَمَاعَ الآيَةِ أَوِ الآيَتَيْنِ لَا يُخرِجُهُ عَنِ السِّرِّ، "مرقاة المفاتيح"(2/ 688).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2/ 104)(ح: 2675).
(3)
"سنن أبي داود"(800).
وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 776، م: 451].
829 -
[8] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ قِرَاءَةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةِ -وَفِي رِوَايَةٍ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً- وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ،
ــ
كذا في بعض الشروح.
وعندهما مخصوص بصلاة الفجر إعانة للناس على إدراك الجماعة؛ لأن الركعتين استوتا في استحقاق القراءة فتستويان في المقدار، ويستأنس به بالرواية في الحديث الآتي: في كل ركعة ثلاثين آية، بخلاف الفجر فإنه وقت نوم وغفلة، والحديث محمول على الإطالة من حيث الثناء والتعوذ والتسمية وبما دون ثلاث آيات، وقال في (الخلاصة): إن قول محمد أحب، كذا في (شرح ابن الهمام)(1).
وقوله: (وهكذا في العصر) أي: المذكور من القراءة في الأوليين فقط وتطويل الأولى على الثانية، وأما قوله:(وهكذا في الصبح) فيختص بالأخير، وهو ظاهر.
829 -
[8](أبو سعيد الخدري) قوله: (فحزرنا قيامه) أي: قدرنا، والحزر بالحاء المهملة وتقديم الزاي على الراء: التقدير والخرص، من باب نصر.
وقوله: (في الركعتين الأوليين قدر قراءة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة) إما أن يكون المراد القراءة في مجموعهما هذا القدر، أو في كل ركعة، ويوافقه قوله:(وفي رواية: وفي كل ركعة قدر ثلاثين آية)، فإن (ألم السجدة) تسع وعشرون آية.
وقوله: (وحزرنا قيامه) يدل على قراءة السورة في الأخريين من الظهر، بل ومن
(1)"شرح فتح القدير"(1/ 336).
وَحَزَرْنَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ فِي الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 452].
830 -
[9] وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} -وَفِي رِوَايَةٍ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} - وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ من ذَلِك. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 459].
ــ
العصر أيضًا، ولا ينافي ذلك ما حكم الأئمة الأربعة بجواز الاقتصار في الأخريين على الفاتحة، بل عندنا لو سبّح أو سكت جاز، والقراءة أفضل، وبه قال النخعي والثوري وسائر الكوفيين، وفي (المحيط): لو سكت عمدًا يكون مسيئًا؛ لمخالفته السنة، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن القراءة فيما بعد الأوليين واجبة، وروى ابن أبي شيبة (1) عن شريك عن أبي إسحاق السبعي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين، كذا ذكر الشُّمُنِّي. وقال أيضًا: ولو قرأ في الأخريين الفاتحة والسورة لا يسجد للسهو، هو الأصح؛ لأن قراءة الفاتحة وحدها في الأخريين سنة، وأصح الروايتين في مذهب أحمد أن لا يكره قراءة السورة في الأخريين؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زاد أحيانًا على قراءة الفاتحة في الأخريين، لكن المستحب تركها.
830 -
[9](جابر بن سمرة) قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر. . . إلخ): (كان) ههنا ليس بمعنى الاستمرار كما هو غالب استعماله، والتحقيق أن استعماله بدون الاستمرار كثير، يشهد به مواقع استعماله في الأحاديث، وهذا من تلك المواضع.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3742).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ثم اعلم أنه وقع في بعض الأحاديث أنه كان يقرأ في الصلاة الفلانية السورة الفلانية من غير بيان موضعها من الركعة الأولى أو الثانية أو الركعتين معًا، ولا يدرى ما المراد من ذلك، ويحتمل احتمالات.
أحدها: أن يقرأ في الركعتين بتقسيمها عليهما، فيلزم قراءة بعض السورة، وهذا وإن كان جائزًا لكنه كان وقوعه نادرًا منه صلى الله عليه وسلم، كذا في (سفر السعادة)(1).
ولذا حكم الفقهاء بأن قراءة السورة بتمامها وإن كانت قصيرة أولى وأفضل من قراءة بعضها وإن كان طويلًا.
وثانيها: أن يقرأها في الركعتين مكررة، وهذا أيضًا لا يخلو عن بعد.
وثالثها: أن يكون المقصود قراءتها في إحدى الركعتين سواء كانت أوليهما أو أخريهما، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهر حديث النسائي في (جامع الأصول) (2): عن قطبة ابن مالك قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فقرأ في إحدى الركعتين:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} وإن كان في حديث الترمذي في الركعة الأولى.
ورابعها: أن يكون المراد بيان قراءة الركعة الأولى، وفي (جامع الأصول) (3) في رواية عن مسلم عن جابر بن سمرة:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الصبح سورة {ق} في الركعة الأولى)، وفي حديث النسائي:(يقرأ في إحدى الركعتين)، انتهى.
وأظهر الاحتمالات هو الثالث، ويشبه أن يكون المراد هو الرابع، فإن في أكثر
(1)"سفر السعادة"(ص: 32).
(2)
"جامع الأصول"(5/ 335، ح: 3435)، وانظر:"سنن النسائي"(ح: 950).
(3)
"جامع الأصول"(ح: 3434).
831 -
[10] وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ (الطور). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 765، م: 463].
832 -
[11] وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بـ {الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 763، م: 462].
ــ
الأحاديث وقع بيان قراءة الركعة الأولى، وأيضًا ما ذكره الفقهاء من تعيين طوال المفصل وأوساطها وقصارها في الصلاة معتبر في الركعة الأولى، كذا سمعت من بعض ثقات فقهاء مكة من أئمة الحنفية، وهذا البيان لم يتعرض له أحد من شراح الحديث فيما نعلم، واللَّه أعلم.
831 -
832 - [10 - 11](جبير بن مطعم، وأم الفضل بن الحارث) قوله: (يقرأ في المغرب بالطور) وفي الحديث الآتي بـ {الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} وهذان الحديثان، وكذا ما وقع أنه قرأ فيها الأعراف والأنفال والدخان، وكذا ما ورد في الصلوات الأخر تدل على أنه لم تتعين القراءة كما عينه الفقهاء من طوال المفصل وقصارها وأوساطها، وسيأتي من حديث عمرو بن شعيب عن جده في آخر (الفصل الثالث) أنه قال:(ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة).
والأصل في تعيين الفقهاء إياها كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري -على ما روى عبد الرزاق في (مصنفه)(1) قال: أخبرنا سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن وغيره- أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء والعصر بِوَسَطِ المفصل، وفي الصبح بطوال المفصل، كذا ذكر الشيخ ابن الهمام (2).
(1) انظر: "مصنف بن أبي شيبة"(2/ 104، ح: 2672).
(2)
"شرح فتح القدير"(1/ 335).
833 -
[12] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ،
ــ
وقال: وأما في الظهر بطوال المفصل فلم أره، بل قال الترمذي في الباب الذي يلي باب القراءة في الصبح: وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ في الظهر بأوساط المفصل، غير أن في الرواية ما يفيد المطلوب، وهو ما قدمناه في (صحيح مسلم) من حديث الخدري:(كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية)، انتهى. وبالجملة كان أمر القراءة عنده صلى الله عليه وسلم في الطول والقصر مختلفًا باختلاف الأحوال والأوقات والحِكَم والمصالح وتعليم الجواز، ثم تقرر الأمر على كتاب عمر رضي الله عنه، ولا بد [أن] يكون له دليل وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله كان غالب أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكفى بما حكم به عمر دليلًا، واللَّه أعلم.
833 -
[12](جابر) قوله: (ثم يأتي فيؤم قومه) استدل به الشافعية على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، إذ الصلاة المعادة تقع نفلًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على معاذ إلا التطويل.
فإن قلت: قد اشتهر من الشافعية أنهم قائلون بتكرار الفرض، فكيف يكون نفلًا؛ قلت: معنى هذا القول منهم أنه يجب نية الفرض لتحاكي الأصلية، لا أنه فرض، وهذا أيضًا على قول، والقول الآخر: أنه ينوي عند الإعادة النفل، وروى الشافعي رحمه الله عن جابر: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم ينطلق إلى قومه، فيصليها بهم، هي له تطوع ولهم فريضة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن الاحتجاج [به] من باب ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم، وشرط ذلك علمُه، وجاز عدمُه، يدل عليه ما رواه الإمام أحمد (1) عن سليم (2) رجل من بني سلمة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادي بالصلاة، فنخرج إليه، فيطول علينا، فقال له صلى الله عليه وسلم:(يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك)، فشرع له أحد الأمرين: الصلاة معه ولا يصلي بقومه، أو الصلاة بقومه على وجه التخفيف ولا يصلي معه، هذا أفاد منعه من الإمامة إذا صلى معه صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع إمامته بالاتفاق، فعلم أنه منعه من الفرض، كذا ذكر الشيخ ابن الهمام (3).
وقيل: إن تلك الزيادة -أعني: (هي له تطوع ولهم فريضة) - من كلام الشافعي رحمه الله بناء على اجتهاده، ولذا لا يعرف إلا من جهته.
هذا، وقد وقع أيضًا في صلاة الخوف في ذات الرقاع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين، فكانت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتين، فيلزم منه أيضًا اقتداء المفترض بالمتنفل، وهذا إنما يتم للشافعي إلزامًا علينا في قولنا: إن فرض المسافر ركعتان، وإلا فعنده يقع الكل فرضًا، فلا يتم به حجة على مذهبه، ونحن نقول:
(1)"مسند أحمد"(5/ 74).
(2)
ويعلم من هذا أن اسم الرجل الذي صلى خلف معاذ سليم، وقيل: حزم بن أبي كعب الأنصاري، كما في رواية أبي داود الطيالسي، وقيل: حرام بن أبي كعب الأنصاري، وما في "المرقاة" و"الميسر":"حزام" فهو خطأ. انظر: "الإصابة"(1705)، و"عمدة القاري"(4/ 332)، و"فتح الباري"(2/ 194).
(3)
"شرح فتح القدير"(1/ 371 - 372).
فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ،
ــ
لعل ذلك من خصائص صلاة الخوف، وقد تكلمنا فيه في (شرح سفر السعادة)(1).
ثم قال الشيخ ابن الهمام (2): إنه أجاب الطحاوي عنه وعن حديث معاذ بأنه منسوخ، أو يحتمل أنه كان حين كانت الفريضة تصلى مرتين، ثم نُسِخَ (3)، وروى حديث ابن عمر رضي الله عنهما:(نهى أن تصلَّى فريضة في يوم مرتين) قال: والنهي: لا يكون إلا بعد الإباحة، ونوزع في ذلك بأنه نسخ بالاحتمال، والجواب أن مراده الحمل على النسخ ترجيحًا بضرب من الاجتهاد، وهذا صحيح بل واجب، إذ يجب الترجيح ما أمكن، ومرجعه الحمل على النسخ في كل متعارضين ثبتت صحتهما، فتدبر.
وقوله: (فسلم) أي: قطع الصلاة، لا أنه قصد قطعها بالسلام؛ لأنه ليس محله، لكنه سلم تشبيهًا بتمام الصلاة وقطعها عنده.
وقوله: (أنافقت) هذا تشديد وتغليظ، والمراد فعلت فعل المنافقين في الكسل عن الصلاة، كما ورد في القرآن المجيد في شأن المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} .
وقوله: (لا واللَّه) أي: ما نافقت وما انحرفت كسلًا عن الصلاة، بل لضرورة
(1)"شرح سفر السعادة"(ص: 230 - 243).
(2)
"شرح فتح القدير"(1/ 372).
(3)
ويحتمل أيضًا أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِيتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الصَّلَاةِ وَيَتَبَارَكَ بِهَا، وَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ تُهْمَةَ النِّفَاقِ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْفَرْضَ لِحِيَازَةِ الْفَضِيلَتَيْنِ، مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ أَفَضَلُ عَلَى الأَصَحِّ، وَالْحَمْلُ عَلَى هَذَا أَوْلَى، قاله القاري (2/ 690).
وَلآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأُخْبِرَنَّهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ، نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ أَفتَّانٌ أَنْتَ؟ اقْرَأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 700، 6106، م: 465].
834 -
[13] وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، وَمَا سَمِعتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوتًا مِنْهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 767، م: 464].
ــ
عجزي عن تحمل التطويل لأجل إنكاري على معاذ هذا التطويل، يدل عليه قوله:(ولآتين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه).
و(الناضح) البعير الذي يسقى عليه، والأنثى ناضحة.
وقوله: (أفتان أنت؟ ) أي منفِّر للناس عن ملازمة الجماعة، ومن معاني الفتنة اختلاف الآراء، ويستلزم ذلك الإفسادَ وصرفَ الناس عن الدين، قال البيضاوي (1) في قوله:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} : مفسدين الناس بالإغواء.
834 -
[13](البراء) قوله: (يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}) ووقع في رواية البخاري (2) عن عدي: سمعت البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ (التين والزيتون)، ويستأنس به أن يكون المراد حيث وقع مطلقًا هو إحدى الركعتين لا على التعيين، كما ذكرنا من ثالث الاحتمالات في حديث جابر
(1)"تفسير البيضاوي"(2/ 304).
(2)
"صحيح البخاري"(ح: 767).
835 -
[14] وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 458].
ــ
ابن سمرة.
835 -
[14](جابر بن سمرة) قوله: (وكانت صلاته بعد تخفيفًا) قال الطيبي (1): أي: بعد صلاة الفجر تخفيفًا في القراءة في بقية الصلوات، يعني كان يطول صلاة الصبح أكثر من بقية الخمس، وسببه ما ذكرنا في تطويل الركعة الأولى من قصد تكثير الجماعة، وإرادة إدراك الناس الركعة الأولى، مع كون الصبح وقت القيام من النوم، وعروض الكسل والفتور، واستعداد مقدمات الطهارة، قالوا: ولأن النزول الرباني وورود أنوار الفيض الرحماني يكون في الثلث الأخير من الليل، والدعاء والعبادة فيه إلى الإجابة والقبول أقرب، ويبقى إلى انقضاء صلاة الصبح، وقيل: إلى طلوع الفجر، قولان.
ووجه تطويل صلاة الفجر على القول الأول ظاهر، وعلى الثاني باعتبار قربه منه، ولأنه لما كان عدد ركعات صلاة الصبح أنقص جعل التطويل بدله، يعني مع وجود سعة الوقت وفضله، فلا يرد أنه ينبغي على هذا أن يكون المغرب أطول من الثلث الأخير، خصوصًا على ما اختاره أكثر الأئمة من أن الشفق هو الحمرة، ووجوه أخر ذكرت في (سفر السعادة)(2) و (شرحه)(3).
وفي شرح الشيخ: أنه يحتمل أن يكون المراد بعد ذلك الزمن، فيفيد أنه صلى الله عليه وسلم
(1)"شرح الطيبي"(2/ 314).
(2)
"سفر السعادة"(ص: 32).
(3)
"شرح سفر السعادة"(ص: 61).
836 -
[15] وَعَن عَمْرو بن حُرَيْث: أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفجْرِ {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 456].
837 -
[16] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ -أَوْ ذِكرُ عِيسَى- أَخَذَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 456].
ــ
كان يطول أول الهجرة لقلة أصحابه وانحصارهم، ثم لما كثر الناس، وشق عليهم التطويل؛ لكونهم أهل أعمال من تجارة وحرث وزرع خفف رفقًا بهم.
هذا، ويمكن أن يكون معنى قوله:(وكان صلاته بعد تخفيفًا) أن مع التطويل في القراءة كان صلاته صلى الله عليه وسلم عند المأمومين خفيفة لكثرة شوقهم إلى استماع القرآن منه، وورود الأنوار، وانشراح الصدر ببركته، ولسرعته، وطي لسان كان له صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، حتى كان يقرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب، فافهم.
836 -
[15](عمرو بن حريث) قوله: (عن عمرو بن حريث) بحاء مهملة مضمومة وفتح راء وسكون ياء وبمثلثة.
وقوله: ({وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}) المراد به سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} .
837 -
[16](عبد اللَّه بن السائب) قوله: (بمكة) وفي رواية النسائي: (في فتح مكة)، كذا في شرح الشيخ.
وقوله: (حتى جاء ذكر) بالنصب والرفع، والنصب أظهر.
وقوله: (سعلة) بفتح السين المهملة، فعلة من السعال، ويجوز الضم.
وفي (القاموس)(1): سعل كنصر، سعالًا وسعلة، بضمهما، وهي: حركة تدفع
(1)"القاموس المحيط"(ص: 933).
838 -
[17] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 891، م: 880].
ــ
بها الطبيعة أذى عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها.
قال الطيبي: وإنما أخذتْه بسبب البكاء، واللَّه أعلم.
838 -
[17](أبو هريرة) قوله: (يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} في الركعة الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} ) وهذا حديث متفق عليه عن أبي هريرة، ورواه النسائي وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس، والتزمه الشافعية، وواظبوا عليه، وعليه عملهم في الحرمين الشريفين وغيرهما على سبيل الدوام، وسبب تخصيص يوم الجمعة بهاتين السورتين أنهما مشتملان على ذكر المبدأ والمعاد ودخول الجنة والنار، وهذه المعاني تكون في يوم الجمعة، والقيامة تقوم فيه، كما كان يقرأ في المحافل والمجامع العظيمة سورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ} وأمثالهما، هكذا قال الشراح.
ولا يذهب عليك أن كثيرًا من السور القرآنية مشتملة على هذه المعاني، ولا يختص ذلك بهاتين السورتين، اللهم إلا أن يكون فيهما أكثر وأوفر، ويلوح من هذا الوجه أن قراءة هاتين السورتين لم تكن دائمة إلا في مقام التذكير والإنذار كسورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ} فيهما، على أنك عرفت أن كلمة (كان) في هذه الأحاديث ليست للاستمرار، فافهم، واللَّه أعلم.
ثم إنه قد ذكر في كتبنا أن لا يوقت بشيء من القرآن لدفع إيهام الفضل وهجر الباقي، ومثلوه بتعيين هاتين السورتين لفجر الجمعة، وتعيين سورة الجمعة والمنافقين لصلاة الجمعة.
839 -
[18] وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: . . . . .
ــ
ونقل الشيخ ابن الهمام (1) عن الطحاوي والإسبيجابي: أن هذا إن رآه حتمًا يكره غيره، أما لو قرأ للتيسير عليه، أو تبركًا بقراءته عليه الصلاة والسلام فلا كراهة، لكن بشرط أن يقرأ غيرهما أحيانًا؛ لئلا يظن الجاهل أن غيرهما لا يجوز.
وقال: ولا تحرير في هذه العبارة بعد العلم بأن الكلام في المداومة، والحق أن المداومة مطلقًا مكروهة، سواء رآه حتمًا يكره غيره أو لا؛ لأن دليل الكراهة لا يفصل، وهو إيهام التفضيل وهجر الباقي، [لكن الهجران إنما يلزم] لو لم يقرأ الباقي في صلاة أخرى، فالحق أنه إيهام التعيين، ثم مقتضى الدليل عدم المداومة لا المداومة على العدم كما يفعله حنفية العصر، بل يستحب أن يقرأ بذلك أحيانًا تبركًا بالمأثور؛ فإن لزوم الإيهام ينتفي بالترك أحيانًا، و [لذا] قالوا: السنة أن يقرأ في ركعتي الفجر بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وظاهر هذا إفادة المواظبة على ذلك، وذلك لأن الإيهام المذكور منتف بالنسبة إلى المصلي نفسه، انتهى.
قال العبد الضعيف -أصلح اللَّه شانه، وصانه عما شانه-: لا شك أن الإيهام المذكور منتف بالنسبة إلى المصلي نفسه، ولكن بالنسبة إلى الغير باق، ولكنه فيما كان مأثورًا وصح روايته عن الشارع غير معتبر، فالكلام في الصحة، وبعد الصحة لا مجال للتوقف، فالحق أن هذا العمل لم يثبت عند الحنفية دوامه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما أشرنا إليه، فلا بأس أن يقرأ أحيانًا بل كان أفضل، واللَّه أعلم.
839 -
[18](عبيد اللَّه بن أبي رافع) قوله: (عبيد اللَّه) بلفظ التصغير، (ابن أبي رافع) مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)"شرح فتح القدير"(1/ 337).
اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي السَّجْدَةِ الأُولَى، وَفِي الآخِرَة:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 877].
840 -
[19] وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَرَأَ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 878].
841 -
[20] وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: [كَانَ] يَقْرَأُ فِيهِمَا: بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 891].
ــ
وقوله: (في السجدة الأولى) أي: الركعة الأولى.
840 -
[19](النعمان بن بشير) قوله: (يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. . . إلخ) وبهذا تبين أنه لم تكن قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة دائمًا، وأن (كان) ليست للاستمرار قطعًا.
841 -
[20](عبيد اللَّه) قوله: (عبيد اللَّه) بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، ولعل سؤال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أبا واقد للتقرير والتمكين في ذهن الحاضرين من الوفود وغيرهم، وإلا فهو رضي الله عنه من الملازمين له صلى الله عليه وسلم[والعالمين بأحواله وأفعاله] ما لا يعلمه غيره من أمثال هذه الوقائع والأحكام، واللَّه أعلم.