الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
581 -
[1] عَنْ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ،
ــ
أداءً لشكر هذه النعم، ثم لمَّا كان من عادة البشر النوم والاستراحة في نصف النهار وجب صلاة العصر تلافيًا للتقصير والغفلة عن ذكر اللَّه في ذلك الوقت مع توارد النعم في كل آن، والعادة جارية بحضور الأسواق بعد العصر والبيع والشراء وحصول الغفلة فيها مع تمام نعم النهار فَرَض صلاة المغرب، ثم فرض صلاة العشاء إتمامًا للشكر وتحسينًا للخاتمة كالموت على الإيمان والطاعة، واللَّه أعلم.
الفصل الأول
581 -
[1](عبد اللَّه بن عمرو) قوله: (وقت الظهر) مشتقٌّ من الظهور لأنها ظاهرة وسط النهار، وتسمى الهجيرة لفعلها في وقت الهاجرة أو قريبًا منها، وإنما ابتدأ بالظهر؛ لأنه أول صلاة أديت بالجماعة، ولما جاء جبرئيل عليه السلام رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لتعليم أوقات الصلاة صلى معه صلاة الظهر أولًا، وبهذا الاعتبار يقال لها: الأولى.
وقوله: (إذا زالت الشمس) وزوال الشمس: ميلها عن كبد السماء إلى جهة المغرب، ويعرف ذلك بظل الشمس، فما دام يتناقص فالشمس لم تَزُلْ فإذا وقف نقصُه فهو استواء، فإذا زاد الظل أدنى زيادةٍ فهو الزوال، والظلُّ الذي يكون في هذا الوقت يسمى فيء الزوال.
وقوله: (وكان ظل الرجل كطوله) أي: صار ظل الشيء مثله سوى فيء الظل.
وقوله: (ما لم يحضر العصر) اعلم أنه لا خلاف في أن أول وقت الظهر هو وقت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الزوال، وأما آخر وقته فقد دل حديث إمامة جبرئيل عليه السلام أنه وقت بلوغ ظل الشيء مثله، حيث قال:(فلما كان الغد صلى بني الظهر حين كان ظله مثله).
والظاهر منه أنه ابتدأ فيه من هذا الحين وهو أول وقت العصر، وأن يكون ابتداؤه أيضًا منه حيث قال:(صلى بني العصر) يعني: في اليوم الأول (حين صار ظلُّ كل شيء مثله)، فيكون هذا الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر، ولهذا ذهب مالك رحمه الله: إذا صار [ظلُّ] كل شيء مثله كان بقدر أربع ركعات من ذلك الوقت مشتركًا بينهما، فأولَه الشافعي رحمه الله بأن المراد أنه أتم صلاة الظهر في هذا الحين، وابتدأ بصلاة العصر فيه فلا اشتراك، بل يكون منتهى الظهر مبتدأ العصر؛ لأن ظاهر لفظ الحديث أنه صلاهما في حين بلوغ الظل، ولا يمكن ذلك لأنه آنٌ لا يسع الصلاة فلا بد من تأويل، إما بأن يعتبر الابتداء لهما منه ونقول بالاشتراك، أو بأن نعتبره منتهًى للظهر ومبتدأً للعصر كما قلنا وهو أولى؛ لأن الاشتراك خلاف الوضع، ولأنه وقع في الحديث:(ما لم يحضر العصر) أي: يدخل وقتها، وهو صريح في عدم الاشتراك بين الوقتين، والتأويل الآخر أن يراد بقوله في اليوم الأول:(صلى بني العصر حين صار ظل كل شيء مثله) بعد ظل الزوال، وبقوله في اليوم الثاني:(صلى بني الظهر حين كان ظله مثله) مع ظل الزوال، فلا يكونان في وقت واحد، إذ يكون آخر وقت الظهر حينئذ أسبق من أول وقت العصر، ولا يخفى بعدُه، فتأمل.
ثم اعلم أنه يتعين أن المراد بقوله في اليوم الأول: (صلى بني العصر حين صار ظل كل شيء مثله) أنه ابتدأه منه، فإن كان المراد بقوله في اليوم الثاني:(صلى بي العصر حين كان ظله مثليه) أنه أتمه، وفيه يلزم أن يكون وقت العصر ما بين مثله ومثليه، ويكون ما بعد مثليه خارجًا عن وقت العصر، وإن كان المراد أنه ابتدأ منه كان ما بقي بعد إتمام
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصلاة من الزمان مهملًا، والظاهر أن المراد هو الثاني، ولكنه لم يذكر منتهى وقت العصر في حديث إمامة جبرئيل وهو وقت اصفرار الشمس للاختيار وغروبها للجواز، ويثبت ذلك بهذا الحديث المذكور في الفصل الأول.
هذا وقد ذهب أئمة مذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى الاحتمالين المذكورين، فكثير منهم ذهبوا إلى الاحتمال الأول متمسكًا بظاهر حديث جبرئيل عليه السلام، فقالوا: إذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقت الظهر، فإذا زاد شيء وجبت صلاة العصر، فإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت العصر، أي: وقت الاختيار؛ لأنه هو المراد كما في تحديد آخر وقت العشاء أيضًا إلى نصف الليل أو ثلثه؛ لأنه قد ثبت الجواز في العصر إلى الغروب بحديث أبي هريرة الآتي في الفصل الأول من باب تعجيل الصلاة: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس)، وفي العشاء إلى طلوع الفجر بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:(إنما التفريط [في اليقظة] أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى (1)) وإن خص منه في الفجر، وأيضًا أجمعوا على [أن] الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر يجب عليها قضاء العشاء، فدل على أن وقت العشاء إلى طلوع الفجر.
وبعضهم ذهبوا -وهي الرواية المشهورة في مذهبه- إلى أن آخر وقت الاختيار اصفرار الشمس متمسكين بحديث مسلم المذكور في هذا الفصل، وقالوا: هذا قول يتضمن زيادة فيقدم، وبحديث أحمد وأبي داود ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال (2):(أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سائل سأله عن مواقيت الصلاة. . .) الحديث
(1) أخرجه أبو داود (441).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 416)، و"سنن أبي داود"(395)، و"صحيح مسلم"(614)، و"سنن النسائي"(523).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إلى أن قال: (ثم آخر العصر) يعني: في اليوم الثاني (فانصرف منها، والقائل يقول: احمرت الشمس)، وحديث أبي موسى أيضًا متضمنٌ لزيادةٍ ومتأخرٌ، إذ حديث جبرئيل كان بمكة وهذا بالمدينة، كذا في (شرح كتاب الخرقي)(1) في مذهب أحمد.
ثم اعلم أن هذا -أعني كون آخر وقت الظهر حين بلوغ الظل مثله- مذهب الأئمة الثلاثة وأبي يوسف ومحمد وزفر، وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمة اللَّه عليهم أجمعين، وفي بعض حواشي (الهداية) وعليه الفتوى، وظاهر مذهب أبي حنيفة: أنه إلى بلوغ الظل مثليه، وقد قال بعض مشايخ الحنفية: إن الاحتياط أن لا يؤخر الظهر عن مثله، ولا يصلى العصر حتى يكون مثليه، حتى تكون الصلاتان في وقتيهما بالإجماع.
وجاء في رواية أسد بن عمرو أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير مثليه، فبين الصلاتين وقت مهمل ليس وقت أحد منهما كما بين الفجر والظهر، وذكر في (الهداية) (2) دليلًا لأبي حينفة رحمه الله قوله عليه السلام:(أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم)، وأشد الحر في ديارهم في هذا الوقت، يعني: إذا صار ظل كل شيء مثله، وإذا تعارضت الآثار لا ينقضي الوقت بالشك.
وَيرِدُ على ظاهره أن هذا يدل على أن لا يكون آخر وقت الظهر عند بلوغ الظل مثل الشيء، وأما كون آخره بلوغ الظل مثليه فلا، إلا أن يقال: إنه قد انحصر الوقت في هذين القسمين ولا قائل بالفصل، فلما لم يكن المثلَ كان المثلين.
وقال الشيخ ابن الهمام (3): الظاهر اعتبار كل حديث روي مخالفًا لحديث جبرئيل
(1) انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 184).
(2)
"الهداية"(1/ 40).
(3)
"فتح القدير"(1/ 220).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ناسخًا لِمَا خالفه فيه؛ لتحقق تقدم إمامة جبرئيل على كل حديث روي في الأوقات؛ لأنه أول ما علَّمه إياها. بقي أن يقال: هذا البحث إنما يفيد عدم خروج وقت الظهر ودخولَ وقت العصر بصيرورة الظل مثلًا [غير فيء الزوال]، ونفيُ خروج الظهر بصيرورته مثلًا لا يقتضي أن أول وقت العصر إذا صار مثلين حتى إن ما قبله وقتُ الظهر وهو المدَّعَى فلا بدّ له من دليل، وغاية ما ظهر أن يقال: ثبت بقاء وقت الظهر عند صيرورته مثلًا ناسخًا لإمامة جبرئيل عليه السلام فيه في العصر بحديث الإبراد، وإمامتُه في اليوم الثاني عند صيرورته مثلين يفيد أنه وقته، ولم يُنسخ هذا، فيستمر على ما علم ثبوته من بقاء وقت الظهر إلى أن يدخل هذا الوقت المعلوم كونه وقتًا للعصر.
واحتج على المذهب المشهور لأبي حنيفة رحمه الله بحديث (صحيح البخاري) ونحوه في (صحيح مسلم) أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال (1): سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراةَ فعملوا، حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيلَ فعملوا، إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أَيْ ربَّنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن كنا أكثر عملًا، قال اللَّه تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي [أوتيه من أشاء]).
وإنما يصح هذا إذا كان وقت العصر عند بلوغ ظل كل شيء مثليه ليكون أقصر
(1)"صحيح البخاري"(557)، ولم أجده في "صحيح مسلم"، وأخرجه الترمذي في "سننه"(2871).
وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ،
ــ
من الظهر إلى العصر، هذا وعلى تقدير كونه معتبرًا من بلوغ الظل إلى مثله يكون مساويًا لوقت الظهر، وقد تكلف شراح البخاري في الجواب عن ذلك فلينظر ثمة.
وقد يستدل بالدلائل العقلية وهي في الحقيقة لترجيح العمل بالحديث الذي دل على كون وقت العصر حين بلوغ ظل الشيء مثليه، وهي أن حاجة الظهر إلى توسيع الوقت أكثر؛ لأن قبلها أربع موقتة وبعدها ركعتان، وليس ما بعد صلاة العصر ولا قبلها سنة موقتة، ولهذا كان العشاء أمدَّ من وقت المغرب لأن العشاء أربع وبعدها الوتر.
وقال العبد الضعيف سامحه اللَّه: إن قول اللَّه سبحانه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] قد يشير إلى كون وقت العصر مثل وقت الفجر، وإنما يكونان مثلين على مذهبنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) اختلفوا في الشفق، فعند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله: هو الحمرة، وعند أبي حنيفة وأحمد والمزني رحمهم الله وطائفة من الفقهاء: هو البياض الذي يعقب الحمرة، ويروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه الحمرة، قال الشُّمُنِّي: وبه يفتى، وعليه جمهور الفقهاء وأهل اللغة، ومنهم الأصمعي والخليل بن أحمد، ويستدل على ذلك بحديث مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1):(وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق)، وهو بالمثلثة: حمرة الشفق النائرة فيه، كذا في (القاموس)(2)، ورواه أبو داود:(فور الشفق) بالفاء، وهو فورانه وسطوعه، وثوره: ثوران حمرته، وقد ورد صريحًا قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة)، رواه الدارقطني، كذا في (شرح كتاب
(1)"صحيح مسلم"(612).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 337).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الخرقي) (1)، وقال أيضًا: وهو قول أكثر الصحابة، وحكى بعضهم الإجماع عليه في قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16]، وذكر الشُّمُنِّي عن البيهقي أول قال: روي هذا عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة رضي الله عنهم، يعني: موقوفًا عليهم، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء.
وقد يستدل على ذلك بأن الغوارب ثلاث: الشمس والشفقان الحمرة والبياض، كالطوالع التي هي من آثار الشمس ثلاث: الفجران والشمس، ثم ما تعلق بالطوالع من خروج الوقت ودخوله تعلق بأوساط الطوالع وهو الفجر الصادق، فما تعلق وجوبه بالغوارب من دخول الوقت وخروجه، وجب أن يتعلق بأوساطه، وأوسطُ الغوارب الحمرةُ.
ومما يستدل على أنه البياض ما روي عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة -يعني العشاء- كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصليها بسقوط القمر لثالثة، رواه أحمد والنسائي والترمذي، وقد حكي إطلاقه على البياض عن المبرد وأحمد بن يحيى.
وقال في (النهاية): احتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه البياض بظاهر قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]، جاء في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الدلوك هو غروب الشمس، فاللَّه تعالى مد وقت المغرب إلى غسق الليل، والغسق عبارة عن اجتماع الظلمة، والظلمة لا تجتمع إلا بعد ذهاب البياض، انتهى.
ولا يذهب عليك أنه قد اختلف في تفسير دلوك الشمس؛ فقيل: هو الغروب
(1) انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 187)، و"سنن الدارقطني"(1/ 269).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو الزوال، واستدلال أبي حنيفة رحمه الله إنما هو بقول ابن عباس ويكفي به حجة، وليس الاستدلال بالآية حتى يقال: إنها محتمِلة، والمحتمِل لا يصح حجة، فافهم.
وفي رواية عن أحمد أن الشفق في السفر الحمرة، وفي الحضر البياض، جمعًا بين الأحاديث على اختلاف حالين نظرًا إلى أن في الحضر قد تنزل الحمرة فتواريها الجدر فيُظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن، فالشفق عنده هو الحمرة، ولكنه اعتبر غيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة، واللَّه أعلم.
وبالجملة اعتبار قول الأئمة أحوط في حق المغرب، وفي حق العشاء الأحوط قول أبي حنيفة رحمه الله ليقعا في الوقت بيقين، ثم هذا الحديث حجة على الشافعي رحمه الله في قوله الجديد بأن وقت المغرب قدر وضوء وستر [عورة] وأذان وإقامة وخمس ركعات، والاعتبار في جميع ذلك بالوسط المعتدل، وقال الرافعي من أئمة الشافعي: ويحتمل أيضًا أكل لقم يكسر بها شدة الجوع، فإذا مضى هذا القدر انقضى الوقت؛ لأن جبرئيل عليه السلام صلاها في اليومين في وقت واحد، ولو كان لها وقتان لبين كما في سائر الصلوات، وأما في قوله القديم فيمتد وقتها إلى غيبوبة الشفق.
قال النووي (1): الأحاديث الصحيحة مصرحة بالقديم وهو الصواب، وقال: ومن اختاره من أصحابنا ابن جرير والخطابي والبيهقي والغزالي في (الإحياء)(2) والبغوي في (التهذيب) وغيرهم، وعلى الجديد لو شرع في المغرب في وقتها المضبوط جاز له
(1) انظر: "شرح النووي"(5/ 111).
(2)
"إحياء العلوم"(1/ 379).
وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ،
ــ
مدها إلى غروب الشفق على الصحيح وإن لم يجز تأخير غيرها من الصلوات إلى خروج بعضها عن الوقت، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في المغرب، كذا في شرح (الحاوي)(1).
وقوله: (ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط) قيل: (الأوسط) صفة (الليل) أي: ليل متوسط لا طويل ولا قصير، فنصف الليل الأوسط يكون بالنسبة إلى ليل قصير أكثر من نصفه وبالنسبة إلى ليل طويل أقل من نصفه، وقيل: هو صفة للنصف، أي: نصف عدل من الليل من غير زيادة ونقصان عمومًا، أي من كل ليلة نصفها، وبه قطع الفقهاء قاطبة، والقول الأول يقتضي التأخير إلى ست ساعات في أقصر الليالي وهي ثلثا الليل، وإلى ست ساعات في أطول الليالي وهي ثلث الليل، والعكس أحرى وأليق، كذا في بعض الشروح، وفيه مسامحة، فتدبر.
ثم يجيء في الحديث الآتي التأخير إلى ثلث الليل وكلاهما وقت الاختيار، ووقت الجواز يمتد إلى طلوع الفجر كما عرفت، وعندنا الثلث وقت الاختيار والنصف وقت الجواز بلا كراهة، وإلى طلوع الفجر مع كراهة.
وقيل: النصف وقت الجواز بكراهة من غير إثم وبعده مع الإثم.
وقوله: (ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) ظاهره يدل على أن جميع وقتها وقت اختيار، وقيل: وقت الاختيار إلى الإسفار، ووقت الضرورة والجواز إلى طلوع الشمس.
(1) انظر: "الحاوي"(2/ 30).
فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنِ الصَّلَاة فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ. [م: 612].
582 -
[2] وَعَن بُرَيْدَة قَالَ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ لَهُ: "صَلِّ مَعَنَا هَذَيْنِ" يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ،
ــ
وقوله: (بين قرني الشيطان) قد ذكر في معنى قرني الشيطان وجوه أقربها وأصوبها الذي يوافق الأحاديث الأخر الواردة في هذا الباب: أن المراد بقرنيه ناحيتا رأسه فإنه ينتصب قائمًا في وجه الشمس ويدني رأسه إليها في وقت الطلوع والغروب، فيكون في مقابلة من يعبد الشمس فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له، ويخيِّل لنفسه ولأعوانه أنهم يسجدون له، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الصلاة في هذين الوقتين؛ لكون صلاة من عَبَدَ اللَّه في غير وقت عبادة من يعبد الشيطان، وقد جاء في الحديث أن الشيطان يقارن الشمس إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا غربت قارنها، ثم إنه قد روي:(بين قرني شيطان) بالتنكير أيضًا، فالتعريفُ محمول على أن الشيطان ينتصب نفسه، والتنكير على أنه يولِّي كل شيطان من أعوانه على حسب اختلاف المطالع في البلدان.
582 -
[2](عن بريدة) قوله: (أمر بلالًا فأذن) أي: أمره بالتأذين فأذن، ومثل هذه العبارة كثير في الأحاديث يكون المأمور به ما بعد الفاء، وقد نبهنا على ذلك في غير موضع.
وقوله: (والشمس مرتفعة بيضاء نقية) أي: لم تختلطها صفرة، وليس في هذا الحديث تعيين مثله ولا مثليه لأول وقت العصر وآخره، ولا شك أن بياض الشمس
ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَمَرَهُ "فَأَبْرِدْ بِالظُّهْرِ" فَأَبْرَدَ بِهَا، فَأَنْعَمَ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ أَخَّرَهَا فَوْقَ الَّذِي كَانَ، وَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ،
ــ
يكون بعد المثلين أيضًا، فافهم.
وقوله: (فلما أن كان) أن زائدة تجيء بعد (لما) كثيرًا، كقوله تعالى:{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} [العنكبوت: 33]، وقوله:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]، و (كان) تامة.
وقوله: (أمره فأبرد) على صيغة الأمر بيان للأمر، أي: أمره بالإبراد فقال: أبرِدْ بالظهر، ذكره تأكيدًا وتصريحًا واهتمامًا بذكره، وإلا كان يكفي: فأمره فأبرد بها، بصيغة الماضي كما هو المتعارف في مثل هذه العبارة.
وقوله: (فأنعم) أي: زاد وبالغ في الإبراد حتى انكسر وهج الحر بالكلية، يقال: أحسنت وأنعمت، أي: زدت في الإحسان وبالغت، ولا يخفى أن سياق الحديث يقتضي أن هذا الإبراد كان لأجل التأخير عن أول الوقت تعليمًا لآخر الوقت، والاتقاءُ عن شدة الحر لكونه من فيح جهنم كما سيأتي سببٌ آخر للإبراد، ولعله كان حين سؤال الرجل صيف، ويأتي شرحه في (باب تعجيل الصلاة)، فافهم.
وقوله: (فوق الذي كان) أي: فوق الوقت الذي وجد في اليوم الأول، أي: زاد في التأخير، وهذا أيضًا ساكت عن وقوعها حين صيرورة ظل الشيء مثله، والشافعية يحملونه عليه بقرينة الروايات الأخر.
وقوله: (قبل أن يغيب الشفق) يشير إلى تأخير صلاة المغرب أيضًا في اليوم الثاني، أي: لم يصلِّ متصلًا بغيبة الشمس كما في اليوم الأول، فلم يدل هذا الحديث على أن
وَصَلَّى الْفَجْرَ فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ:"أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ "، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "وَقْتُ صَلَاتكُمْ بَينَ مَا رَأَيْتُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 613].
ــ
للمغرب وقتًا واحدًا كما قال الشافعي رحمه الله في الجديد، نعم يعلم من حديث إمامة جبرئيل أنه صلاها في اليومين في وقت واحد.
وقوله: (فأسفر بها) في (القاموس)(1): سَفَر الصبحُ يَسْفِر: أضاء وأشرق كأسفر.
وفي (الصراح)(2): سفر إسفار روشن شدن صبح، فمعنى أسفر بها: دخل في السَّفَر، كما أن معنى أبرد بالظهر دخل في البرد، أي: صلى سفرًا.
والظاهر من سياق الحديث أنه ابتدأ في وقت الإسفار فلا يصح تأويله بأنه طوَّلها إلى الإسفار، وسيجيء تمام الكلام فيه في حديث:(أسفروا بالفجر) في آخر الفصل الثاني من (باب تعجيل الصلاة).
وقوله: (فقال الرجل: أنا) أي: أنا ههنا، أو يقدر في الأول: أين السائل، ومَن هو؟ ليطابق الجوابُ السؤال.
وقوله: (وقت صلاتكم بين ما رأيتم) المراد: أن أوله ما صلَّيتُ فيه في اليوم الأول، وآخره ما صليت فيه في اليوم الثاني، فليس الأول والآخِر خارجين عن الوقت، فلا يتوجه أن ظاهر قوله:(وقت صلاتكم بين ما رأيتم) يدل على أن الأول والآخِر ليس وقتًا، على أنه قد وجد البيان في حقهما بالفعل، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في أول الوقت وآخره، على أن الأحاديث الأُخر ناطقة بكونهما داخلين في الوقت.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 380).
(2)
"الصراح"(ص: 184).