الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
689 -
[1] ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ:"هَذِه الْقبْلَةُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 398].
690 -
[2] وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. [م: 1330].
ــ
الفصل الأول
689 -
690 - [1 - 2](ابن عباس، وأسامة بن زيد) قوله: (لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت) زعم جماعة من العلماء أن ذلك كان في حجة الوداع حتى قالوا: إن الدخول في البيت من سنن الحج، والجمهور على أنه كان في فتح مكة، قالوا: وهو الصواب، والأحاديث والآثار دالة عليه، والبخاري أورد حديث الدخول في (كتاب الصلاة) ساكتًا عن كونه في الحج أو الفتح، وأورده في (كتاب الحج) من غير أن يكون فيه ما يدل على كونه فيه، سوى أنه أورده في بابه، وأورده في غزوة الفتح عن ابن عباس وابن عمر، وفيه تصريح بأنه كان يوم الفتح، وأورده مسلم أيضًا في (كتاب الحج) عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن أسامة رضي الله عنهم، ولكن بعض الأحاديث الموردة فيه ناطقة بكونه في الفتح، وبعضها مطلقة.
وقوله: (دعا في نواحيه) أي: زواياه.
وقوله: (في قبل الكعبة) أي: مقابلتها وما استقبل منها، وهو وجهها الذي فيه الباب، والقبل نقيض الدبر بضمتين، وضمة وسكون، والأول أفصح.
وقوله: (هذه القبلة) معناه: أن أمر القبلة قد استقر على التوجه إلى هذا البيت استقرارًا لا يزيله النسخ، وليس معناه أن القبلة إنما هي هذه الجهة مقابلة البيت لا الجهات
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأخر، وهو ظاهر، ولا أنه يجب أن يتوجه إلى البيت من خارج، حتى لا تجوز الصلاة داخل البيت، إما الفرض كما ذهب إليه مالك وأحمد في رواية، وإما مطلقًا كما حكي عن محمد بن جرير.
ثم قد اختلفت الرواية في صلاته صلى الله عليه وسلم داخل البيت، فروى أسامة وابن عباس عنه أنه لم يصل، وروى بلال وابن عمر عنه أنه قد صلى، ورجح رواية بلال؛ لأنه مثبت، وخبر أسامة ناف، وخبر المثبت مقدم؛ لأنه معه زيادة علم، كما تقرر في أصول الفقه، ويشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، وقام كلٌّ في ناحية، واشتغل بالدعاء في ناحية، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه صلى الله عليه وسلم، فرأى بلال صلاته لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم خفيفة، والباب مغلق.
قال في (المواهب اللدنية)(1): وأقرب ما قيل في الجمع أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى في الكعبة لما غاب [عنه] أسامة من الكعبة لأمرٍ ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبتها بلال لرؤيته لها، ونفاها أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد قال:(دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم[في الكعبة] فرأى صورًا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به فجعل صلى الله عليه وسلم يمحوها)، ورجاله ثقات، انتهى. هذا وقد نقل صاحب (المواهب) عن أحمد والطبراني من حديث ابن عمر: أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى في الكعبة، والجمع بينه وبين خبر ابن عباس عن أسامة رضي الله عنهم بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على خبر غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه؛ لكونه لم يره حين صلّى، ويكون ابن عمر رضي الله عنهما ابتدأ بلالًا بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في
(1)"المواهب اللدنية"(1/ 591 - 592).
691 -
[3] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زيدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الحَجَبِيُّ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، وَمَكَثَ فِيهَا، فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ: مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُوديْنِ عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 505، م: 1329].
692 -
[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا. . . . .
ــ
مكان الصلاة، فسأل أسامة رضي الله عنه أيضًا.
691 -
[3](عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما) قوله: (الحجبي) بفتح الحاء والجيم وبموحدة، منسوب إلى الحجبة جمع حاجب كطلبة جمع طالب، أي: حجبة بيت اللَّه، وهم أهل مفتاح الكعبة، وفي أخذه صلى الله عليه وسلم المفتاح منه ثم إعطائه إياه لنزول قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، قصة مشهورة، والآن يقال لهم: الشيبيون نسبة إلى شيبة أخي عثمان، وعثمان لم يكن له خلف، فأعطى المفتاح لأخيه شيبة عند وفاته.
وقوله: (فأغلق) الضمير إما للنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أمر به، أو لبلال رضي الله عنه، والظاهر بحسب المعنى أن يكون لعثمان بن طلحة، وإن كان بعيدًا من جهة اللفظ، وفي رواية:(فأغلقاها) بضمير التثنية.
وقوله: (كان البيت يومئذ على ستة أعمدة) وهو الآن على ثلاثة أعمدة، وسبب ذلك مذكور في (تاريخ مكة) للفاكهي.
692 -
[4](أبو هريرة رضي الله عنه) قوله: (صلاة في مسجدي هذا) أخذ النووي من
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1190، م: 1394].
ــ
هذه العبارة أن المضاعفة فيه خاصة بما كان مسجدًا في حياته صلى الله عليه وسلم لا بما زيد بعد حياته، يعني أن الإشارة بـ (هذا) تفيد ذلك، والمختار عند الجمهور أن الحكم بالمضاعفة يشتمل ما زيد عليه، فقد ورد (لو مدّ هذا المسجد إلى صنعاء اليمن كان مسجدي)، وقال عمر رضي الله عنه:(لو مدّ مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان فيه)، وأيضًا قيام عمر وعثمان رضي الله عنهما في الصلاة في الزيادة يدل على ذلك، وإلا لم يتصور ترك إدراك الفضيلة.
وقال ابن تيمية: لم يظهر من أحد من السلف والخلف خلاف في ذلك، نعم مقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعظم وأفضل من سائر المقامات، انتهى. ولعل مقصوده المبالغة في الرد على من يخالف في ذلك، وقد نقل المحب الطبري رجوع النووي من تلك المقالة، كذا في تاريخ السمهودي، ولا يخفى ضعف ما تمسك به النووي، فإن الظاهر أن إتيان اسم الإشارة للتميز والتعظيم، ويحتمل أن يكون احترازًا عن مسجد قباء.
ثم لا يخفى أن الحكم في غير الصلاة من العبادات كذلك في المضاعفة، وقد روى ذلك البيهقي عن جابر، كذا ذكر في (فتح الباري)(1).
وقوله: (خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) الاستثناء يحتمل احتمالات متعددة، والذي يظهر من الأحاديث الواردة في الباب أن الصلاة في المسجد الحرام تفضل الصلاة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد ورد أن الصلاة في مسجد الحرام بمئة ألف صلاة، وحمله المالكية على أن الصلاة بمسجد المدينة أفضل منها بمسجد مكة بأقل من ألف؛ لأن مذهبهم أن المدينة أفضل من مكة، وللقائلين بأفضلية المدينة
(1)"فتح الباري"(3/ 64).
693 -
[5] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: . . . . .
ــ
أن يقولوا: الأفضلية لا تنحصر في مضاعفة الثواب، هب أن الصلاة بالمسجد الحرام مضاعفة، ولكن أنواع الكرامات والبركات من محبة اللَّه ورسوله ومنافع الإسلام وأهله مخصوصة بالمدينة، وأيضًا المضاعفة هي كثرة الكمية، ويحتمل أن الكيفية من البركة والعظمة تكون أعظم وأرجح في المدينة، وكثرة الكمية لا تستلزم الأفضلية كاللؤلؤ الواحد أفضل وأشرف وأحسن ذاتًا من ألف فلس، وإن كثرت كمية، ولعل البركة والقبول في عمل واحد الذي يحصل من مجاورة القبر الشريف يكون أعلى وأتم من أعمال كثيرة في غيره من الأماكن، وتمام هذا البحث استوفيناه في كتاب (جذب القلوب إلى ديار المحبوب)(1) تاريخ المدينة المطهرة، فليطلب ثمة، ثم الفرض والنفل سواء في المضاعفة عند أكثر العلماء، وقد خصّ بعض الحنفية وأكثر المالكية هذا الحكم بالفرض لحديث:(أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، ويمكن أن تكون النافلة في بيوت مكة والمدينة أفضل منها في بلاد أخر.
693 -
[5](أبو سعيد الخدري) قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) شد الرحال كناية عن السفر، أي: لا يقصد موضع بنية التقرب إلى اللَّه إلا أحد هذه الثلاثة تعظيمًا لشأنها، فإن ما سواها متساوٍ في الفضل، ففي أيِّ مسجد يصلي كتب له مثل ما في غيره، بخلاف المساجد الثلاثة؛ لما بين اللَّه لنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في مقادير تضعيف الثواب للمصلي في كل واحد منها، ثم المراد أنه لا يرحل من حيث قصد ذوات الأمكنة، وأما إن كان إليها حاجة من تعلم العلم أو التجارة أو نحو ذلك، فذلك
(1) باللغة الفارسية، طبع أول مرة في سنة 1846 م، الموافق 1263 هـ في كولكاتا.
مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1197، م: 827].
ــ
شيء آخر، وظاهره النهي عن المسافرة إلى موضع سوى هذه المواضع.
وقيل: المراد أنه لا يجب قصد ما سوى المساجد الثلاثة بالنذر، ولا ينعقد النذر، ولا يلزم الوفاء به، واختلف في شدها إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة، فمحرم ومبيح، كذا في (مجمع البحار)(1).
وقيل: المراد أنه لا تشد الرحال ولا يسافر إلى مسجد من المساجد إلا إلى المساجد الثلاثة؛ لأن المستثنى منه في المستثنى المفرغ يجب أن يكون من جنس المستثنى، فإذا استثنى المساجد الثلاثة ينبغي أن يكون المستثنى منه أيضًا مساجد، وهذا كما ترى توجيه حسن، ولكن المعنى المتبادر إلى الفهم عند الإنصاف هو النهي عن السفر إلى مكان إلا المساجد الثلاثة، والأمكنة من جنس المساجد، غير أنه جنس بعيد، ولا يجب في المستثنى المفرغ أن يكون جنسًا قريبًا للمستثنى، ويمكن أن يقال: لعل المراد بيان الاهتمام بشأن الارتحال إلى هذه البقاع الثلاث المتبركة، وامتيازها في الفضل، والمبالغة في بيان فضلها ومرتبتها على ما عداها، يعني لو شاء أحد أن يرتكب السفر ينبغي أن يسافر إليها ويهتم بشأنها لكونها أفضل البقاع، واللَّه أعلم.
وقوله: (مسجد الحرام) من قبيل صلاة الوسطى بالإضافة.
وقوله: (والمسجد الأقصى) لعل تقديمه على مسجد المدينة -وهو مسجد سيد الرسل صلى الله عليه وسلم لتقدمه وجودًا، ويسمى بالأقصى إما لأنه لم يكن في ذلك الزمان مسجد بني بعده، فهو أقصى المساجد، أي: نهايتها، أو لبعده من المسجد الحرام في المسافة،
(1)"مجمع بحار الأنوار"(3/ 191).
694 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ،
ــ
أو لبعده من الأقذار والخبث وتنزهه عنها، وقيل: لأنه أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة وأبعد من المسجد الحرام، هذا الوجه لا يجري في تسميته به في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]؛ لأنه لم يبن حينئذ مسجد المدينة.
694 -
[6](أبو هريرة) قوله: (ما بين بيتي ومنبري) وفي رواية: (قبري ومنبري)، وفي رواية عند الطبراني:(ما بين حجرتي ومصلاي) والمؤدى واحد؛ لأن قبره صلى الله عليه وسلم في بيته، وبيته حجرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، وهي حجرته ومصلاه، أي: موضع صلاته عند منبره، وليس المراد بالمصلى مصلى العيد الذي هو خارج المدينة في جانب طريق مكة بقرينة باقي الروايات، وقد حمله بعضهم عليه، وقد نقل أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بنى بيتًا بينه وبين المسجد بعد سماع هذا الحديث.
وقوله: (روضة من رياض الجنة) والروضة في الأصل: البستان في غاية النضارة، وفي (الكشاف): كل أرض ذات نبات وماء، اختلفوا في تأويل كونه روضة من رياض الجنة، فقيل: إن العبادة فيه تؤدي إلى روضة الجنة، أو جعل الروضة كما جعل حلق الذكر رياض الجنة؛ فإنه لا يزال مجمعًا للملائكة والجن والإنس، يذكرون اللَّه، أو كروضة الجنة في حصول الرحمة والسعادة، وهذا القول لا يخلو عن بُعد؛ لأنه خلاف ظاهر اللفظ، وقد يشترك فيه سائر المساجد وبقاع الخير، وقال أهل التحقيق: إن الكلام محمول على الحقيقة، إما بأن ينقل هذا المكان يوم القيامة إلى الفردوس الأعلى، ولا يفنى ولا يستهلك مثل سائر بقاع الأرض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ونقل ابن فرحون وابن الجوزي هذا القول من مالك رحمه الله واتفاق جماعة من العلماء على ذلك، ورجح الشيخ ابن حجر العسقلاني وكثير من علماء الحديث هذا القول.
وقال ابن أبي جمرة من كبار علماء المالكية رحمهم الله: يحتمل أن يكون عين هذه البقعة روضة من رياض الجنة، أنزلت منها إلى المسجد، كما ورد في الحجر الأسود ومقام إبراهيم، وبعد قيام الساعة ينقل إلى مقامه الأصلي، ونزول الرحمة واستحقاق الجنة من لوازم ذلك، فكما أن الرتبة الخليلية الإبراهيمية اقتضت الاختصاص بحجر من الجنة اقتضت الدرجة الحبيبية المحمدية بروضة منها، وشتان ما بينهما، ولو رئي في العين الظاهر مثل سائر الأراضي الدنيوية لم يبعد؛ لأن الإنسان ما دام محجوبًا بالحجب الكثيفة الطبيعية والأحكام العادية البشرية لم ينكشف عليه حقائق الأشياء، ولم يدرك الأمور الأخروية، وقد ورد:(أحد جبل من جبال الجنة)(1)، ولم يقل أحدٌ: إن العبادة في جوار أُحد توصل إلى النعيم، فإن قال قائل: لو كان من الجنة لثبت خواصها ولوازمها فيه من عدم الجوع والظمأ ونحوهما؟ فالجواب أن تلك الخصائص واللوازم انفكت بعد خروجه منها، كما في الحجر الأسود.
وإن قيل: أمثال هذه الأمور لا يثبت إلا بسماع وإخبار من الشارع، وقد وردت الدلائل والشواهد في الركن والمقام؟ قلت: كفى دليلًا وشاهدًا على ذلك ورود هذا الحديث الصحيح المتفق عليه، ولو قاموا في مقام التأويل فكلا الخبرين يصلح للتأويل، ولو حملوا على الحقيقة فهي ثابتة فيهما، فما الفرق؟ واللَّه أعلم، ومنه التوفيق، وبيده
(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 360).
وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1196، م: 1391].
695 -
[7] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكعَتَيْنِ (1). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1193، م: 1399].
ــ
أزمَّة التحقيق، وهو بإفاضة العلوم على من شاء من عباده جدير وحقيق، وصلى اللَّه على محمد سيد المرسلين وسيد الأولين والآخرين وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
وقوله: (ومنبري على حوضي) تأويله على نحو تأويل الروضة، وقد جاء في بعض الروايات:(وإن منبري على تُرْعَةٍ من تُرَعِ الجنة)(2)، والترعة بضم التاء: الباب، والجمع ترع كصُرَدٍ، والوجه، ومفتح الماء حيث يستقي الناس، والدرجة، والروضة في مكان مرتفع، ومقام الشاربة على الحوض، والمرقاة من المنبر، وفُوَّهَة الجدول، وجاء في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان قائمًا على منبره فقال: (قَدَمَيّ في هذه الساعة على ترعة من ترع الجنة)، وفي حديث آخر:(أنا قائم على عُقْر حوضي)(3)، والعقر: موضع يدخل منه الماء في الحوض، وذهب بعضهم إلى أن هذا إخبار عن المنبر الذي يكون له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يوضع على حوضه بأمر ربه، لا هذا المنبر في المسجد الشريف، وهذا القول بعيد من سياق الحديث كما لا يخفى، واللَّه أعلم.
695 -
[7](ابن عمر) قوله: (مسجد قباء) بالضم ممدودًا ومقصورًا، مصروفًا وغير مصروف، فمن صرفه ذكره، ومن منعه أنثه، كما هو حكم سائر أسماء المواضع،
(1) أَيْ: تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرَهَا يَقُومُ مَقَامَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْمَسَاجِدِ وَمَوَاضعِ الصُّلَحَاءِ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّ الزِّيَارَةَ يَوْمَ السَّبْتِ سُنَّةٌ، "مرقاة المفاتيح"(2/ 590).
(2)
أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير"(17/ 18).
(3)
أخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 282).
696 -
[8] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 671].
697 -
[9] وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 450، م: 533].
ــ
وفي (شرح الشيخ): وأنكر بعضهم القصر، موضع قرب المدينة على نحو ثلاثة أميال منها، بنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مسجده في أول قدومه بالهجرة، وأقام ثلاثة أيام ثم راح إلى المدينة، وفيه نزل:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} الآية [التوبة: 108]، على ما هو المشهور، وقال عمر رضي الله عنه: ولو كان هذا المسجد في أقطار الأرض لضربنا فيه أكباد الإبل، وله فضائل كثيرة، وهو في حكم مسجد المدينة.
696 -
[8](أبو هريرة) قوله: (أحب البلاد) أي: بقاع البلاد، أو أراد بالبلاد المواضع مجازًا، أو الإضافة للتخصيص مثل أفضل قريش (1).
697 -
[9](عثمان رضي الله عنه) قوله: (من بنى اللَّه (2) مسجدًا) قيل: هو حديث متواتر.
(1) قال القاري: الْمُرَادُ بِحُبَّ اللَّهِ الْمَسَاجِدَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لأَهْلِهَا وَبِالْبُغْضِ خِلَافُهُ، وَهَذَا بِطَرِيقِ الأَغْلَبِيَّةِ وَإِلَّا فَقَدْ يَقْصِدُ الْمَسْجِدَ بِقَصْدٍ نَحْوَ الْغِيبَةِ، وَقَدْ يَدْخُلُ السُّوقَ لِطَلَبِ الْحَلَالِ، وَلِذَا قِيلَ: كُنْ مِمَّنْ يَكُونُ فِي السُّوقِ وَقَلْبُهُ فِي الْمَسْجِدِ لَا بِالْعَكْسِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ فِي الْمَسْجِدِ أَكْمَلُ. "مرقاة المفاتيح"(2/ 591).
(2)
أي: يبتغي به وجه اللَّه لا رياء ولا سمعة. قال ابن الجوزي: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص، انتهى. قال القاري: قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ ظَاهِرٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ بِكِتَابَةِ اسْمِهِ نَحْوَ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ، وَفِيهِ: أَنَّ الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ يَحْصُلُ مُجْمَلًا وَمُبْهَمًا، فَلَا يُحْتَاجُ إلى تَعْيِين الاسْمِ، "مرقاة المفاتيح"(2/ 591)، وانظر:"مرعاة المفاتيح"(2/ 403).
698 -
[10] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 662، م: 669].
699 -
[11] وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى،
ــ
698 -
[10](أبو هريرة) قوله: (من غدا إلى المسجد أو راح) أي ذهب إليه أول النهار أو آخره، وقد يراد بالأول من طلوع الفجر إلى الزوال، وبالثاني ما بعد الزوال إلى الليل، و (النزل) بضمتين أو بالضم والسكون: الطعام الذي يقدم للضيف في أول نزوله، وفيه إشارة إلى كون المسجد بيت الرب تعالى يضيف زائره (1).
وقوله: (كلما غدا أو راح) أي: إلى المسجد، والإعادة لإفادة تأكيد تعميم الأوقات، أو في الجنة كقوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]، ويكون في الجنة ما يشابه البكرة والعشي، أو هو كناية عن الدوام (2).
699 -
[11](أبو موسى الأشعري) قوله: (أبعدهم فأبعدهم) الفاء (3) فيه
(1) قال المظهر: عادة الناس أن يقدموا طعامًا إلى من دخل بيوتهم، والمسجد بيت اللَّه، فمن دخله في أيِّ وقت كان من ليل أو نهار يعطيه اللَّه أجره من الجنة؛ لأن اللَّه أكرم الأكرمين فلا يضيع أجر المحسنين، انتهى. "المفاتيح شرح المصابيح"(2/ 64).
(2)
قال القاري (2/ 592): فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْحَرَكَةُ سَبَبَ الْبَرَكَةِ، وَالذَّهَابُ مُوجِبَ الثَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الذَّهَابُ إِلَى الطَاعَةِ عَلَامَةَ إِعْدَادِ اللَّهِ الْمَثُوبَةَ، فَإِنَّ الْعِبَاداتِ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ.
(3)
قال القاري (2/ 592): الْفَاءُ لِلِاسْتِمْرَارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وتعقبه العيني (5/ 169) بأنه لم يذكر أحد من النحاة أن الفاء تجيء بمعنى الاستمرار، ثم رجح كونها بمعنى ثمّ أي: أبعدهم ثم أبعدهم ممشى. وقال السندي: الْفَاءُ لِلتَّرْييبِ أَي الأَبْعَدُ عَلَى مَرَاتِبِ =
وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي يُصَلِّي ثمَّ يَنَامُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 651، م: 662].
700 -
[12] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ:"بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تنتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ". . . . .
ــ
مثلها في قوله: (الأمثل فالأمثل).
وقوله: (من الذي يصلي) أي: وحده، وإن صلاها أول الوقت، كذا في (شرح الشيخ)، فيفهم منه أن التأخير من أول الوقت لانتظار الجماعة ولو لتكثيرها أفضل من الصلاة في أول الوقت، وهذا سر أفضلية الإسفار في الفجر عند الحنفية، وقال الطيبي (1): أو المراد يصلي مع الإمام، والمراد بالنوم عدم انتظار الصلاة الآتية، وإن كان يقظان، والمنتظر يقظان وإن نام، ولا يخفى ما فيه من البعد لفظًا ومعنى، فتأمل.
700 -
[12](جابر) قوله: (خلت البقاع) بأن ذهب ساكنوها أو ماتوا.
وقوله: (حول المسجد) أي: المسجد النبوي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فأراد بنو سلمة) بكسر اللام، بطن من الأنصار، وليس بنو سلمة غيرهم.
وقوله: (أن تنتقلوا) لبعد دورهم عنه.
= الْبُعْدِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الأَقْرَبِ عَلَى مَرَاتِبِ الْقُرْبِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَبْعَدَ فَهُوَ أَكْثَرُ أَجْرًا مِمَّنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الأَقْرَبُ أَبْعَدَ مِنْ غَيْرهِ فَأَجْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْمَسْجِدَ مَعَ ذَلِكَ الْبُعْدِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْبُعْدُ عَنِ الْحُضُورِ. "حاشية السندي على سنن ابن ماجه"(1/ 263).
(1)
"شرح الطيبي"(2/ 228).
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (1) قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَب آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 665].
701 -
[13] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ. . . . .
ــ
وقوله: (نعم يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أردنا ذلك) إنما أطنبوا في الجواب إظهارًا لما في ضميرهم، والرغبة لعله يقررهم على ذلك ويشفق عليهم، كما يفعله المجرمون في حضرة السلطان خوفًا منه وطمعًا في عفوه، فافهم.
وقوله: (دياركم) أي: الزموها، وهو جمع دار.
قوله: (تكتب) بالجزم على جواب الأمر، وبالرفع على استئناف، والمراد بالآثار إما آثار الأقدام، أو سيرهم الحسنة، كقوله تعالى:{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، وقيل: فيهم نزلت هذه الآية كما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي سعيد (2).
701 -
[13](أبو هريرة) قوله: (يظلهم اللَّه في ظله) الظل في الأصل ضد الضّحِّ، أو هو الفيء، أو هو بالغداة، والفيءُ بالعشي، والجنة، ومنه {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 21] ويجيء بمعنى العزة والمنعة، وهو في ظله: في كنفه، كذا في (القاموس)(3)، فقيل: الظل عبارة عن الراحة والنعيم، نحو: هو في عيش ظليل، والمراد ظل الكرامة لا ظل الشمس؛ لأنها وسائر العالم تحت العرش، وقيل: المراد
(1)"صلى الله عليه وسلم": سقط في نسخة.
(2)
انظر: "سنن الترمذي"(ح: 3226)، و"المستدرك" للحاكم (2/ 465).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 946).
يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ. . . . .
ــ
ظل عرشه، أي: تحته، والإضافة إليه للتشريف، أو ظل طوبى، أو الجنة، وتعقب أن هذه القضية حين تدنو الشمس قبل الدخول في الجنة، ويشتد الحر، ويأخذهم العرق.
وقوله: (يوم لا ظل إلا ظله) أي: لا يكون من له ظل كما في الدنيا، وهذا ظاهر في أن المراد بالظل ظل العزة والمنعة، كما ورد {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وعلى التقادير كلها المراد تميزهم وتخصيصهم بمزيد فضل وكرامة، رزقنا اللَّه وجعلنا داخلين في بعض هذه الأقسام إن شاء اللَّه تعالى.
وقوله: (اجتمعا عليه وتفرقا عليه) عبارة عن خلوص المودة في الغيبة والحضور.
وقوله: (دعته امرأة) إن وصلت الدعوة إلى مرتبة المراودة والمخادعة والمبالغة في مباشرة أسبابها وآلاتها والتمكن منها، فهي المرتبة اليوسفية العليا، وإن كانت أدنى مرتبة منها كالنظرة والإشارة ونحوهما، فالمراد المبالغة، يعني يفوز بذلك الجزاء بهذا القدر، فكيف إذا تمكن من الفحشاء وكفَّ نفسه عنها، وعلى كل تقدير لا يتجه ما ذكر بعض الشراح في هذا المقام: أنهم تكلموا في أن هذه الحالة يعني الكف في أول دعوة أفضل وأشدّ، أو بعد التمكن والقدرة كما كان ليوسف عليه السلام، فقيل: الكفّ في أول المرتبة أفضل وأصعب وأدخل في التحفظ والاحتراس؛ لأنه كثيرًا ما تتساهل النفس فيها، وبعد التمكن قد يتطرق الكراهة والخوف والانقباض فيسهل الاجتناب، فافهم.
ذَاتُ حَسَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 660، م: 1031].
702 -
[14] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُويهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا،
ــ
وقوله: (ذات حسب) الحسب: ما يعده المرء من مآثره ومآثر آبائه، وقد يراد به المال، وقد يجيء الحسب بمعنًى يكون في الرجل وإن لم يكن له أب، وقد يجيء بمعنى النسب كما في حديث:(كيف حسبه فيكم؟ ) أي: نسبه. و (الجمال) الحسن والملاحة والبهجة.
وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) أي: من كان في شماله، والصواب أنه كناية عن غاية الإخفاء، هذا وقد يروى:(حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)، ولعله سهو من قلم الناسخ؛ لأن المعروف في النفقة هو اليمين، وهكذا جاء في رواية مسلم، وسمّوه في أصول الحديث مقلوبًا، فيكون من الراوي، لا أن الكلام محمول على القلب، كما في عرضت الناقة على الحوض، فافهم.
702 -
[14](وعنه) قوله: (صلاة الرجل) أي: ثوابها (في الجماعة) أي: في المسجد.
وقوله: (تضعف) بضم فوقية وتشديد عين من التضعيف، أي: يزاد على صلاته في بيته، أي: منفردًا كما هو العادة، وكذا تخصيص البيت والسوق بالذكر باعتبار العادة، وفيه إشعار بعذره لالتزامهما، ومع ذلك يضعف، ففي غيرهما بطريق الأولى.
فالظاهر من الحديث بيان تفضيل الصلاة في المسجد بالجماعة على الصلاة في البيت، فإذا صلَّى في المسجد منفردًا أو في البيت بالجماعة كان لهذين القسمين ثواب،
وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ،
ــ
إما متساويين أو متفاضلين، لا بالتفاضل المذكور فيه، واللَّه أعلم. والعلم بالمضاعفة بهذا العدد موكول إلى علم الشارع، وسيجيء بيانه في (باب فضل الجماعة).
وقوله: (ذلك) إشارة إلى أصل المضاعفة لوجود رفع الدرجات وحط الخطيئات.
وقوله: (لا يخرجه إلا الصلاة) أي: قصد إيقاعها على الوجه المأمور به، دون غرض آخر. و (الخطوة) بالضم: بُعد ما بين القدمين في المشي، وبالفتح: المرة، وجمعها خُطًا بضم الخاء، وخُطْوات بسكون الطاء وضمها وفتحها.
وقوله: (ما دام في مصلاه) وفي رواية للبخاري: (ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه)، ظاهره أن هذه الفضيلة تفوت بالذهاب إلى موضع آخر، وإن كان مشغولًا بالذكر، فكأنه جزاء المصابرة والمرابطة، وفضل الذكر باق، وبعض المشايخ اختاروا الخلوة لخوف تشويش أو تطرق رباء، واللَّه أعلم.
وقوله: (اللهم صلِّ عليه) بيان لقوله: (تصلي عليه) أي: يقولون هذا القول، ويطلبون من اللَّه الرحمة، فالصلاة من اللَّه الرحمة، ومن العباد سواء كانوا ملائكة أو ناسًا الدعاء والسؤال من اللَّه إنزال الرحمة، وما اشتهر من أن الصلاة من الملائكة الاستغفار فكأنه أخذ من قوله:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، لا أن معنى الصلاة الاستغفار، فإنهم إنما يطلبون من اللَّه أن يصلي، والصلاة من اللَّه الرحمة، فافهم، فالحق أحق أن يتبع.
وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ".
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الْمَسْجدَ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ". وَزَادَ فِي دُعَاءَ الْمَلَائِكَةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 647، م: 649].
ــ
وقوله: (ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) إشارة إلى فضيلة استدامته في مصلاه، واقتضائه المضاعفة بانتظار الصلاة الآتية بجلوسه في مصلاه، وسببيَّته لدعاء الملائكة.
وقوله: (ما لم يؤذ فيه) أي: أحدًا ممن لا يجوز إيذاؤه.
وقوله: (يحدث) بدل من سابقه فيكون مجزومًا، وروي بالرفع بأنه استئناف، وهذان الوجهان في رواية:(ما لم يؤذ يحدث فيه) بترك كلمة (لم)، وأما على تقدير وجود (لم) كما أورده المؤلف فهو بدل، أو عطف بحذف حرف العاطف، و (يحدث) بالتخفيف من الحدث لانتقاض طهره وزوال تأهله للصلاة وانتظاره لها، وأيضًا إن أحدث حُرِم استغفارَهم لتأذيهم برائحته الخبيثة، كذا في (مجمع البحار)(1). وقد يشدد من التحديث، وهو خطأ، كذا قال الطيبي (2). وقال الكرماني (3): وفي بعض الروايات: (بحدث) بلفظ الجار والمجرور متعلق بـ (يؤذ)، أي: لم يؤذ الملائكة بحدث، وفي بعضها من باب التفعيل، أي: ما لم يتكلم بكلام الدنيا.
وقوله: (متفق عليه) قيل: فيه نظر لأنه ليس في رواية البخاري: (اللهم تب عليه)،
(1)"مجمع بحار الأنوار"(1/ 454).
(2)
"شرح الطيبي"(2/ 231 - 232).
(3)
"شرح الكرماني"(4/ 140).
703 -
[15] وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 713].
704 -
[16] وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 444، م: 714].
705 -
[17] وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَقْدَمُ. . . . .
ــ
وأيضًا ليس فيها: (ما لم يؤذ ما لم يحدث)، بل إما (ما لم يحدث) أو (ما لم يؤذ يحدث) بدون (لم)، فكأنه لم يعتبر مثل هذه المخالفة في الحكم بالاتفاق، واللَّه أعلم.
703 -
[15](أبو أسيد) قوله: (أبو أسيد) بالتصغير، كنية مالك بن ربيعة، أنصاري، ساعدي، آخر من مات من البدريين.
وقوله: (من فضلك) الفضل ضد النقص، والمراد طلب الرزق الذي تبغيه بعد الصلاة، أو العود إلى المسجد للصلاة التي هي فضل بعد الصلاة التي صلاها، وقد يفسر قوله تعالى:{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] بطلب زيادة العلم والعمل بزيارة العلماء والصلحاء.
704 -
[16](أبو قتادة) قوله: (فليركع ركعتين) لعل هذا الحديث هو متمسك الشافعية في إيجاب ركعتين لتحية المسجد بحمل الأمر على الوجوب، والظاهر من سياق الحديث أن يكون الأمر للندب، وإلا لزم أن يجب قبل الجلوس، وليس كذلك بالاتفاق، وسيجيء لهذا ذكر في (باب خطبة الجمعة) إن شاء اللَّه تعالى.
705 -
[17](كعب بن مالك) قوله: (لا يقدم) من باب سمع يسمع.
مِنْ سَفَرٍ إِلَّا نَهَارًا فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ جَلَسَ فِيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3088، م: 716].
706 -
[18] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ. . . . .
ــ
وقوله: (فصلى فيه ركعتين) يحتمل أن يكون لتحية المسجد، أو لوقت الضحى، وسيجيء تحقيقه في بابه.
706 -
[18](أبو هريرة) قوله: (ينشد ضالة)(1) نشد الضالة نشدًا ونِشْدَةً ونِشْدَانًا بكسرهما: طلبهما، من نصر، فهو ناشد، وأنشدها: عرَّفها، فهو منشد، من النشيد: رفع الصوت، والنشدة بالكسر: الصوت، ونشدتك اللَّه، وباللَّه، وأنشدتك اللَّه، وباللَّه، وناشدتك اللَّه، وباللَّه، أي: سألتك وأقسمت عليك، برفع نشدتي، أي: صوتي، وتعديته إلى مفعولين؛ لأنه كدعوته زيدًا ودعوته بزيد، أو لأنه ضمن معنى ذكَّرت من التذكير، وأنشدت اللَّه خطأ.
و(الضالة): الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره، من ضلَّ: إذا ضاع وضل عن الطريق، وفي (القاموس) (2): الضالة من الإبل: التي تبقى بِمَضْيَعَةٍ بلا رب، للذكر والأنثى.
وقوله: (لا ردها اللَّه) زجر عن طلبه في المسجد، وفي حديث آخر:(أيها الناشد غيرك الواجد)، وسمعت عن بعض مشايخي أنه نهي عن رفع الصوت له ونحوه لا عن مجرد التفحص.
(1) في "التقرير": يخرج منه ضالة المسجد.
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 942).
فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لهَذَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 568].
707 -
[19] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الإِنْسُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 854، م: 564].
ــ
وقوله: (فإن المساجد) علة للقول، أو داخل تحت القول.
وقوله: (لم تبن لهذا) أي: ونحوه مما ليس بعبادة كالبيع والشراء ونحوهما من معاملات الناس، وكره فيه رفع الصوت بالعلم ونحوه خلافًا لأبي حنيفة في العلم، كذا في (مجمع البحار)(1).
وأما الأكل والنوم فقد جاء عن أصحاب الصفة وغيرهم من الأصحاب رضي الله عنهم، فقد ورد أن ابن عمر كان ينام في المسجد وهو شاب فيقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:(نعم الرجل عبد اللَّه بن عمر لو قام بالليل)، وقد صح من نوم علي رضي الله عنه في المسجد حين وَجَدَ عَلَى فاطمة رضي الله عنه، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأقامه، وقال:(قم يا أبا تراب)، وفي هذا الباب تفاصيل ذكرت في كتب الفقه، وأحسن ما يبيحها للرجل أن ينوي الاعتكاف، فإنه صحيح ولو ساعة عند من لا يشترط الصوم فيه.
707 -
[19](جابر) قوله: (من هذه الشجرة (2) المنتنة) أي: البصل، وقيل: الثوم، وسيجيء في الفصل الثاني (الشجرتين) يعني البصل والثوم، ويلحق بهما كل ما له ريح كريه من المأكولات، ويلحق بالمأكولات غيرها كالبخر والدفر وجرح منتن،
(1)"مجمع بحار الأنوار"(4/ 721).
(2)
هي ما قام على ساق وخلافه النجم، فاسم الشجر عليه مجاز، قال العيني: فَإِن قلت: على مَا ذكر كَيفَ أطلق الشّجر على الثوم وَنَحْوه؟ قلت: قد يُطلق كل مِنْهُمَا على الآخر، وَتكلّم أفْصح الفصحاء بِهِ من أقوى الدَّلَائِل. "عمدة القاري"(6/ 145).
708 -
[20] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 415، م: 552].
709 -
[21] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي محَاسِن أَعمالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 554].
710 -
[22] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ أَمَامَهُ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ،
ــ
ويلحق بالمسجد مجامع العبادات من العلم والذكر وسائر مجالس المؤمنين كالولائم ونحوها، فإن جميع ذلك من أنواع الإيذاء، ويشتمل جميع المساجد، ولا يختص بالمسجد النبوي، ولهذا جاء (في مسجدنا) و (مساجدنا) بلفظ الجمع، نعم قد ورد (مسجدي) وذلك في زمانه صلى الله عليه وسلم، وذلك قيد اتفاقي، نعم يكون الكراهة في زمنه ومسجده أشدَّ، وفي نفي القربان مبالغة لا تخفى.
708 -
[20](أنس) قوله: (البزاق) البصاق بالصاد، والبساق بالسين، والبزاق بالزاي: ماء الفم إذا خرج منه وما دام فيه فريق، وقد جاء التفال بالضم أيضًا بمعنى البصاق، تفل: بصق، لكنه أقل منه، وأما النفث فهو نفخ وليس معه ماء.
709 -
[21](أبو ذر رضي الله عنه) قوله: (النخاعة) وهي النخامة، ما يخرج من الصدر، أو ما يخرج من الخيشوم، والنخاع مثلثة: الخيط الأبيض في جوف الفَقار، ينحدر من الدماغ، وتتشعب منه شُعَبٌ في الجسم.
710 -
711 - [22 - 23](أبو هريرة، وأبو سعيد) قوله: (فإنما يناجي) فكأنه
وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا". [خ: 416، م: 550].
711 -
[23] وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: "تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 408، م: 548].
712 -
[24] وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 435، م: 531].
ــ
يقابله ويحاذيه.
وقوله: (فإن عن يمينه ملكًا) أي: عظيمًا فخيمًا، وهو كاتب الحسنات التي هي مظاهر الرحمة، أو الحاضر عند الصلاة للتأييد والإلهام بقلبه، والتأمين عند دعائه، كذا قالوا.
وقوله: (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه) وهو وإن كان أيضًا منافيًا لحالة المناجاة، لكن أذن فيه ضرورة، ولكونه غير جهة المقابلة، وهذا في غير المسجد، أما فيه ففي ثوبه، كذا في (مجمع البحار)(1).
قوله: (تحت قدمه اليسرى) تعظيمًا للقدم اليمنى التي في جانب اليمين الذي هو أفضل من جانب اليسار.
712 -
[24](عائشة) قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) لما أعلمه اللَّه بقرب أجله، فخشي أن يفعل بعض أمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور
(1)"مجمع بحار الأنوار"(1/ 180).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنبيائهم، نبههم على النهي عن ذلك بلعن اليهود والنصارى على صنيعهم.
وقال التُّورِبِشْتِي (1): وهو مخرج على وجهين: أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم، وقصد العبادة في ذلك، وثانيهما: أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة والعبادة للَّه، نظرًا منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعًا عند اللَّه؛ لاشتماله على الأمرين: عبادة اللَّه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى: فشرك جلي، وأما الثانية: فلما فيها من معنى الإشراك باللَّه عز وجل، وإن كان خفيًّا، والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وسلم:(اللهم لا تجعل قبري وثنًا [يعبد]، اشتد غضب اللَّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والوجه الأول أظهر وأشبه به، كذا قال التُّورِبِشْتِي.
وفي (شرح الشيخ): فعلم منه أنه يحرم الصلاة إلى قبر نبي أو صالح تبركًا وإعظامًا، قال: وبذلك صرّح النووي (2)، فقال: ولا يصلي لقبر ولا عند قبر تبركًا وإعظامًا للأحاديث الصحيحة، ويجب الجزم بتحريم هذا، ولا أحسب لأحد فيه خلافًا، أعني الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا، انتهى.
وقال التُّورِبِشْتِي (3): فأما إذا وجد بقربها موضع بُني للصلاة، أو مكان يَسْلَمُ المصلي فيه عن التوجه إلى القبور، فإنه في فسحة من الأمر، وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفن نبيٍّ، ولم ير للقبر فيه عَلَمًا، ولم يكن قصده ما ذكرناه من العمل
(1)"كتاب الميسر"(1/ 204).
(2)
انظر: "المجموع شرح المهذب"(5/ 206).
(3)
"كتاب الميسر"(1/ 204 - 205).
713 -
[25] وَعَن جُنْدُبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 532].
714 -
[26] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 432، م: 777].
ــ
الملتبس بالشرك الخفي، إذ قد تواطأت أخبار الأمم على أن مدفن إسماعيل عليه السلام في المسجد الحرام عند الحطيم، وهذا المسجد أفضل مكان تتحرى الصلاة فيه، انتهى.
وفي (شرح الشيخ) أيضًا مثله حيث قال: وخرج بذلك اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره، لا لتعظيمه والتوجه نحوه، بل لحصول مدد منه، حتى تكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة، فلا حرج في ذلك، لما ورد: أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحِجْر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيًا، ولم ينه أحد عن الصلاة فيه، انتهى. وكلام الشارحين متطابق في ذلك.
713 -
[25](جندب) قوله: (ألا ديان من كان قبلكم) قد سبق شرحه في الحديث الأول مع ما فيه من المبالغة والتأكيد للنهي بأنواع، و (إن) روي بالكسر والفتح، فالكسر ظاهر لابتداء الكلام، والفتح بتقدير: واعلموا، أي: تنبهوا واعلموا.
714 -
[26](ابن عمر) قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) أي: اجعلوا بعض صلاتكم، وهي النوافل التي لا تسن فيها الجماعة في بيوتكم لتعود بركتها إليها، وتصير منورة بنور العبادة.
وقوله: (ولا تتخذوها قبورًا) تأكيد للأمر، أي: لا تكونوا في البيوت كالميت