الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - باب آداب الخلاء
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
334 -
[1] عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا". . . . .
ــ
2 -
باب آداب الخلاء
الأدب: استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، وعبر عنه بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وفي (الصراح) (1): أدب نكَاه داشتن حد هر جيزى را، وسنبين معناه مفصلًا في كتاب الآداب إن شاء اللَّه تعالى، والخلاء ممدودًا المتوضأ؛ لأن الإنسان يخلو فيه، في (القاموس) (2): الخلاء: المتوضأ والمكان لا شيء به.
الفصل الأول
334، 335 - [1 - 2](أبو أيوب الأنصاري، وعبد اللَّه بن عمر) قوله: (إذا أتيتم الغائط) في (المشارق)(3): الغائط: المنخفض من الأرض، وبه سمي الحدث لأنهم كانوا يقصدونه لذلك يستترون فيه، وفي (القاموس) (4): الغائط والغاط: المطمئن من الأرض، والغائط كناية عن العذرة، انتهى. وإرادة العذرة من الغائط مجاز من قبيل تسمية الحال باسم المحل، والكناية في عبارة (القاموس) بمعنى مقابل الصريح.
وقوله: (ولكن شرقوا أو غربوا) في (القاموس)(5): التشريق الأخذ في ناحية
(1)"الصراح"(ص: 18).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1178).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 234).
(4)
"القاموس المحيط"(ص: 627).
(5)
"القاموس المحيط"(ص: 827).
مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 394، م: 264].
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ رحمه الله: هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ فَلَا بَأْس لما رُوِيَ.
335 -
[2] عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 148، م: 62].
ــ
المشرق، وعلى هذا يكون التغريب الأخذ في ناحية المغرب، والمعنى استقبلوا المشرق حتى يكون الاستدبار إلى المغرب، أو استقبلوا المغرب حتى يكون الاستدبار إلى المشرق، وهذا مخصوص بأهل المدينة المطهرة؛ فإن قبلتها الجنوب؛ فإن المدينة شمالية الكعبة المشرفة.
واعلم أن المسألة مختلف فيها، فعند أبي حنيفة يحرم استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء وفي البنيان، وعند الشافعي لا يحرم في البنيان، وذهب إلى كل من القولين جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ونقل الترمذي عن أحمد بن حنبل الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم في استدبار القبلة بغائط أو بول، فأما استقبال القبلة فلا يستقبلها، كأنه لم ير في الصحراء ولا في الكنيف أن يستقبل القبلة، ونقل الشُّمُنِّي عدم كراهة الاستدبار عن أبي حنيفة أيضًا الحديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي.
حجة الحنفية أن حديث النهي رواه جمع كثير من الصحابة، ولم يذكر أحد منهم في رواية ما يدل على التفريق بين الصحارى والأبنية، وقال الترمذي (1): حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح، انتهى.
(1)"سنن الترمذي"(1/ 12).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وهذا الحديث رواه أصحاب الكتب الستة، وقال أبو أيوب: قدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر اللَّه، وإنما استغفر مع الانحراف عنها؛ لأنه اعتقد أنه منكر فاستغفر من رؤيته، وترك التشدد في تغييره.
وقال التُّورِبِشْتِي (1): والنظر يقتضي التسوية بين الصحارى والأبنية؛ لأنا لم نجد للنهي وجهًا سوى احترام القبلة، ككراهة مواجهة تلك الجهة بالبزاق والنخامة ومد الرجل.
وتمسك الشافعي بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام.
وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل النهي، ويحتمل أنه قد انحرف عن سمت القبلة شيئًا يسيرًا بحيث خفي على ابن عمر رضي الله عنهما لأنه لم يتعمق في ذلك ولم يكن المقام مقامه.
وقال التُّورِبِشْتِي: وقد جاء في بعض طرق الصحاح أن ابن عمر قال: يقول ناس: إذا قعدت للحاجة فلا تقعد مستقبل القبلة ولا بيت المقدس، ولقد ارتقيت على ظهر بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستقبلًا بيت المقدس لحاجته، فليس استدبار القبلة مذكورًا فيه، وإنما أنكر على من قال بالنهي عن استقبال بيت المقدس، انتهى.
فإن قلت: إذا كان مستقبلًا لبيت المقدس فقد يستدبر الكعبة ضرورة لأنهما متسامتان في المدينة؛ لأن المدينة متوسطة بين مكة وبيت المقدس، وكلاهما في ناحية الشمال من مكة كما يرى ذلك في مسجد القبلتين الذي نسخت فيه قبلة بيت المقدس، بني محراب كل منهما مسامتًا للآخر.
(1)"كتاب الميسر"(1/ 130).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلنا: ليس الأمر كذلك في التحقيق، ولا يقع سمت القبلة بالمدينة على السواء من بيت المقدس، وإن ذكره بعض العلماء بناء على الظاهر فذلك مبني على التقريب، ويعلم ذلك بالحس من النظر في مطالع البروج ومغاربها، وبالحساب بمعرفة طول البلدين وعرضهما؛ فإن طول المدينة خمس وسبعون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها خمس وعشرون درجة، وطول بيت المقدس ست وستون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها أحد وعشرون درجة وأربعون دقيقة، فلا يكون مسامتين على ما ذكره التُّورِبِشْتِي، واللَّه أعلم.
فإن قلت: في حديث جابر أنه قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها، وهذا يدل على أن الرخصة كان آخر الأمرين، فلا يجوز القول بنسخه.
قلنا: قال الترمذي: حديث جابر غريب حسن، فلا يقاوم حديث أبي أيوب وهو صحيح، على أنه يحتمل أنه انحرف عنها يسيرًا ولم يشعر به جابر، أو كان في بعض أسفاره بحيث تشتبه القبلة فيه فحسب أنه متوجه إلى جهة الكعبة ولم يكن كذلك، على أنه يحتمل بعد أن الرخصة نسخت ثانيًا؛ لكونه قبل أن يقبض بعام، وهذه الاحتمالات وإن كانت لا تخلو عن بعد لكنها تجمع الأحاديث، وأحاديث النهي كثيرة راجحة، والاحتياط في ذلك.
ثم اعلم أن الوجه في قول الشافعي بالرخصة في البنيان ليس مبنيًّا على أن الستر في ظاهر ما يرى حاصل في البنيان دون الصحراء كما يتبادر إلى الفهم، بل الوجه كما قالوا هو أن الصحراء لا تخلو عن مصلٍّ من ملك أو جني أو إنسي، فإذا قعد مستقبل القبلة أو مستدبرها ربما يقع نظر مصلٍّ على عورته، وهذا المعنى مأمون في البنيان،
336 -
[3] وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: نَهَانَا -يَعْنِي رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ. . . . .
ــ
كذا قال الطيبي (1)، ولكن ما يجيء في الفصل الثالث من حديث مروان الأصفر من قول ابن عمر رضي الله عنهما: إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس؛ ينظر إلى ما يتبادر.
336 -
[3](سلمان رضي الله عنه) قوله: (وأن نستنجي) وفي بعض النسخ بـ (أو) في المواضع الثلاثة، ونفي أحد الأمور مبهمًا يقتضي العموم، والنجو: ما يخرج عن البطن، يقال: نجى فلان: أحدث، ونجى الحدث: خرج، والسين في الاستنجاء للطلب، أي: طلب النجو ليزيله، والاستنجاء يجيء بمعنى إخراج العذرة من البطن، وبمعنى إزالته عن بدنه بالغسل أو المسح، والأول: من النجو وهو ما ارتفع من الأرض كأنه يطلبها ليجلس تحتها، والثاني: من نجى الشجرة وأنجاها واستنجاها: قطعها، أو من نجى الجلد: كشطه، وذكر الأحجار في الاستنجاء مبني على الأكثر المتعارف في تلك الديار، والمدر والتراب والعود والخرق وكل ما يحصل به النقاء في حكمها ما عدا ما نهي عنه من العظم والروث والرجع؛ لما روى البيهقي وقال: إنه أصح ما في الباب عن مولى عمر قال: كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئًا أستنجي به فأناوله العود أو الحجر، أو يأتي حائطًا يتمسح به أو يمسه الأرض، كذا ذكر الشُّمُنِّي.
وقوله: (باليمين) وكيفية الاستنجاء بالحجر من البول أن يأخذ الحجر بيمينه والذكر بشماله ويحركه إلى الحجر، ولا يحرك الحجر إليه لئلا يلزم الاستنجاء باليمين، كذا ذكره في (العوارف)(2)، قال الشيخ: وكذا ذكره إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي
(1)"شرح الطيبي"(2/ 35).
(2)
"عوارف المعارف"(ص: 171).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في (الوسيط)(1)، والبغوي في (التهذيب) وقال: ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرًا بيمنيه فقد غلط، وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره في حال الاستنجاء، وبهذا قد حصل التفصي عما نقل في (فتح الباري)(2) عن الخطابي في هذا المقام إيرادًا وبالغ في التبجح به، وهو أن المستجمر متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه، ومتى أمسكه بيساره استلزم استجماره بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي، ولم يحتج في الجواب عنه بتكلفات ارتكبوها هي أنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ويستجمر بيساره فلا يتصرف في شيء من ذلك بيمينه. قال الشيخ: وهذه هيئة منكرة، بل قد يتعذر فعلها في غالب الأوقات.
وقال الطيبي (3): النهي عن الاستنجاء باليمين مختص بالدبر، والنهي عن المس مختص بالذكر فبطل الإيراد من أصله، قال الشيخ: ما ادعاه من تخصيص الاستنجاء باليمين بالدبر مردود، والمس وإن كان مخصوصًا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسًا، والتخصيص على الذكر لا مفهوم له بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال هم المخاطبين، والنساء شقائق الرجال في الأحكام، انتهى.
وأقول: لا حاجة إلى شيء مما ذكروا، والأمر في ذلك سهل؛ فإنه إذا أخذ الحجر بشماله ومع ذلك أخذ الذكر به حصل الاستنجاء، كما يفعل من يتواخذ ويتخطا (4)
(1)"الوسيط" للغزالي (1/ 30).
(2)
"فتح الباري"(1/ 254).
(3)
"شرح الطيبي"(2/ 39).
(4)
كذا في الأصول.
أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ،
ــ
للاستنجاء، وذلك متعارف بلا مشقة كما لا يخفى.
وقوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) الاستنجاء بثلاثة أحجار واجب عند الأئمة الثلاثة بشرط النقاء بأن يخرج آخرهن نقيًّا لا شيء عليه، وإن أنقى بدون الثلاثة أتى ببقيتها تحصيلًا بشرط العدد، وعندنا الشرط هو حصول النقاء وإن حصل بأقل منها، وتمسكهم بهذا الحديث إن كان النهي للتحريم، وبحديث عائشة (1) أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(إذا ذهب أحدكم لحاجته فليستطب بثلاثة أحجار) إن كان الأمر للإيجاب.
ولنا ما روى البخاري (2) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد الثالث، فأتيته بروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:(هذا ركس)، وأيضًا حديث أبي هريرة الآتي:(من استجمر فليؤتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) دليل على عدم الاشتراط.
قال في (الهداية)(3): وما رواه الشافعي متروك الظاهر، فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع، قال ابن الهمام (4): فعلم أن المراد عدد المسَحَات غير أنه قدر بالثلاث؛ لأن غالب الظن يحصل عنده كما قدره في حديث المستيقظ، ولكن هذا إذا كان الاستجمار خاصًا في الاستنجاء، لكنه مشترك بينه وبين استعمال الجمر في البخور كما في قولهم: تجمر الأكفان في الجنائز، واستجمر فلان: أي تبخّر، فيكون
(1)"مسند أحمد"(6/ 108).
(2)
"صحيح البخاري"(156).
(3)
"الهداية"(1/ 39).
(4)
"فتح القدير"(1/ 397).
أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 262].
337 -
[4] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 142، م: 283].
338 -
[5] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ،
ــ
لفظ الحديث لبيان تثليث الإيتار في البخور والتطيب.
وقوله: (أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) المراد بالرجيع: الروث، وعلة النهي عن الاستنجاء بالروث والعظم كونهما زاد الجن ودوابهم كما نطقت به الأحاديث.
337 -
[4](أنس) قوله: (من الخبث والخبائث)(الخبث) يروى بضم الباء وسكونها، فبالضم جمع خبيث، و (الخبائث) جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم، وبالسكون يحتمل أن يكون مصدر خبث الشيء خبثًا، ويحتمل أن يكون مخفف جمع الخبيث، وقد جاء التخفيف في هذا الوزن كما في كتب وسبل ورسل، وعلى تقدير كونه على لفظ المصدر المراد الشيء المكروه مطلقًا، وقيل: الشر، وقيل: الكفر، ثم قال الشيخ (1): من يكره ذكر اللَّه في تلك الحالة يفصِّل، أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقول في أوان الشروع كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور، وقال: من [نسي] يستعيذ بقلبه لا بلسانه، ومن يجيز مطلقًا كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى التفصيل.
338 -
[5](ابن عباس) قوله: (وما يعذبان في كبير) أي: في زعمهما، أو في
(1) انظر: "مرقاة المفاتيح"(2/ 260).
أَمَّا أَحدهمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ -وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ- وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"،
ــ
أمر يشق ويكبر عليهما الاحتراز عنه، قال اللَّه تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] أي: شاقة، وزاد في رواية للبخاري: ثم قال: (بلى)، أي: بلى يعذبان في كبير، وفي للتعليل.
وقوله: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) روي هذا اللفظ بوجوه، أحدها (لا يستتر) من الاستتار، وظاهر معناه لا يبالي بانكشاف العورة، وهذا لا يناسب الباب، وقد يقال: معناه لا يجعل بينه وبين بوله سترة حتى يتحفظ منه، والموافق لما رواه مسلم:(لا يستنزه) -بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء- من التنزه وهو الإبعاد، وهذا اللفظ موافق لما جاء في حديث آخر:(استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)، وقد يروى:(لا يستبرئ) بموحدة ساكنة من الاستبراء، أي: لا يتبرأ من البول ولا يتباعد منه، وهو قريب من الوجه الثاني، وقد جاء:(يستنتر) بالنون بين التائين من النتر، قال في (النهاية) (1): وهو جذب فيه قوة وجفوة، وقد جاء في الحديث:(إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثًا)، وفي رواية:(ثلاث نترات)، وقال: ومنه حديث عذاب القبر أنه لم يكن يستنتر عند بوله، وهو أيضًا قريب من (يستبرئ) و (يستنزه)، وقال الطيبي (2): وذكر في (شرح السنة) هذا الحديث في باب الاستتار عند قضاء الحاجة.
وقوله: (بالنميمة) النم والنميمة: رفع الحديث إشاعة له وإفسادًا، نم ينم بكسر النون وضمها، وقال النووي: نقل كلام الغير لقصد الإضرار وهي من أقبح القبائح، انتهى. وعرفها بعضهم أنها المقالة التي ترفع عن قائلها ليضر بها قائلها في دينه أو نفسه
(1)"النهاية"(5/ 12).
(2)
"شرح الطيبي"(2/ 37).
ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّه لِمْ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ أَن يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 216، 1361، 6052، م: 292].
ــ
أو ماله، وهذا التعريف أشمل لدخول إفشاء الشر فيه، ثم قوله: يرفع عن قائلها يعم كل ما يحصل به الرفع ولو بكتابة أو رمز ونحو ذلك، انتهى.
وفي (شرح كتاب الخرقي)(1) في مذهب الإمام أحمد بن حنبل قال: وهي كبيرة عندنا على الأشهر، وكيف لا، وقد جعلها اللَّه تعالى صفة لمن اعتدى وكذب {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11]، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم:(إن اللَّه لا ينظر إلى ذي وجهين)، وفي الصحيحين (2):(لا يدخل الجنة قتات)، أي: نمام، وقد قال عمر ابن الخطاب لكعب الأحبار رضي الله عنهما: أي شيء في التوراة أعظم إثمًا، قال: النميمة، فقال عمر رضي الله عنه: هي أقبح من القتل، فقال: وهل يولد القتل وسائر الشرور إلا النميمة، ومصداق ذلك في الكتاب العزيز {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].
وقوله: (ثم أخذ جريدة) أي: غصن نخل، في (القاموس) (3): جرده: قشره، والجريدة سعفة طويلة رطبة أو يابسة أو التي تقشر من خُوصها.
وقوله: (فشقها بنصفين) قال الطيبي (4): هو حال بزيادة الباء، ويحتمل أن يكون مفعولًا مطلقًا، أي: شقها شقًا ملتبسًا بنصفين.
وقوله: (لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) زيادة (أن) لتشبيه لعل بعسى، والضمير
(1)"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 55).
(2)
"صحيح البخاري"(6056)، و"صحيح مسلم"(105).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 261).
(4)
"شرح الطيبي"(2/ 38).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في (يخفف) للعذاب، ويروى:(عنها)، والضميران للميت، والتذكير باعتبار الشخص، والتأنيث باعتبار النفس، والأول للشأن، وتفسيره بأن وصلتها لكونها جملة حكمًا، أو مبهم يفسره ما بعده، وعلى رواية (عنهما) بالتثنية الضمير للقبرين، وقد يروى (عنه) بتأويل الشخص، و (ييبسا) يروى بالفوقية والتحتية فعلى الأول للكبيرتين، وعلى الثاني للعودين أو للنصفين، وقالوا: لعله صلى الله عليه وسلم شفع فاستجيب بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا، وقيل: لكونهما يسبّحان ما داما رطبتين، المراد (من شيء) في قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} [الإسراء: 44]: شيء حي، وحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع، وهذا التسبيح خاص به، والذي يعمّ الأشياء كلّها فهو بمعنى الدلالة على الصانع وكماله، وقد أنكر الخطابي ما يفعله الناس على القبور من الأخواص ونحوها متعلقين بهذا الحديث، وقال: لا أصل له ولا وجه.
وفي (مجمع البحار)(1) عن الكرماني: وليس في الجريدة معنى يخصه، وإنما ذاك ببركة يده صلى الله عليه وسلم، ولهذا أنكر الخطابي وضع الناس الجريدة ونحوه على القبر، وقيل: الرطب يسبح فيتخفف ببركته فيطّرد في كل الرياحين والبقول.
وقال التُّورِبِشْتِي (2): وجه هذا التحديد أن يقال: إنه سأل التخفيف عنهما مدة بقاء النداوة فيهما، وقول من قال: وجه ذلك أن الغصن الرطب يسبح للَّه ما دام فيه النداوة فيكون مجيرًا عن عذاب القبر، قول لا طائل تحته ولا عبرة به عند أهل العلم، وقيل: علم ذلك موكول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم.
(1)"مجمع بحار الأنوار"(205).
(2)
"كتاب الميسر"(1/ 132).
339 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ" قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّه؟ . قَالَ: "الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاس أَو فِي ظِلِّهِمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 269].
340 -
[7] وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِذا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإْنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ. . . . .
ــ
339 -
[6](أبو هريرة) قوله: (اتقوا اللاعنين) هذا من قبيل الإسناد إلى السبب الحامل وحذف المضاف من قوله: (الذي يتخلى) أي: تخلى الذي يتخلى أو عبّر عن الفعل بفاعله، وقيل: اللاعن بمعنى الملعون كما قيل في قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ} [هود: 43] أي: اتقوا فعلهما، واستفدنا من إضافة الظل إلى الناس اختصاص النهي بظل يجتمعون ويقيلون فيه، ففي هذا النوع من الظل ورد النهي دون سائر الظلال، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد تحت حائش (1) من النخل لحاجته، وهو المجتمع من الشجر نخلًا كان أو غيره، ولا بد أن يكون للحائش ظل، كذا ذكره التُّورِبِشْتِي (2)، ومواضع الشمس في الشتاء كالظل في الصيف، كذا في بعض الشروح، والمراد بالتخلي: التفرد لقضاء الحاجة غائطًا أو بولًا؛ فإن التنجس والاستقذار موجود فيهما فلا يصح تفسير النووي بالتغوط، ولو سلم فالبول يلحق به قياسًا، والمراد بالطريق: الطريق المسلوك لا المهجور الذي لا يسلك إلا نادرًا، وكذا طريق الكفار ليس بمراد، كذا في (مجمع البحار)(3).
340 -
[7](أبو قتادة) قوله: (فلا يتنفس) بالجزم، و (لا) ناهية في الثلاثة،
(1) جَماعَةُ النَّخْلِ. "القاموس المحيط"(ص: 591).
(2)
"كتاب الميسر"(1/ 132).
(3)
"مجمع بحار الأنوار"(2/ 110).
وَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 153، م: 267].
341 -
[8] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 161، م: 237].
ــ
ويروى بالرفع فيها على أن (لا) نافية، كذا في بعض الشروح نقلًا عن الشيخ، ويجوز الجزم أيضًا على تقدير كون (لا) نافية لجواز الوجهين عند كون الشرط ماضيًا، والمراد التنفس داخل الإناء من غير أن يُبِينَهُ عن الفم حذرًا من سقوط شيء من الأنف أو الفم فيه (1)، وقيل: إنه منع من جهة الطب، وقد ورد في حديث آخر: أنه كان يتنفس في الإناء ثلاثًا، أي: في الشرب منه بإبانة الإناء عن الفم، وقد جاء في رواية في الشراب، ويتم الكلام في ذلك في (باب الأشربة) إن شاء اللَّه.
وقوله: (ولا يتمسح بيمينه) أي: لا يستنج بها؛ لما في رواية البخاري: (إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره ولا يستنجِ بيمينه)، كذا في الشروح، وقد ذكرنا كيفية الاستنجاء بالحجر في البول بحيث لا يلزم منه مس الذكر باليمين ولا الاستنجاء بها، وأما في الغائط فظاهر.
341 -
[8](أبو هريرة) قوله: (فليستنثر) أي: يستنشق، قد سبق شرحه في الحديث الخامس من الفصل الأول من (كتاب الطهارة)، (ومن استجمر) الاستجمار: استعمال الجمار وهو الأحجار الصغار، والمراد الاستنجاء، وظاهر الإيتار يشمل الواحد أيضًا، وحمل الشافعية على ثلاث أو خمس، والاستجمار: التبخر أيضًا من جمرة النار، وقد يحمل الحديث عليه، فإيتاره أن يأخذ من البخور ثلاث قطع أو ثلاث مرات، فلا يناسب الباب ولا يناسب أيضًا سياق الحديث، ويجيء الكلام فيه في الفصل الأول
(1) أو لعل علة النهي تغير البرودة بحرارة النفس، كذا في "التقرير".
342 -
[9] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 150، 500، م: 271].
ــ
من (باب الترجل) من (كتاب اللباس).
342 -
[9](أنس) قوله: (يدخل الخلاء) وفي بعض الشروح: قال الشيخ (1): المراد بالخلاء ههنا الفضاء؛ لما في رواية أخرى: كان إذا خرج لحاجته، ولقرينة حمل العنزة مع الماء، وأيضًا الأخلية التي في البيوت كانت خدمته فيها متعلقة بأهله، والمراد بالغلام هو ابن مسعود (2)، لأنه كان صاحب الإداوة والنعلين والسواك يحملها، و (الإداوة) بالكسر: إناء صغير من جلد يتخذ للماء ليتطهر بها، و (العنزة) بفتحات: قدر نصف الرمح أو أكبر شيئًا فيها سنان كسنان الرمح، والعنزة قريب منها، وكان يحمل معه صلى الله عليه وسلم لسترته في الصلاة، وقيل: لدفع الضرر لو احتاج، ولنبش الأرض الصلبة لئلا يرتد البول، وقيل: لركزها بجنبه ليكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه.
وقوله: (ويستنجي بالماء) أي: بعد التنقية بالحجارة، وذلك مستحب (3) عندنا كما يأتي في الفصل الثالث من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، وقيل: هو سنة في زماننا لما روى البيهقي في (سننه) وابن أبي شيبة في (مصنفه)(4) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من قبلكم كانوا يبعرون بعرًا وأنتم تثلطون ثلطًا فأتبعوا الحجارة الماء.
(1) انظر: "فتح الباري"(1/ 252).
(2)
قال القاري: وَقِيلَ: بِلَالٌ، أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ. "مرقاة المفاتيح"(1/ 378).
(3)
انظر: "بذل المجهود"(1/ 307).
(4)
"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 106، رقم: 529)، و"مصنف ابن أبي شيبة"(1634).