الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
587 -
[1] عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ. . . . .
ــ
بتأخيرها لاجتماع الناس، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فإبراد الظهر وإسفار الفجر وتأخير العشاء مستحب، وستعرف في أثناء البيان تفاصيلها ودلائلها.
ثم الظاهر من كلام بعضهم أنه يكفي كونَها في أول الوقت وقوعُها في النصف الأول.
الفصل الأول
587 -
[1](سيار بن سلامة) قوله: (عن سيار) بتقديم السين على الياء بالتشديد (ابن سلامة) بفتح السين وتخفيف اللام، بصري من مشاهير التابعين.
وقوله: (كان يصلي الهجير) في (القاموس)(1): الهجير والهجيرة والهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من زوالها إلى العصر؛ لأن الناس يَسْتكِنُّونَ في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا، أو شدة الحر، والمراد به في الحديث صلاة الظهر، أو المضاف محذوف ولذا أنث صفتها، وتسميتُها بالأولى لكونها أول صلاة صليت مع جبرئيل بالإمامة.
وقوله: و (تدحض) من الدحض وهو الزلة، في (القاموس) (2): دَحَضَتْ رجلُه: [زَلَقَتْ]، والشمسُ: زالت، وهو أول وقت الظهر، ولابد أن يكون في غير الصيف
(1)"القاموس المحيط"(ص: 460).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 592).
وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَن يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ،
ــ
وشدة الحر للأمر بالإبراد فيه مع التأكيد والمبالغة فيكون الإبراد فيه أفضل، وهذا هو مذهب أبي حنيفة.
وقوله: (حية) قال التُّورِبِشْتِي (1): يتأول ذلك على وجهين، أحدهما: أنه أراد بحياتها شدة وهجها [وبقاء حرها]، والآخر: أنه أراد به صفاء لونها عن [التغير و] الاصفرار، وهذا أقرب التأويلين، انتهى.
قيل: ذلك لا يكون بعد مصير الظل مثليه، وذلك محل كلام وتردد.
وقوله: (ونسيت ما قال في المغرب) هذا قول الراوي من أبي برزة، وفاعل (قال) أبو برزة، وبدل على أنه كان قد قال فيها أيضًا شيئًا، ولكنه نسي خصوصه، ويحتمل أنه لم يقل فيها شيئًا لعدم اختلاف وتطريق التقديم والتأخير في وقتها، ومقصوده: كان بيان أول الوقت فيما يتساهل الناس فيه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وكان يستحب) بصيغة المعلوم وكذا (يؤخر)، والمراد: التأخير إلى وقت الاختيار وهو الثلث عندنا وسيأتي.
وقوله: (التي تدعونها العتمة) عتم الليل: أظلم، وفي (القاموس) (2): العتمة محركة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق أو وقت صلاة العشاء الأخيرة. يريد أولها، وفي قوله:(تدعونها) إيماء إلى كراهة تسميتها بالعتمة في الشرع، وقد ورد النهي عنه، ومع ذلك وقع في بعض الأحاديث إما باعتبار السابق أو بيانًا للجواز، وسيجيء ذلك بالتفصيل (3).
(1)"كتاب الميسر"(1/ 181).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1046).
(3)
عند شرح الحديث (632).
وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَيَقْرَأُ بِالسِتِّينَ إِلَى الْمِئَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا يُبَالِي بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 547، م: 647].
ــ
وقوله: (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) وقد تنقل الرخصة فيهما لعذر أو غلبة، وفي (صحيح البخاري) (1): أن ابن عمر لا يبالي أَقَدَّمَهَا أم أَخَّرَهَا إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقد كان يرقد قبلها، وقد أورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (2): أعتمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس، واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا، وقد جاء في التكلُّم أيضًا -بعدَ أن لا يكون مما لا يعني- رخصة.
وقوله: (وكان ينفتل) أي: ينصرف، في (القاموس) (3): فتله: لواه، ووجْهَه عنهم صرفه.
وقوله: (حين يعرف الرجل جليسه) المقصود أنه كان يبديه في الغلس.
وقوله: (ويقرأ بالستين إلى الْمِئَة) أي: كان يقرأ في صلاة الفجر ستين آية وما فوقها منتهيًا إلى المئة.
وقوله: (ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل) أي: كان لا يحافظ على أول وقتها، ولا يبالي ولا يتحرج بتأخيرها إلى ثلث الليل لكونه مستحبًّا عنده، فافهم.
وقوله: (ولا يحب النوم) ظاهره أعمّ من الكراهة أو كناية عنها.
(1)"صحيح البخاري"(570).
(2)
"صحيح البخاري"(571)، و"سنن النسائي"(531).
(3)
"القاموس المحيط"(ص: 959).
588 -
[2] وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ، وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ بِغَلَسٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 565، م: 646].
ــ
588 -
[2](محمد بن عمرو) قوله: (والعصر والشمس حية) قد مر في الحديث الأول أنها كانت حية بعد أن يرجع أحدنا إلى رحله، فيفهم منه أن حياة الشمس لا يختص بأول الوقت، فافهم.
وقوله: (إذا وجبت) أي: سقطت، يقال: وجبت الشمس وجبًا ووجوبًا: غابت.
وقوله: (وإذا كثر الناس عجل، وإذا قلوا أخر) يدل على أن التأخير كان لقصد تكثير الجماعة، وقد قيل: إن أبا حنيفة وأصحابه إنما لم يلتزموا أول الوقت للصلاة لأجل هذا لا لعدم فضيلته، فتدبر. والجملتان في موضع الحال، أي: صلى العشاء معجلًا حين كثرة الناس ومؤخِّرًا حين قلَّتهم.
وقوله: (والصبح بغلس) في (القاموس)(1): الغلس محركة: ظلمة آخر الليل، وقد جاء في رواية:(وصلى الصبح بغبس) بالباء، وقال القاضي عياض: اختلفت فيه الروايات فرويناه في (الموطأ) عن أبي محمد بن عتاب بالسين المهملة، وكذا رواه ابن وضاح، وعن غيره من شيوخنا بالمعجمة، وكذا يقوله أكثر [رواة الموطأ]، وضبطه الأصيلي في البخاري بالمهملة في حديث يحيى بن موسى، وفسره مالك قال: يعني الغلس، وغبس وغبش وغلس سواء، وأنكر شارح (الموطأ) السين المهملة ولم يقل شيئًا، وقد جاءت حروف كثيرة بالسين والشين معًا مثل شمته وسمته، وسُدْفَة من الليل وشُدْفَة، وسوذق وشوذق، وقال أبو عبيدة: غبس الليلُ وأغبس: إذا أظلم.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 519).
589 -
[3] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالظَّهَائِرِ سَجَدْنَا عَلَى ثِيَابِنَا اتَّقَاءَ الْحَرِّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ. [خ: 542، م: 620].
590 -
[4] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ".
591 -
[5] وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: "بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شدَّةَ الْحَرِّ. . . . . .
ــ
وقال الأزهري: هي بقية ظلمة الليل يخالطها بياض الفجر، قال: والغبش بالمعجمة قبل الغبس، والغلس باللام بعد الغبس، وهي كلّها في آخر الليل، ويجوز الغبش بالمعجمة في أول الليل، انتهى.
ثم لا يخفى أن الحديث لا يدلّ على الدوام؛ لمَا عرفت من أن دلالة (كان) عليه منظور فيه، ولو سلِّم فقد ورد الأمر بالإسفار، والقولُ راجح على الفعل عند أبي حنيفة رحمة اللَّه عليه.
589 -
[3](أنس) قوله: (بالظهائر) جمع ظهيرة وهي الهاجرة، جمعها باعتبار الأيام أو باعتبار الأشخاص.
وقوله: (على ثيابنا) الظاهر: الثياب الملبوسة، فالحديث يدل على جواز السجدة على ثوب المصلي كما ذهب إليه أبو حنيفة رحمة اللَّه عليه، فهو حجة على الشافعي رحمة اللَّه عليه في عدم تجويزه السجود على ثوب هو لابسه، وأوَّلَ الحديث بأن المراد ههنا الثوب الغير الملبوس.
590، 591 - [4، 5](أبو هريرة، وأبو سعيد) قوله: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) فيه ندب الإبراد بالظهر في شدة الحرّ، لكنهم اختلفوا في المراد بالإبراد، فقال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بعض الناس: المراد بالإبراد بالظهر أداؤها في أول الوقت، وبرد النهار أوله، وهذا التأويل ليس بصواب؛ لأن الإبراد في الأحاديث ذكر لبيان ما اختاره صلى الله عليه وسلم من الوقت الأخير في أوان الحر، ويبطله تعليله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:(فإن شدة الحر من فيح جهنم)، وما سبق في باب المواقيت من قول الراوي:(فأنعم) أي: زاد على الإبراد وبالغ فيه، وبهذا يبطل أيضًا ما ذكره الشافعية أن المراد بالإبراد الصلاة وقت الزوال، وأنه ينكسر فيه وهج الحر فهو برد بالإضافة إلى حر الظهيرة، وعن ابن مسعود (1) قال: كان قدر صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: كان الفيء ذراعًا ونصفًا إلى ذراعين، وكان الجدران في ذلك الزمان سبعة أذرع، كذا قيل.
وعند مالك رحمه الله: إلى أن يزيد ظل كل شيء ربعه، وقال أئمة مذهب أحمد: يؤخر حتى ينكسر الحر ولا يؤخر إلى آخر الوقت، وقال بعضهم: يؤخر إلى وقوع الظل الذي يمشي فيه الساعي إلى الجماعة، وقال بعضهم: يؤخر إلى قريب من وسط الوقت.
وفي (صحيح البخاري)(2): (فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة حتى رأينا فيء التلول)، أي: أبردنا وانتظرنا حتى رأينا الظلال، والتلولُ لكونها منبسطة غير منتصبة لا يظهر فيها عقيب الزوال، بل لا يصير لها في عادة إلا بعد الزوال بكثير، بخلاف الشاخصات المرتفعة كالمنارة مثلًا، وقال أيضًا: الإبراد أن يؤخر بحيث يحصل للحيطان ظل يمشون فيه ويتناقص الحر، وخصه بعضهم بالبلاد الحارة، وخصه بعضهم بالجماعة.
(1) أخرجه النسائي (503).
(2)
"صحيح البخاري"(535).
مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: . . . . .
ــ
وقال في (الهداية)(1): أشد الحر في تلك الديار في وقت بلوغ ظل كل شيء مثله كما مر.
وبالجملة المبالغة في إبراد الظهر وارد في الأحاديث الصحيحة، وأما حديث خباب:(شكونا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يُشْكِنا) أي: لم يُزِلْ شكوانا، فمحمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإبراد، وقيل: إنهم التمسوا تأخير الصلاة عن الوقت، كذا قال الكرماني (2)، وقال بعض الشافعية: الإبراد رخصة، وعلى كل تقدير لا يجوز حمل الإبراد على الزوال، وكون وقت الزوال أبردَ من الاستواء محلُّ بحث، بل هو أشد منه لبقاء السبب كما في الإبراد وقت الفجر من نصف الليل، وإن كانت الشمس أقرب، ويرده سياق الحديث في الرخصة.
ونقل عن الشافعي أنه قال: الإبراد لصلاة الظهر لمن ينتابُ من البعد وللمشقة على الناس، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه [فالذي] أُحب له أن لا يؤخر الصلاة في شدة الحر، وهو أيضًا مخالف بظاهر الحديث عن أبي ذر:(كنا مع رسول اللَّه في سفر، فأذن بلال لصلاة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال أبرد ثم أبرد)، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنًى؛ لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد، كذا في (جامع الترمذي)(3)، وقال: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتِّباع.
وقوله: (من فيح جهنم) فاحت القدر تفيح وتفوح: إذا غلت، وفيح جهنم وفوحها
(1)"الهداية"(1/ 40).
(2)
"شرح الكرماني"(4/ 187).
(3)
انظر: "سنن الترمذي"(158).
رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ. . . . .
ــ
بالياء والواو وبالحاء المهملة: سطوع حرها وانتشارها، ويجيء بمعنى الوسعة، والفيحاء: الواسعة من الدور، والاشتكاء من النار حقيقةٌ أو مجاز، والظاهر هو الأول، فإن اللَّه تعالى قادر على أن يخلق فيها كلامًا تشتكي به عند ربها، وقال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر، والأول أرجح، وقال عياض: وهو الأظهر، وقال النووي: هو الصواب.
وقوله: (أكل بعضي بعضًا) كناية عن اختلاط أجزائها وازدحامها كأنه يقصد كلُّ جزء في إفناء الآخر والتمكن في مكانه، والمراد بنفَسها لهبها وخروج ما يبرز منها كالتنفس في الحيوان.
وقوله: (نفس) بالجر والرفع، وكذا قوله:(أشد) يجوز فيه الرفع والجرُّ على البدل. وقال التُّورِبِشْتِي (1): روايتنا بالرفع إما خبرُ محذوفٍ، أي: هو أشد، أو خبره محذوف تقديره: أشدُّ ما تجدون من ذلك النفس، ويؤيده الرواية الأخرى للبخاري ورواية النسائي:(فأشد ما تجدون من الحر من حر جهنم)، ويؤيد الأول رواية الإسماعيلي:(فهو أشد)، كذا قال الشيخ (2).
والمراد بالزمهرير شدة البرد، فإن قيل: كيف يحصل من نَفَس النار الزمهرير؟
قلت: المراد من النار محلها وهو جهنم، وفيها طبقة زمهريرية. ثم الحكمة في
(1) كذا في المخطوطة، ولم نجد في "كتاب الميسر"، وقال في "الفتح" (2/ 19): في روايتنا بالرفع.
(2)
"فتح الباري"(2/ 19).
فَمِنْ سَمُومِهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجدُونَ مِنَ الْبَرْدِ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا". [خ: 533، 536، 537، 538، م: 615، 617].
592 -
[6] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ،
ــ
المنع من الصلاة في شدة الحر، إما دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع، وقيل: كونها الحالة التي ينشر فيها العذاب، والأول أظهر؛ لأن الصلاة محل وجود الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب فكيف أمر بتركها؟ وقد يؤيَّد الثاني بحديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له:(أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجَّر فيها جهنم)، فافهم.
وقد يتوهم من قضية التعليل المذكور مشروعية تأخير الصلاة في وقت شدة البرد أيضًا ولم يقل به أحد، لأنها تكون غالبًا في وقت الصبح فلا يزول إلا بطلوع الشمس، فلو أخرت لخرج الوقت.
هذا وقال التُّورِبِشْتِي (1): أشار بقوله: (أشد) إلى أن هذين النفسين ليسا على الإطلاق بموجِبَين للحر والبرد في فصل الشتاء والصيف، فإن اللَّه جعل ذلك مربوطًا بالآثار العلوية، وهذه من مقتضيات حكمة اللَّه البالغة؛ حيث أظهر آثار فيح جهنم في زمان الحر، وآثار الزمهرير في زمان البرد، ولم يجعلهما على العكس، فيتولد منهما وخامة في الأهوية وفساد في الأمزجة.
وقوله: (فمن سمومها) في (القاموس)(2): السَّموم الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار.
592 -
[6](أنس) قوله: (إلى العوالي) جمع عالية، وهي المواضع في جانب
(1)"كتاب الميسر"(1/ 182).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 1036).
وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 555، م: 621].
593 -
[7] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ: يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتْ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا. . . . .
ــ
علو المدينة في جانب مسجد قباء ومسجد بني قريظة.
وقوله: (وبعض العوالي. . . إلخ) مدرج من كلام الزهري.
وقوله: (أو نحوه) أي: نحو هذا المقدار ولهذا ذكَّر الضمير، ولا يخفى أنه لا يُدرى أن الذهاب كان راكبًا أو ماشيًا، وعلى تقدير المشي: بالسرعة أو البطؤ، وحال الذاهب في القوة أو الضعف، ولا يظهر أيضًا بأيِّ ناحية من العوالي كان الذهاب، وبالجملة لا يثبت به أن يصلي العصر وقت بقاء ربع النهار كما هو مذهبهم.
593 -
[7](أنس) قوله: (تلك صلاة المنافق) إشارة إلى ما في الذهن، وهي العصر المؤخَّرة عن أول وقتها إلى قبيل الغروب عمدًا بلا عذر.
وقوله: (يجلس. . . إلخ) استئناف لبيان الجملة السابقة، والمنافق إما محمول على حقيقته بأن يكون بيانًا لصلاته، أو يكون تغليظًا، والمراد مَن هو على صفة المنافق.
وقوله: (فنقر أربعا) في (القاموس): نقر الطائر: لقط من ههنا وههنا (1)، شبه به تخفيف السجدة من غير طمأنينة، وإطلاق الأربع باعتبار جعل السجدتين ركنًا واحدًا بإرادة الجنس، أو كان وروده في السفر، أو حين كان صلاة العصر ركعتين قبل الزيادة، أو لمَّا كان لم يفصِل بين السجدتين فكأنهما سجدة واحدة، واللَّه أعلم.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 452).
لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 622].
594 -
[8] وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 552، م: 626].
ــ
ثم تخصيص البيان بالعصر إما لكونها في وقت اشتغال الناس بيانًا للباعث على التهاون أو لفضلها مبالغة في التقبيح والتشديد.
وقوله: (لا يذكر اللَّه فيها إلا قليلًا) إشارة إلى التهاون والتقصير في الأركان الظاهرة وخشوع الباطن، وإنما قال:(قليلًا) إذ المنافق والمرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأنه يذكر باللسان دون القلب وهو قليل بالنسبة إليه، وقد وقع في القرآن المجيد في شأن المنافقين:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] بهذا الاعتبار.
594 -
[8](ابن عمر) قوله: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) في (القاموس)(1): وَتَر الرجلَ: أفزعه وأدركه بمكروه، ووتره مالَه: نقصه إياه، وفي (الصحاح) (2): وتره حقه، أي: نقصه، ومنه قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] أي: لن ينقصكم، وقال البيضاوي (3): أي: لن يضيع أعمالكم، من وترتُ الرجلَ: إذا قتلتُ متعلقًا به من قريب أو حميم فأفردته منه، من الوِتر، ويروى بنصب (أهله) ورفعه، فعلى الأول في (وتر) ضمير للذي تفوته، وعلى الثاني لا ضمير فيه، بل الفعل مسند إلى (أهله)، والظاهر على ما ذكر في معناه هو الأول كما لا يخفى.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 456).
(2)
"الصحاح"(2/ 843).
(3)
"تفسير البيضاوي"(2/ 406).
595 -
[9] وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 533، 594].
ــ
وقال الشيخ (1): النصب هو المشهور عند الجمهور على أنه مفعول ثان، والمعنى: أصيب بأهله وماله، وقال القرطبي (2): يروى بالنصب على أن (وُتر) بمعنى سُلب، وهو يتعدى إلى مفعولين، وبالرفع على أن (وُتر) بمعنى أُخذ، انتهى.
والمعنى: أن التقصير في صلاة العصر مصيبة عظيمة في نقص الدين كوتر الأهل والمال في الدنيا، وذلك تنبيه على زيادة فضيلة صلاة العصر، فينبغي أن لا تُترك بحال، وقد يلحق بها سائر الصلوات، والكلام في اشتراك العلة، نعم قد يروى: من ترك صلاة مكتوبة حتى تفوته، ويروى: من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله وماله، فالظاهر العموم وقد خصه الشيخ، وقيل في معناه: أي: بشؤم ترك الصلاة يهلك أهله وماله.
595 -
[9](بريدة) قوله: (من ترك صلاة العصر) وزاد معمر في روايته: (متعمدًا) كذا قال الشيخ (3).
وقوله: (فقد حبط عمله) في (القاموس)(4): حبط عمله كسمع وضرب حَبْطًا وحُبوطًا: بطل، وهذا تغليظٌ وتشديد، والمراد المبالغة في نقصان الثواب، وحقيقة الحبط إنما هو بالردة إذا مات على ذلك، واستدل بهذا الحديث من يقول بتكفير العاصي من الخوارج؛ لأنه نظير قوله تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]. وقال الشيخ (5): قال ابن عبد البر: مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله
(1)"فتح الباري"(2/ 30).
(2)
"المفهم"(2/ 251).
(3)
"فتح الباري"(2/ 32).
(4)
"القاموس المحيط"(ص: 609).
(5)
"فتح الباري"(2/ 32).
596 -
[10] وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَنْصَرِف أَحَدنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 559، م: 637].
597 -
[11] وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 864، م: 638].
ــ
فيتعارض مفهومها [ومنطوق الحديث]، انتهى.
والكلام يرجع إلى تحقيق معنى الإيمان وأن العمل داخل فيه أم لا، وقد حقق في موضعه، نعم قد ذهب الإمام أحمد إلى أن تارك الصلاة عامدًا كافر، وقد مر الاختلاف فيه، وقيل: المراد بالعمل عمل الدنيا الذي بسبب الاشتغال به ترك الصلاة، أي: لا يَتمتَّع به، وفي إيراد الحديثين في هذا الباب رمز خفي إلى [أن] التأخير عن الوقت المستحب في حكم التفويت، أو الإشارة إلى أنه لما كانت فضيلتها في هذه الدرجة فينبغي أن تعجل لئلا تفوت لشغل شاغل عنها.
596 -
[10](رافع بن خديج) قوله: (مواقع نبله) النبل بفتح النون وسكون الموحدة: السهام، كذا في (القاموس)(1)، وفي بعض الشروح: وهي السهام العربية، وفي (الصحاح) (2): هو مؤنثة ولا واحد لها من لفظها، وقيل: هو واحد وجمعها نبال وأنبال ونبلان، انتهى. أي: ينظر إلى مواضع وقوع سهمه بعد الرمي به لا النبل، والمراد بيان التعجيل لصلاة المغرب وهو مستحب بالاتفاق.
597 -
[11](عائشة رضي الله عنها) قوله: (فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل) أي:
(1)"القاموس المحيط"(ص: 978).
(2)
"الصحاح"(5/ 1823).
598 -
[12] وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 867، م: 645].
599 -
[13] وَعَنْ قَتَادَةَ عَن أَنَسٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى. . . . .
ــ
كانوا يصلون في أجزاء الوقت الذي بين مغيب الشفق وثلث الليل، فكان مبدؤها مغيب الشفق ومنتهاها ثلث الليل، فافهم.
598 -
[12](عائشة رضي الله عنها) قوله: (متلفعات) أي: ساترات وجوههن وأبدانهن، والتلفع شد اللفاع، وهو بالكسر: الملحفة والكساء أو البرد أو كل ما تتلفع به المرأة، والمرط كساء من خز أو صوف، وعرف معنى الغلس، وقيَّد التلفع بأنه لو كانت الوجوه والأبدان مكشوفة لعرفن بها في ذلك الغلس الذي كان في ذلك الوقت، وقد يعرفن بمشخِّصات أخر، وكان الغلس بحيث لا يعرفن بها، فافهم.
هذا ويحتمل أن يكون المراد: لا يتميزن من الرجال للتلفع والغلس، والأول هو الوجه، قال الشيخ (1): ولا معارضة بين هذا الحديث وحديث أبي برزة أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه؛ لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعة عن بعد، وذلك إخبار عن رؤية الجليس عن قرب.
599 -
[13](قتادة) قوله: (من سحورهما) ضبط بضم السين وفتحها، وقالوا: هو بالضم اسم للفعل المخصوص، وبالفتح للمأكول وقت السحر.
وقوله: (فصلى) أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات:(فصلَّيا)، وهو موافق
(1)"فتح الباري"(2/ 55).
قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 567].
600 -
[14] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ. . . . .
ــ
لقوله: (ودخولهما)، وفي بعضها:(فصلينا) بلفظ المتكلم كما في حديث زيد بن ثابت: أنهم تسحروا مع رسول اللَّه ثم قاموا إلى الصلاة.
وقوله: (قال: قدر) ضبط بالنصب على أنه خبر كان المقدر، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقوله: (خمسين آية) وفي حديث آخر للبخاري: (خمسين أو ستين)، وهو تخمين يتعسر للعامة الأخذ به، وعلى كل تقدير المراد الآيات المتوسطةُ لا طويلةً ولا قصيرةً، ولا قراءة سريعة ولا بطيئة، ولا يخفى أن التوسط له مقادير ومراتب كثيرة، فيتعسر الأخذ بها، فالأحفظ لهم أن يتعجلوا بمقدار، ولا يدل هذا الحديث على أداء فرض الفجر في الغلس جدًا بالذهاب إلى المسجد وأداء ركعتي السنة، فافهم.
600 -
[14](أبو ذر) قوله: (كيف أنت) أي: كيف حالك.
وقوله: (إذا كانت عليك الأمراء) أي: مسلطين ومستولين عليك بحيث لا يسعك مخالفتهم، قالوا: المراد أمراء بني أمية، وهم الذين أحدثوا التهاون في أوقات الصلاة ورعاية سننها وواجباتها كالتعديل والطمأنينة، قال في (سفر السعادة) (1): أول من تساهل في القومة والجلسة أمراء بني أمية. واعلم أنه مات أبو ذر سنة اثنين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان بالشام في إمارة معاوية من قبل عثمان، فدعاه عثمان رضي الله عنه إلى
(1)"سفر السعادة"(ص: 36).
أَوْ يُؤَخِّرُونَ عَنْ وَقْتِهَا؟ " قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نافِلَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 238].
601 -
[15] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. [خ: 579، م: 608].
ــ
المدينة وله قصة، فيحمل تحذير أبي ذر عن ذلك على تقدير الفرض والتقدير، أو كان المراد إمارتهم من قِبَلِ الخليفة، واللَّه أعلم.
وقوله: (أو يؤخرونها)(أو) لشك الراوي، ويحتمل أن يكون للتنويع، والمراد تأخيرها عن وقتها المختار.
وقوله: (نافلة) بالرفع، وفي بعض النسخ بالنصب إما خبرُ كان محذوفٍ أو حال من الضمير في الظرف، ثم الحديث يفيد بإطلاقه جواز التنفل بعد الفجر والعصر، وصحة كون النفل ثلاث ركعات، وفيه كلام سيأتي في موضعه، فتقيد بما سوى هذه الثلاثة على أن ارتكاب هذا المكروه أهون من إثارة الفتنة التي تلزم من مخالفتهم.
601 -
[15](أبو هريرة) قوله: (فقد أدرك الصبح) يعني: إذا صلى ركعة أخرى كملت صلاته؛ لأن من البيّن أنه لا يدرك الصلاة بأداء ركعة واحدة، وقد جاء في رواية البيهقي:(من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس وركعة بعد ما تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة)، وقد جاء في رواية البخاري:(من أدرك من العصر ركعة فلتيم صلاته)، كذا قال الشيخ (1)، والحديث يدل على أن من طلعت عليه الشمس وهو في
(1)"فتح الباري"(2/ 56).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صلاة الصبح أو غربت وهو في صلاة العصر، لا تبطل صلاته، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن صلاة الصبح تفسد بطلوع الشمس، وصلاة العصر لا تبطل بغروب الشمس، وفرقوا بينهما بأن وقت الفجر كله كامل فإذا شرع فيها وجبت كاملة، فإذا طرأ النقصان لم يؤد كما وجب، بخلاف العصر فإن آخر وقته ناقص لأنه وقت كراهة، فإذا شرع فيها فقد وجب ناقصة، فإذا طرأ النقصان بالغروب فقد أدى كما وجب، وهذا إذا شرع في الوقت الناقص ظاهر، وأما إن شرع قبله فلأن للإنسان أن يستوعب وقت الصلاة لها فلا يمكن الاحتراز عنه.
وهذا الحديث وارد عليهم، والجواب: أنه قد وقع التعارض بين هذا الحديث وبين الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، فإنها تعم الفرض والنفل، وليست مخصوصة بالنفل كما زعمت الشافعية، وحكم التعارض بين الحديثين الرجوع إلى القياس، والقياس رجح حكم هذا الحديث في صلاة العصر، وحكمَ النهي في صلاة الفجر كما ذكرنا، وليست الأحاديث في النهي عن الثلاثة مخصوصة بالنفل كالنهي عن الصلاة بعد الفجر والعصر، كما زعمت الشافعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها) أي: أوله، وبه يوفقون بين هذا الحديث وتلك الأحاديث؛ لأن التخصيص خلاف الظاهر، وظاهر الأحاديث النهي عن الفرائض والنوافل، وأيضًا لو كانت مخصوصة بالنفل لجاز قضاء الفوائت فيها ولا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر ليلة التعريس انتظر في قضائها إلى أن ارتفعت الشمس، فلو جاز قضاء المكتوبة حال طلوع الشمس لما أخر بعد الانتباه، كذا قيل.
وقال السُّغْناقي (1): والآثار المروية في النهي عامة في جنس الصلاة. وقال بعض
(1) هو الحسين بن علي بن الحجاج بن علي، حسام الدين السغناقي، فقيه حنفي، المتوفى: =
602 -
[16] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْح قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 556].
ــ
أصحابنا: أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث وكان وروده قبل النهي، ومقتضاه أن يبطل العصر أيضًا لكنا عللناه بما ذكرنا فجوزنا في العصر هذا، وقد روي عن أبي يوسف أن الفجر لا يفسد بطلوع الشمس ولكنه يصبر حتى إذا ارتفعت الشمس أتم صلاته، فكأنه استحسن هذا ليكون مؤديًا بعض الصلاة في الوقت، ولو أفسدها كان مؤديًا جميع الصلاة خارج الوقت، وأداء بعض الصلاة في الوقت أولى من أدائه الكل خارج الوقت، كذا ذكر السغناقي نقلًا عن (المبسوط)، واللَّه أعلم.
ثم قد أخذت الشافعية من الحديث المذكور أنه إذا بلغ الصبي أو طهرت الحائض أو أسلم الكافر وأدرك مقدار ركعة من الوقت وجبت عليه هذه الصلاة، وفي إدراك مقدار تكبيرةٍ قولان من الشافعي كما هو مذهبنا، وخصه الطحاوي من أصحابنا بهذه الصورة، وقال: المراد بإدراك الصبح هذا المعنى نصرةً لمذهب أبي حنيفة وأصحابه، لكن الروايات التي جاءت في أن المراد إتمامها بأداء ركعة أخرى كما ذكرنا يأباه، فتدبر.
602 -
[16](عنه) قوله: (إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر) الحديث، قال الخطابي: معناه: الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت بهذا المعنى سجدةً، وحكم [ما] دون الركعة كذلك، والحديث خارج
= 711 هـ، نسبته إلى سغناق بلدة في تركستان، له "النهاية في شرح الهداية"، انظر:"الأعلام" للزركلي (2/ 247).
603 -
[17] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا". وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا كَفَّارَة لَهَا إِلَّا ذَلِك". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 597، م: 684].
604 -
[18] وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ،
ــ
على الغالب، والصحيح أن الصلاة كلها أداء، وبعض الشافعية على أنه قضاء، وثمرة الخلاف تظهر في مسافر نوى القصر وصلى ركعة في الوقت، فإن قلنا أداء فله قصرها، أو قضاء فعليه إتمامها، كذا ذكره الكرماني (1).
603 -
[17](أنس) قوله: (فكفارتها) إشارة إلى كون فوات الصلاة خطيئة وإن لم يكن باختياره.
وقوله: (إذا ذكرها) لما كان الاستيقاظ مستسبقًا لذكرها، وإنما الصلاة إذا ذكرها بعد الاستيقاظ، اكتفى بالذكر، وهو في الظاهر مقابل النسيان، ولم يذكر بعده: واستيقظ، فافهم.
وقوله: (وفي رواية) يعني: زيادة على قوله: (فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) للتأكيد، ومعنى الحصر: عدم شرعية الفداء بالمال كما في الصوم.
604 -
[18](أبو قتادة) قوله: (ليس في النوم تفريط) وكذا في النسيان ولم يُذكر لأنه في معناه، ولهذا ذكره في التفريع.
وقوله: (إنما التفريط في اليقظة) أي: إنما يوجد التقصير في حال اليقظة بأن يفعل ما يؤدي إلى النوم أو النسيان كالاضطجاع عند غلبة الظن بالنوم، والاشتغال بما
(1)"شرح الكرماني"(4/ 220).