المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الثاني: - لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح - جـ ٢

[عبد الحق الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(3) كتاب الطهارة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌1 - باب ما يوجب الوضوء

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب آداب الخلاء

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب السواك

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب سنن الوضوء

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب الغسل

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌6 - باب مخالطة الجنب وما يباح له

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌7 - باب أحكام المياه

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلَ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌8 - باب تطهير النجاسات

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌9 - باب المسح على الخفين

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌10 - باب التيمم

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌11 - باب الغسل المسنون

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌12 - باب الحيض

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌13 - باب المستحاضة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌(4) كتاب الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌1 - باب المواقيت

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب تعجيل الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب فضائل الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب الأذان

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌6 - باب فيه فصلان

- ‌ الْفَصْل الأَوَّل:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌7 - باب المساجد ومواضع الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌8 - باب الستر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌9 - باب السترة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌10 - باب صفة الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌11 - باب ما يقرأ بعد التكبير

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌12 - باب القراءة في الصلاة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

الفصل: ‌ الفصل الثاني:

فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 195، م: 2345].

*‌

‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

477 -

[4] عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنَ الأَرْضِ. . . . .

ــ

كذا في (القاموس)(1)، وفي بعض الشروح: وَجِع، أي: متألم، وقيل: مريض.

وقوله: (فشربت من وضوئه) بالفتح، والمراد بقية الماء الذي توضأ منه، وعليه الأكثرون في حديث: كانوا يقاتلون -أي: يزاحمون ويختصمون- على وضوء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى أن المراد من انفصل من أعضاء وضوئه، وقال بعض الشافعية: ففيه حجة على من حكم بنجاسة الماء المستعمل، وله أن يحمله على التداوي، وهو جائز كصرف النجاسة، كذا قالوا، والأولى أن يحمله على خصائصه صلى الله عليه وسلم ليشمل مقاتلة الصحابة على وضوئه صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا هو الحق، وكيف يحكم بنجاسة ما صادف ببشرته الشريفة، ومن ثم اختار كثير من العلماء طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (مثل زر الحجلة): (زر) واحد الأزرار، و (الحجلة) بالحاء والجيم المفتوحتين: بيت كالقبة لها أزرار كبار، وما قيل: إنها الطائر المعروف وإن زرَّها بيضُها قد أنكره بعض العلماء، فإن الزر بمعنى البيضة لم يوجد في كلام العرب، وجاء في رواية كبيضة الحمام، ويتم الكلام فيه إن شاء اللَّه تعالى في موضعه من (باب فضائل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم).

الفصل الثاني

477 -

[4](ابن عمر) قوله: (في الفلاة من الأرض) في (القاموس)(2): الفلاة:

(1)"القاموس المحيط"(ص: 710).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 1214).

ص: 199

وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ:"إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ". . . . .

ــ

المفازة لا ماء فيها، أو الصحراء الواسعة.

وقوله: (وما ينوبه) عطف على (الماء)، أي: سئل عن الماء والدواب والسباع المترددة إليه نوبة بعد نوبة، وحاصله، أي: ما حال الماء الذي تنوبه الدواب والسباع، أي: يشرب منه ويبول ويلقي الروث فيه.

وقوله: (إذا كان الماء قلتين) وفي رواية: إذا بلغ الماء قلتين، القلة: بضم القاف وتشديد اللام بمعنى الجرة العظيمة، أي: الكوز الكبير الذي يجعل فيه الماء، وتسميتها بالقلة إما من جهة علوها وارتفاعها، أو لأن الرجل العظيم يرفعها، والقلة اسم لكل مرتفع، ومنه قلة الجبل، وجمع القلة قِلال بكسر القاف، والمراد ههنا قلال هجر بفتحتين كما جاء صريحًا في بعض روايات هذا الحديث، وأيضًا كان هو المعروف في ذلك الزمان، فالظاهر وقوع التحديد به.

وهجر اسم قرية قرب المدينة ينسب إليها القلال، وأيضًا اسم بلد من بلاد اليمن، ويحتمل النسبة إليه، كذا في (القاموس)(1)، والظاهر هو الأول.

ومقدار القلة على المشهور قربتان ونصف، وعند البعض قربتان، وقال ابن جريج: رأيت قلال هجر كان كل قلة منها قربتين أو قربتين وشيئًا، وقال الشافعي رحمه الله: كان ذلك الشيء مبهمًا فأخذناه نصفًا احتياطًا، فكانت القلتان خمس قرب، والقربة خمسون منًّا من الماء، فكانت القلتان مئتين وخمسين منًّا، وقيل: مقدار القربة مئة رطل عراقي، والرطل العراقي مئة وثمان وعشرون درهمًا.

وقوله: (لم يحمل الخبث) أي: لم يقبله بل يدفعه، وجاء في رواية لأبي داود:

(1)"القاموس المحيط"(ص: 968، 461).

ص: 200

رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ والدَّارِمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ". [حم: 2/ 27، د: 63، ت: 67، ن: 52، دي: 1/ 187، جه: 517، 518].

ــ

فإنه لا ينجس، وهذه الرواية إن صحت دلت على أن تأويل (لم يحمل خبثًا) بأنه لا يحتمله ولا يطيق حمله لضعفه بل ينجس كما قال بعض أصحابنا الحنفية غير صحيح، قيل: وأيضًا تعليق هذا المعنى بشرط كونه قلتين بعيد، وقد توجه أن البلوغ تارة يعتبر من جانب القلة إلى جاصب الكثرة وأخرى من الكثرة إلى القلة، والمراد ههنا الثاني، فافهم.

ومذهب الشافعي وأحمد: وإذا كان الماء مقدار قلتين لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير لونُه أو طعمُه أو ريحُه، لكن عند أحمد إن كانت النجاسة بولًا أو عذرة مائعة ينجس، إلا أن يكون الماء مثل المصانع التي بطريق مكة وما أشبهها من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها، فذلك الذي لا ينجسه شيء، كذا في (كتاب الخرقي)(1).

وقد اختلف في صحة هذا الحديث (2) مع أنه ذكره أئمة الحديث في كتبهم، وليس في "الصحيحين"، وقالوا: هذا الحديث مخالف لإجماع الصحابة كما سنبينه، وخبر

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 36 - 41).

(2)

قال الحافظ ابن القيم في "تهذيب السنن": إن الاحتجاج بحديث القلتين مبني على ثبوت عدة مقامات، وذكر هذه المقامات وهي خمسة عشر مقامًا، ثم ذكر الأجوبة عن المحددين بالقلتين وردها أبسط الرد، فارجع إليه لو شئث، وذكر المحدث الكنكوهي في "الكوكب الدري"(1/ 93) أن هذا الحديث لا يضر بمذهب الإمام الأعظم، وبسطه، فانظر إليه لو شئت، وكذلك ذكر شيخنا العلامة البنوري في "معارف السنن"(1/ 296) تحقيقًا أنيقًا نقلًا عن شيخه الإمام الكشميري، فارجع إليه لو شئت.

ص: 201

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الواحد إذا كان مخالفًا للإجماع لم يقبل، وقال علي بن المديني -وهو من أكابر أئمة الحديث، من شيوخ البخاري ومن أقران الإمام أحمد بن حنبل-: لم يثبت هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس لأحد من الفريقين في تقدير الماء وتحديده حديث صح عنه صلى الله عليه وسلم، وقال الزركشي (1): صححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ونقل عن الطحاوي خبر القلتين صحيح وإسناده ثابت وإنما تركناه لأنا لا نعلم ما القلتان، وقال الشيخ: إن القلة اسم مشترك يقال على الجرة والقربة ورأس الجبل، واللَّه أعلم.

ولما وقع الكلام في تقدير الماء وتحديده في التنجس وعدم التنجس ناسب أن نفصل الكلام في هذا المقام فنقول وباللَّه التوفيق: اعلم أن مذهب أصحاب الظواهر أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلًا، سواء كان جاريًا أو راكدًا، كثيرًا أو قليلًا، وسواء تغير لونه أو طعمه أو ريحه أو لم يتغير، وعامة العلماء على أنه إن كان قليلًا يتنجس وإن كان كثيرًا لا، ثم اختلفوا في حد الفاصل بين القليل والكثير، فقال مالك: فما تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وما لم يتغير فكثير، فهو قد جعل التغير وعدمه معيارًا للقلة والكثرة، وقال الشافعي -وهو مذهب أحمد-: إن كان الماء قلتين فهو كثير، ولا يحمل الخبث ولا يتنجس، وإلا فهو قليل يتنجس، وأصحابنا الحنفية رحمهم الله قالوا: إن كان الماء بحال لا يخلص ولا ينفصل بعضه عن بعض فهو كثير، وإلا فقليل.

واحتج أصحاب الظواهر بحديث بئر بضاعة الآتي من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، والجمهور يقولون: إن هذا القول وإن كان مطلقًا في الظاهر لكنه

(1)"شرح الزركشي على مختصر الخرقي"(1/ 8).

ص: 202

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مقيد بغير المتغير بدلالة الأحاديث الأخر، فقد روى أبو أمامة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:(الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه ولونه وطعمه)، ورواه ابن ماجه والدارقطني (1) ولفظه:(إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه)، وهذا هو دليل مالك رحمه الله، واحتج الشافعي وأحمد رحمهما اللَّه بحديث القلتين.

والدليل لأصحابنا على تنجس الماء قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده)، فإنه يدل على أن الماء يتنجس بوقوع النجاسة، وإلا لم يكن للنهي عن غمس اليد احتياطًا لتوهم النجاسة معنًى، وكذلك الأحاديث مستفيضة مشهورة في الأمر بغسل الظروف من ولوغ الكلب مع أنه لا يغير اللون والطعم والريح، وكذلك حديث:(لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) كما في الفصل الأول، ولا شك أن الماء الذي يمكن الاغتسال فيه قد يكون أكثر من قلتين ولا يغير البول لونه وطعمه وريحه، فعلم أن مجرد بلوغ الماء قلتين كما هو مذهب الشافعي، وعدم تغير اللون والطعم والريح كما هو مذهب مالك لا يكفي في عدم تنجس الماء، كذا قيل.

وقد ورد عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم أمروا بنزح كل الماء بوقوع الزنجي في بئر زمزم، ولم يظهر أثره في الماء، ولا شبهة في أنه كان أكثر من القلتين، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم يظهر عن أحد منهم الإنكار عليهم، فيكون حديث القلتين مخالفًا للإجماع، فلا يقبل.

ولما لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في تقدير الماء وتحديده رجع أصحابنا في

(1)"سنن ابن ماجه"(521)، و"سنن الدارقطني"(1/ 28).

ص: 203

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ذلك إلى الدلائل الحسية دون السمعية، وجعلوا معيار القلة والكثرة الخلوص، وقالوا: الغدير العظيم الذي في حكم الجاري هو الذي لا يخلص ولا ينفصل أجزاء بعضه عن بعض.

ثم اختلفوا في تفسير الخلوص، ففي أكثر الروايات يعتبر الخلوص بالتحريك، يعني يكون بحيث لا يتحرك طرفه عند تحريك الآخر، بأن لا ينخفض ويرتفع من ساعته، كذا قال الشُّمُنِّي.

ثم اختلفوا في سبب التحريك، روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما اللَّه: أن المعتبر التحريك بالاغتسال من غير شدة وعنف؛ لأن الحاجة إلى الحياض في الاغتسال أكثر، وروى محمد أنه يعتبر التحريك بالوضوء لأنه وسط، وفي رواية باليد من غير اغتسال ووضوء، وفي هذا توسعة، وظاهر الرواية عن أبي حنيفة: أن المعتبر غلبة الظن، إن غلب على الظن وصول النجاسة إلى الطرف الآخر لم يتوضأ، وإلا توضأ.

وقال شمس الأئمة: المذهب الظاهر التحري والتفويض إلى رأي المبتلى من غير حكم بالتقدير، فإن غلب على الظن وصولها يتنجس، وإن غلب عدم وصولها لم يتنجس، وهذا هو الأصح.

واعتبر أبو سليمان الجوزجاني الكثرة بالمساحة، واختاره المتأخرون، فقوم اعتبروا ثمانية في ثمانية، وقوم خمسة عشر في خمسة عشر، ونقل عن محمد حين سئل عن الكثير أنه قال: إن كان مثل مسجدي هذا فكثير، فقيس حين قام وكان اثني عشر في مثلها في رواية، وثمانية في ثمان في أخرى، وصرحوا بأن محمدًا رجع عن هذا، وقال أبو عصمة: كان محمد بن الحسن يوقت في ذلك عشرة في عشرة، ثم رجع إلى

ص: 204

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال: لا أوقت شيئًا، كذا قال الشيخ ابن الهمام (1)، والأكثرون بعشر في عشر.

وروي أن عبد اللَّه بن المبارك كان أولًا يقدر بعشر في عشر، ثم رجع إلى خمسة عشر في خمسة عشر، وذهب إليه أبو مطيع وقال: إن اعتبر بخمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يكون جائزًا، وإن كان بعشرين في عشرين لا يبقى شبهة وخلجان في القلب، وعامة المشايخ على عشر في عشر؛ لأن العشر أدنى شيء ينتهي إليه نوع الأعداد، وقال أبو الليث: وعليه الفتوى، والمعتبر ذراع الكرباس توسعة على الناس، وهو سبع مُشِتَّات فوق كل مُشِتَّةٍ أصبع قائمة، وفي (المحيط) (2): الأصح أن يعتبر في كل مكان وزمان ذراعه، كذا قال الشُّمُنِّي.

واستنبط شارح (الوقاية) التقدير بعشر في عشر من حديث: (من حفر بئرًا فله حريمها أربعون ذراعًا)، وفيه كلام ذكر في حواشيه، وقال الشيخ ابن الهمام: إن ترجيح الأول أخذًا من حريم البئر غير منقول عن الأئمة الثلاث، وقال الشُّمُنِّي: كون حريم البئر عشرة أذرع من كل جانب قول البعض، والصحيح أنه أربعون، ثم اعتبار عشر في عشر في المربع ظاهر، وأما في المدور فقيل: يعتبر ثمانية وأربعون مساحة دوره، وقيل: أربع وأربعون، وقيل: ستة وثلاثون، والأول أحفظ، وقالوا: القول الأخير أوفق بقواعد الحساب، وقد بينه مولانا علي البرجندي في (شرح مختصر الوقاية) بتحقيق وتفصيل فليراجع ثمة، وفروع المسائل في هذا الباب كثيرة مذكورة في كتب الفقه، تركناها مخافة التطويل، واللَّه أعلم، وهو يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل.

(1) انظر: "شرح فتح القدير"(1/ 76 - 77).

(2)

"المحيط البرهاني"(1/ 106).

ص: 205

478 -

[5] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ؟ . . . . .

ــ

478 -

[5](أبو سعيد الخدري) قوله: (من بئر بضاعة) بضم الباء الموحدة على المشهور وحكي كسرها وبالضاد المعجمة، وقيل: بالمهملة في آخرها عين مهملة، كذا في (تاريخ المدينة)، وفي (القاموس) (1): بئر بضاعة بالضم، وقد يكسر لكنه ذكره في الضاد المعجمة، وهكذا في (الصحاح) (2): بئر على قرب الدرب الشامي على يمين سالك طريق مشهد سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه، وجاء في الخبر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء على بئر بضاعة وأخذ دلوًا فنزع الماء وتوضأ، وألقى بقية الماء مع بصاقه في البئر، وكانوا في زمانه صلى الله عليه وسلم يغسلون بمائه المرضى ويستشفون به فيشفون، وعن ابن أسيد وهو صاحب بئر بضاعة أنه قال: كنا بعد أن يبصق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها نشرب من مائها ونتبرك به، وجاء في شأنه أخبار وأحاديث.

و(الحيض) بكسر الحاء وفتح الياء جمع الحيضة بكسر الحاء خرقة الحيض، وهي التي تستنفر بها، ويقال أيضًا: المحيضة، وجمعها المحائض، وقد يروى في الحديث:(يلقى فيها المحائض)، وقيل: هو جمع المحيض وهو مصدر حاض، فلما سمي به جمع، ويقع المحيض على المصدر والزمان والمكان والدم، وقد جاء الحيضة بالكسر اسمًا من الحيض، والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة، ومنه (إن حيضتك ليست في يدك).

وقوله: (والنتن) بالفتح والسكون: الرائحة الكريهة، والمراد ههنا الشيء المنتن،

(1)"القاموس المحيط"(ص: 648).

(2)

"الصحاح في اللغة"(3/ 1187).

ص: 206

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. [حم: 3/ 31، 86، ت: 66، د: 66، ن: 326].

479 -

[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ . . . . .

ــ

وفي (القاموس)(1): النتن ضد الفوح، نتن ككرم وضرب وأنتن فهو منتن، انتهى. ونتن وأنتن بمعنى، فإن قلت: كيف جاز إلقاء هذه الأشياء فيها لاسيما إذا كان بعد ما ذكر من وضوئه صلى الله عليه وسلم من مائها وإلقاء البصاق فيها؟ قلنا: لعل البئر كانت بمسيل من بعض الأودية التي يحل بها أهل البادية فيلقي ما في منازلهم فيكسحها السيل، كذا قال الطيبي (2).

وقوله: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) قد مر الكلام فيه، وقالوا: كانت هذه البئر في ذلك الزمان جارية، وقال الطحاوي: إن بئر بضاعة كانت طريقًا إلى البساتين فهو كالنهر وإن لم يكن ماؤه يبلغ حد عدم الانفصال ولم يكن عشرًا في عشر، وبعض الروايات عن أصحابنا حكم البئر المَعِينة حكم الماء الجاري، فافهم.

479 -

[6](أبو هريرة) قوله: (سأل رجل) هو عبد المدلجي، وقيل: عبد العزى، وقيل: اسمه العركي بفتح العين والراء بعدهما كاف ثم ياء، كذا في (الحاشية).

وقوله: (أفنتوضأ بماء البحر) وكان استبعادهم طهارة ماء البحر نشأ من فهم التخصيص من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] مع مخالفته لماء

(1)"القاموس المحيط"(ص: 1139).

(2)

"شرح الطيبي"(2/ 104).

ص: 207

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ". رَوَاهُ مَالكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ والدَّارِمِيُّ. [ط: 41، ت: 69، ن: 59، جه: 386، دي: 1/ 185 - 186].

480 -

[7] وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. . . . .

ــ

السماء في الأوصاف، واللَّه أعلم.

وقوله: (هو الطهور ماؤه) الطهور بمعنى المطهِّر، وقد ذكرنا في أول (كتاب الطهارة) اشتقاقه من الطهارة مع كونه لازمًا. (والحل) بالكسر بمعنى الحلال، والميتة بفتح الميم: ما لم تلحقه الذكاة، والمراد بالميتة السمك سماه ميتة لكونه لم يذبح، وكما في حديث:(أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال)، رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني (1)، وليس المراد الذي مات في البحر وهو حرام عندنا، وعند مالك والشافعي وأحمد لا بأس به، ومتمسكهم هذان الحديثان، ولنا ما روى جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (ما ألقاه البحر وجزر عنه الماء فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوا)، رواه أبو داود وابن ماجه (2)، وسيجيء في (باب ما يحل أكله وما يحرم)، وقد روي من مذهب علي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم مثل مذهبنا، وإنما لم يقل في الجواب: بلى أو نعم؛ لأنهم كانوا سألوه عن الضرورة، فلو قال: بلى أو نعم لم يستفيدوا منه حال الرفاهية، فأخبر أنه طهور في كل حال فأتى بجملة مستقلة.

480 -

[7](أبو زيد) قوله: (وعن أبي زيد عن عبد اللَّه بن مسعود) الحديث،

(1)"مسند أحمد"(2/ 97)، و"سنن ابن ماجه"(3218)، و"سنن الدارقطني"(4/ 25).

(2)

"سنن أبي داود"(3815)، و"سنن ابن ماجه"(3247).

ص: 208

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الكلام في هذا الحديث طويل نذكر منه ما تيسر بتوفيق اللَّه ولا نخاف التطويل، فاعلم أن نبيذ التمر هو أن ينبذ التمر في الماء ويترك أيامًا حتى يخرج حلاوته وقد يحدث فيه شيء من الحدة، وسيجيء الكلام فيه وفي أحكامه في (باب الأشربة).

واختلف في التوضؤ به فعند أبي حنيفة وسفيان رحمهما اللَّه جاز الوضوء به إذا لم يوجد ماء خالص، ومع وجوده لا يجوز التيمم، وقيل: النية شرط عند أبي حنيفة رضي الله عنه في الوضوء بالنبيذ كأنه بدل من الماء مثل التراب، وعند الشافعي وأحمد لا يجوز ويجب التيمم، وهو قول أبي يوسف ورواية عن أبي حنيفة، ويحكى رجوعه إلى هذا القول، وعند محمد يتوضأ ثم يتيمم كما في الماء المشكوك كسؤر الحمار.

ويروى عن الطحاوي أنه قال: إن قدر على الماء المكروه ونبيذ التمر توضأ بالماء المكروه إجماعًا.

وفي الاغتسال بنبيذ التمر قولان عن أبي حنيفة، والاختلاف في نبيذ يكون حلوًا رقيقًا يسيل على الأعضاء كالماء وإن اشتد وصار حديدًا، فإن كان من غير نار فهو حرام لا يجوز الوضوء به، وإن غيرته النار إن كان حلوًا جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه لكون شربه حلالًا عنده، وعند محمد لا يجوز لحرمته عنده، ولا يجوز الوضوء بسائر الأنبذة كنبيذ الزبيب ونحوه كما هو مقتضى القياس؛ لأن الوضوء لا يجوز إلا بماء مطلق لم يتقيد باسم آخر، ولهذا لا يجوز بماء الورد والخل مثلًا، وإذا لم يوجد الماء المطلق وجب التيمم لقوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وهذا هو دليل الأئمة القائلين بعدم جواز الوضوء بالنبيذ، ومتمسك الإمام أبي حنيفة في تجويزه هذا الحديث عن أبي زيد عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن، وهي الليلة التي جاءت الجن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبايعوه، وسمعوا منه القرآن، وأخبروا به قومهم.

ص: 209

قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ: "مَا فِي إِدَاوَتك؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَبِيذٌ. قَالَ: "تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ: فتوَضَّأَ مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَبُو زَيْدٍ مَجْهُولٌ. [د: 84، حم: 1/ 450، ت: 88].

ــ

وقوله: (ما في إداوتك؟ ) أي: مطهرتك، (قال) ابن مسعود:(قلت نبيذ، قال) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (تمرة طيبة وماء طهور) أي: ما النبيذ إلا تمرة وهي طيبة ليس فيها ما يمنع التوضؤ وماء مطهر، (فتوضأ منه) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة لأحمد والترمذي في هذا الحديث، ولم يزدها أبو داود، ويكفي في الدلالة على جوازه قوله:(تمرة طيبة وماء طهور)، ورواه السيوطي في (جمع الجوامع)(1) عن عبد الرزاق والبيهقي، وأورده الشيخ ابن الهمام (2) عن ابن أبي شيبة بلفظ: قال ابن مسعود: سألني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (هل معك ماء يتوضأ به؟ ) قلت: لا، قال:(فما في إداوتك؟ ) قلت: النبيذ، قال:(تمرة حلوة وماء طيب)، ثم توضأ به وأقام الصلاة، والترمذي ضعف هذا الحديث وقال: إنما روي هذا الحديث عن أبي زيد عن ابن مسعود، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث، لا تعرف له رواية غير هذا الحديث، وقال في (ميزان الاعتدال) (3): أبو زيد مولى ابن حريث عن ابن مسعود، وعنه أبو فزارة، لا يصح حديثه، ذكره البخاري في الضعفاء، وقال الحاكم: رجل مجهول ما له سوى حديث واحد، وفي (التقريب) (4): أبو زيد المخزومي مولى عمرو بن حريث، وقيل: أبو زائد،

(1)"جمع الجوامع"(440)، و"سنن الكبرى"(1/ 9، رقم: 26).

(2)

"شرح فتح القدير"(1/ 119).

(3)

"ميزان الاعتدال"(4/ 526).

(4)

"التقريب"(642).

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مجهول، من الثالثة، وقال (1): أبو فزارة راوي الحديث عن أبي زيد أيضًا مجهول (2).

فقال الشافعي وأبو يوسف: هذا حال هذا الحديث، ولو صح أيضًا فآية القرآن أقوى منه، فتعين العمل بها على أن الحديث منسوخ بالآية، فإن الآية مدنية، وقضية ليلة الجن كانت بمكة.

وقال محمد: لما كان في الحديث اضطراب، وفي التاريخ جهالة وجب الجمع بينهما احتياطًا، وقالوا من جانب أبي حنيفة رحمه الله: إن ليلة الجن متعددة وكانت بالمدينة كما كانت بمكة، ولعل هذه القضية كانت في التي كانت في المدينة، وقد عمل بهذا الحديث جماعة من الصحابة، فعن علي رضي الله عنه أنه قال: الوضوء بنبيذ التمر وضوء من لم يجد الماء، وعن ابن عباس: توضؤوا بنبيذ التمر، ولا توضؤوا باللبن، وروي عن ابن مسعود جوازه عند عدم الماء، كذا في بعض شروح (الهداية)، وأورد السيوطي في (جمع الجوامع) عن الدارقطني أنه روي عن ابن عباس مثل قول علي رضي الله عنه.

وقال التُّورِبِشْتِي (3): حديث التوضؤ بنبيذ التمر روي عن ابن مسعود بوجوه متعددة، وفي سائر أسانيدها مقال، لكن الحديث إذا روي من طرق شتى غلب على ظن المجتهد حقيته، هذا وقال الشيخ ابن الهمام (4): قال القاضي أبو بكر بن العربي في (شرح جامع الترمذي): أبو زيد مولى عمرو بن حريث، روى عنه راشد بن كيسان

(1) أي: أحمد، كما في "التهذيب"(3/ 227).

(2)

قال الحافظ: وتعقبه ابن عبد الهادي فقال: هذا النقل عن أحمد غلط من بعض الرواة عنه، وكأنه اشتبه عليه أبو زيد بأبي فزارة، انتهى. "تهذيب التهذيب"(3/ 227).

(3)

انظر: "مرقاة المفاتيح"(2/ 453).

(4)

"شرح فتح القدير"(1/ 118).

ص: 211

481 -

[8] وَصَحَّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 450].

ــ

العنسي الكوفي وأبو روق، وهذا يخرجه من الجهالة، وقال الشيخ تقي الدين السبكي: في تجهيل أبي فزارة أيضًا نظر؛ لأنه قد روى هذا الحديث من أبي فزارة جماعة من أهل العلم مثل سفيان وشريك وجراح بن مليح وقيس بن الربيع، وقال ابن عدي: أبو فزارة راوي هذا الحديث مشهور واسمه راشد بن كيسان، وكذا قال الدارقطني. وفي (الكاشف) (1): راشد بن كيسان العنسي الكوفي عن أنس وابن أبي ليلى، وعنه سفيان وحماد بن زيد ثقة. وقد ضعف هذا الحديث بأنه صح:

481 -

[8](علقمة) قوله: (عن علقمة عن عبد اللَّه بن مسعود أنه قال: لم أكن ليلة الجن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم) قال التُّورِبِشْتِي: هذا صحيح ولكنه يحتمل أنه لم يكن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند مفاوضة الجن ودعائهم إلى الإسلام، وكان قد خرج معه فأقعده بمدرجته على ما ذكر في الحديث عن ابن مسعود: فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد، فخطّ لي خطًّا وأجلسني فيه، وقال: لا تخرج من هذا، فبت فيه حتى أتاني مع السحر، ويحتمل أن ابن مسعود لم يكن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقت الخروج، ثم لحقه في آخر الليل بعد أن فرغ من دعوة الجن، فكونه مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعدم كونه معه ليلة الجن كلاهما صحيح، وهذا الوجه أوثق لما في بعض طرق حديث علقمة عن عبد اللَّه الذي استدل به المؤلف أن علقمة قال: قلت لعبد اللَّه بن مسعود: هل صحب رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد، قال: ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح أو قال: في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء، ثم ساق الحديث، وهذا حديث صحيح

(1)"الكاشف"(1/ 338).

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أخرجه مسلم في كتابه، ولا تنافي بينه وبين قوله: في ليلة الجن؛ لأن سحر تلك اليلة كان من ليلة الجن، انتهى كلام التُّورِبِشْتِي (1).

والحق أنه قد ثبت بطرق كثيرة أن ابن مسعود كان معه صلى الله عليه وسلم في ليلة الجن وخطّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حوله وقال: لا تخرج منه، وهذه القصة طويلة ذكرت في كتب السير والأحاديث، وذكرها أبو نعيم في (الحلية)(2)، فالمراد بعدم كونه معه عدم حضوره في وقت المفاوضة والمكالمة مع الجن، واللَّه أعلم.

وقال الشيخ ابن الهمام (3): وأما ما روي أنه سئل ابن مسعود عن ليلة الجن فقال: لم يحضر منا أحد فمعارض ما روى ابن أبي شيبة أن ابن مسعود كان معه، وبما روى حفص بن شاهين عن ابن مسعود أنه قال: كنت معه ليلة الجن، وأيضًا روي أن ابن مسعود رأى قوما من زط فقال: ما أشبههم بالذين رأينا من الجن ليلة الجن، والإثبات مقدم على النفي، وإن جمعنا بينهما قلنا: المراد بقوله: لم يكن منا أحد أنه لم يكن أحد من الصحابة غيري، فالمقصود نفي المشاركة وإثبات اختصاص نفسه بالحضور.

وقال صاحب (آكام المرجان في أحكام الجان)(4): ظاهر الأحاديث الواردة في وفادة الجن أنها كانت ست مرات، واحد منها كانت في بقيع الغرقد حضرها ابن مسعود، ومرتين منها حضر بمكة، ومرة رابعة كانت خارج المدينة حضرها الزبير بن

(1) انظر: "مرقاة المفاتيح"(2/ 453).

(2)

انظر: "حلية الأولياء"(7/ 395).

(3)

"شرح فتح القدير"(1/ 118).

(4)

"آكام المرجان في أحكام الجان"(ص: 84).

ص: 213

482 -

[9] وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: . . . . .

ــ

العوام، وبهذا لم يقطع بالنسخ، انتهى كلام الشيخ ابن الهمام، وبهذا ظهر أن الحق مع أبي حنيفة، واللَّه أعلم.

482 -

[9](كبشة بنت كعب بن مالك) قوله: (وعن كبشة) بفتح الكاف وسكون الباء الموحدة وبالشين المعجمة.

وقوله: (فسكبت) أي: في ظرف، والسكب: الصب، و (سكبت) يحتمل أن يكون بصيغة المتكلم، وأن يكون بصيغة الغائبة.

وقوله: (فأصغى) أي: أمال (لها) أي: للهرة (الإناء) حتى يسهل عليها الشرب، يدل على أن سؤر الهرة ليس بمكروه كما هو مذهب أبي يوسف، كذا قال الشُّمُنِّي، ولكن قال أبو حنيفة رحمه الله بالكراهة؛ لأنه قد جاء الحديث أنها سبع، رواه الحاكم في (المستدرك)(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: صحيح الإسناد، وهو يقتضي نجاسة سؤرها كسؤر سائر سباع البهائم، لكنها سقطت إلى الكراهة لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم)، فتدبر.

وقوله: (يا ابنة أخي) المراد أخوة الإسلام، ومن عادة العرب أن يدعوا بيا ابن أخي ولا ابن عمي.

(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 264، رقم: 569).

ص: 214

"إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمُ أَوِ الطَّوَّافَاتِ". رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ. [ط: 42، حم: 5/ 303، ت: 92، د: 85، ن: 68، جه: 367، دي: 1/ 187 - 188].

483 -

[10] وَعَن دَاوُدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّ مَوْلَاتَهَا. . . . .

ــ

وقوله: (إنها ليست بنجس) هكذا وقع بلفظ التذكير في نسخ (المشكاة) و (المصابيح)، ولكنها في الشروح والكتب (إنها ليست بنجسة) بلفظ التأنيث، ووقع في نسخة (جامع الترمذي) قديمة صحيحة بخط المغرب، وكذا (كتاب الخرقي) أيضًا بالتذكير، فغير بعد ذلك بالتاء، ويظهر بذلك أن أصل لفظ الحديث بالتذكير، وكذلك في الحديث الآتي، ونقل في الحاشية من بعض الشروح أنه بكسر الجيم وهو القياس، وإنما لم تلحق التاء لأنه في معنى السنور، وقال بعض الأئمة: إنه بالفتح بمعنى النجاسة فالتقدير إنها ليست بذات النجس.

وقوله: (من الطوافين عليكم أو الطوافات) بصيغة فَعَّال للمبالغة، وليست (أو) هذه للشك لوروده بالواو في رواية أخرى، والمراد أنها من الذكور أو الإناث، فشبه ذكور الهرة بالطوافين وإناثها بالطوافات، كذا في الحاشية من (الأزهار)، وقيل: للشك من الراوي، والمعنى أنها تطوف عليكم في منازلكم، فلو حكمت بنجاسة سؤرها لشق عليكم، وقيل: المراد من يطوف للحاجة على الأبواب ويسأل، شبه الهرائر بهم يعني أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساتهم، كذا في بعض الشروح، ويناسب هذا المعنى حمل الطائف على معنى الخادم يخدم برفق وعناية على ما في (القاموس)(1).

483 -

[10](داود بن صالح) قوله: (أن مولاتها) أي: معتقة أمه وكانت أمه

(1)"القاموس"(ص: 769).

ص: 215

أَرْسَلَتْهَا بِهَرِيسَةٍ إِلَى عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَوَجَدْتُهَا تُصَلِّي فَأَشَارَتْ إِلَيَّ أَنْ ضَعِيهَا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَكَلَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ مِنْ صَلَاتِهَا أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ، فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ". وَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأ بِفَضْلِهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. [د: 76].

ــ

مولاة لبعض نساء الأنصار، والمولى اسم مشترك بين المعتق والمعتق بالكسر والفتح، والمراد ههنا بالكسر، والضمير المرفوع في (أرسلتها) للمولاة والمنصوب لأمه.

وقوله: (بهريسة) هو الطعام المعروف، والهرس الأكل الشديد والدق العنيف، ومنه الهريس والهريسة، وقد يروى في فضل الهريسة حديث وهو موضوع، ففي (تنزيه الشريعة) (1) عن معاذ قال: قلت: يا رسول اللَّه! أتيت من الجنة بطعام، قال: نعم، أتيت بالهريسة فأكلتها فزادت في قوتي قوة أربعين، وفي نكاحي نكاح أربعين، رواه العقيلي، وفيه محمد بن الحجاج وهو وضعه، وغالب طرقه يدور عليه، وله طرق كلها باطلة أو مختلف فيها والأغلب البطلان.

وقوله: (فأشارت إلي أن ضعيها) أن مفسرة لما في الإشارة من معنى القول، ولهذا استثنى الرمز من التكلم في قوله تعالى:{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وفيه دليل على أن مثل هذه الإشارة جائزة في الصلاة، وقد وقعت في غيره من الأحاديث في الإشارة للسلام باليد والرأس، وجاء في بعض الروايات أن الإشارة المفهمة مفسدة للصلاة، وهذا الحديث يدل على خلاف ذلك.

وقوله: (إنها ليست بنجس) الرواية المشهورة المقروءة بكسر الجيم، وقد يفتح،

(1)"تنزيه الشريعة"(2/ 253).

ص: 216

484 -

[11] وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا". رَوَاهُ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ". [1/ 77].

485 -

[12] وَعَنْ أُمِّ هَانِئ قَالَتْ: اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَمَيْمُونَةُ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. [ن: 240، جه: 378].

ــ

وقد سبق بيانه.

484 -

[11](جابر رضي الله عنه) قوله: (بما أفضلت) أي: أبقته من فضله، وكلمة (ما) في الموضعين موصولة وقد يمد، قال التُّورِبِشْتِي (1): ولا أراه إلا تصحيفًا، واللَّه أعلم.

وقوله: (وبما أفضلت السباع كلها) يدل على أن سؤر السباع طاهر كما هو مذهب الشافعي رحمة اللَّه عليه، وعندنا هو نجس؛ لأن لعابه متولد من لحمه النجس فيكون نجسًا، وهو مذهب أحمد رحمة اللَّه عليه مع ما فيه من اختلاف في روايات عند أصحابه، والأحاديث التي تدل على طهارتها متكلم فيها، ولو سلم فالمراد به الغُدْرَان العظام، وأيضًا هو يقتضي طهارة سؤر الكلب وهو لا يقول به، كذا قال الشُّمُنِّي، ونقل عن (المحيط) (2) عن (نوازل أبي الليث): إذا أخذ الكلب عضو إنسان أو ثيابه إن كان في حال الغضب لا يجب غسله، وإن كان حال المزاح يجب لأنه حال الغضب يأخذ بالأسنان لا غير ولا رطوبة فيها، وحال المزاح يأخذ بالشفتين وهما رطبتان.

485 -

[12](أم هانئ) قوله: (فيها أثر العجين) لعله لم يكن مغيرًا للماء عن

(1)"كتاب الميسر"(1/ 162).

(2)

انظر: "المحيط البرهاني"(1/ 140 - 141).

ص: 217