الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة
الدكتور / عبد الحليم عويس
بين الوجود التاريخي والوجود الحضاري:
إن ميلاد الحضارة لا يعني أن أمة ما قد ظهرت - فجأة - في التاريخ، فإن هذا الوجود التاريخي للأمم إنما هو فعل قدري بحت لا يملكه إلا خالق الوجود سبحانه وتعالى.
وإنما يقصد بميلاد الحضارة ظهور إرادة بشرية وجدت لديها عناصر الانطلاق والإبداع، فسعت إلى أن تقوم بدور حضاري، مستعلية على مجرد وجودها التاريخي الذي تشترك فيه معها سائر الكائنات النباتية والحيوانية.
إن هذا الوجود التاريخي هو وجود عام لا فضل فيه للإنسان، وهو لا يحتاج في استمراريته في المستوى الأدنى إلا لتعبير غريزي عن الحاجات الضرروية يشبه أن يكون في مستوى التعبير الحيواني عن حاجاته، وأساليب الإنسان قد لا تختلف كثيرا عن أساليب الحيوان في توفير هذه الحاجات والاستجابة لها.
أما الوجود الحضاري فهو وجود مختلف تماما عن هذا الوجود سواء في إطار (درجاته) أو في إطار (أساليب) التعبير عن هذه الحاجات والاستجابة لها.
إن هذا الوجود الحضاري يقوم بدرجة أساسية على الإنسان نفسه، فإليه - بإرادته ووعيه، وحركته - يعزى الفضل الأول في القيام بأية حضارة إنسانية، وذلك - بالطبع - بعد عون الله وإذنه.
إن الحضارة الإنسانية هي تعبير فطري عن حاجة إنسانية يتميز بها الإنسان من سائر الكائنات، ففي داخل كل إنسان - فردا أو جماعة - حاجة تلح عليه وتؤكد له. . . عبر عدد من النوازع والسلوكيات أنه شيء متميز عن الكائنات الأخرى إنه يحس باختلافه عن مستواها، ويحس بأنه قادر على ما لا تستطيع هي أن تقدر عليه، ويحس بأنه يستطيع أن (يسمو) لدرجة لا تستطيع الكائنات التي تشاركه في الأرض أن تصل إليها.
- ليكن هذا الشيء المتميز روحا تشعره بالعلو. . . وبنفحة إنسانية خاصة، أو ليكن هذا الشيء عقلا يعقل ويتسع لرؤية الماضي واستشراق المستقبل حيث لا يستطيع غيره من الكائنات أن يمد الطرف إلى الماضي أو المستقبل.
- ليكن هذا أو ذاك، فالمهم أن (الحضارة) - أي الاستعلاء فوق الوجود المادي التاريخي - هي شيء فطري يحس به الإنسان في كيانه الداخلي، ولعلي ألمح هذا الشيء - بصورة ما - في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} (1) وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2)
سورة الأنعام الآية 165