المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرحلة الثانية: فساد السلوك: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌موضوع العددحكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها

- ‌الفتاوى

- ‌ اللحم الذي يوجد في الأسواق وقد ذبح في الخارج

- ‌ حكم من أتى كاهنا أو عرافا أو ساحرا لأجل العلاج

- ‌ الدعاء بصورة جماعية بعد قراءة القرآن مباشرة

- ‌ إعفاء اللحية وقص الشارب

- ‌ الجمع بين الصلاتين ونحن مقيمون بالمدينة في حالة وجود حصص دراسية

- ‌ القراءة من المصحف في صلاة التراويح

- ‌ الوقوف للداخل وتقبيله

- ‌ الذبح عند القبور

- ‌ زكاة الحلي

- ‌ نظر المرأة إلى المرأة

- ‌ معنى القدر

- ‌ من يستهزئ بمن ترتدي الحجاب الشرعي

- ‌ استئصال الأصبع الزائد

- ‌ حلق اللحية إذا كان الرجل يعتقل ويسجن بسببها

- ‌هل يجوز للطبيب أن يتخصص في طب النساء والتوليد

- ‌ صوت المرأة

- ‌ هل يجوز للرجل إذا فكر في الزواج من فتاة أن يطلع عليها أو على صورتها قبل العقد

- ‌ التصفيق من الرجل لمداعبة طفله

- ‌ وجود الله معلوم من الدين بالضرورة

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌أولا: مسائل في أهل الكتاب، ومن هم الخلفاء الراشدون

- ‌المسألة الأولى: ما حكم ذبائح أهل الكتاب

- ‌المسألة الثانية: ما حكم نكاح نسائهم

- ‌المسألة الثالثة: من هم أهل الكتاب

- ‌ثانيا: (معنى لا إله إلا الله)

- ‌تحقيق الإسلام لأمن المجتمع

- ‌تحقيق الإسلام للأمن ووسائل توفره:

- ‌وسائل حفظ الأمن في الإسلام:

- ‌حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌ في العالم الإسلامي:

- ‌ في بلاد نجد:

- ‌الشيخ محمد بن عبد الوهاب:نشأته ورحلاته:

- ‌ثانيا: الدعوة: حقيقتها مبادئها:

- ‌مراحل الدعوة:

- ‌حقيقة الدعوة ومصادرها:

- ‌مبادئ الدعوة:

- ‌ التوحيد:

- ‌ الشفاعة:

- ‌ زيارة القبور والبناء عليها:

- ‌ البدع:

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌ التكفير والقتال:

- ‌ الاجتهاد والتقليد:

- ‌ثالثا: أثر الدعوة في العالم الإسلامي

- ‌(المصادر والمراجع)

- ‌الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة

- ‌بين الوجود التاريخي والوجود الحضاري:

- ‌منظومة بناء الحضارة وعناصرها الثلاثة:

- ‌الإنسان في القرآن:

- ‌ الفكرة أو المنهج:

- ‌ الأشياء وقيمتها الحضارية:

- ‌سقوط الحضارة من منظور إسلامي

- ‌المرحلة الأولى: فساد الفكر:

- ‌المرحلة الثانية: فساد السلوك:

- ‌المرحلة الثالثة: مرحلة الانهيار:

- ‌ما وقع في القرآن الكريم من الظاء

- ‌الظافر والضافر

- ‌الحظ والحض

- ‌الظلم والظلام:

- ‌العظم والعظام:

- ‌الظاهر والظهر والظهر والمظاهر:

- ‌الناظر والناضر:

- ‌اليقظة

- ‌الظمأ

- ‌الحاظر والحاضر

- ‌الظل والظلة والظلال

- ‌الفظ والفض

- ‌اللفظ

- ‌الغيظ والغيض

- ‌الوعظ

- ‌الظن والضن:

- ‌التلظي

- ‌الكظيم والكظم

- ‌الشواظ

- ‌الغلظة

- ‌الظعن

- ‌الحفظ والحفيظ والمحافظة

- ‌المصادر

- ‌فتح المعين بتصحيح حديث عقد التسبيح باليمين

- ‌درجة هذا الحديث

- ‌ ذكر من صحح هذا الحديث من أهل العلم

- ‌بيان أن عقد التسبيح في هذا الحديث يكون باليد اليمين

- ‌ذكر اختلاف الروايات في عدد الذكر بعد الصلاة المكتوبة

- ‌ قول أهل العلم في الجمع بين اختلاف هذه الأعداد الوارة في الذكر بعد الصلاة

- ‌ كيفية عد التسبيح والتحميد والتكبير

- ‌ فصل في عدد كلمات هذا الذكر عند المنام

- ‌الوحدة الإسلاميةأسسها ووسائل تحقيقها

- ‌(القسم الأول)"واقع الأمة الإسلامية

- ‌أولا: في العقيدة:

- ‌ انحرافات إلحادية

- ‌ انحرافات في الجانب النظري - العلمي من العقيدة:

- ‌ انحرافات طائفية قديمة:

- ‌ انحرافات طائفية حديثة:

- ‌ثانيا في العبادة:

- ‌ثالثا: في الشريعة:

- ‌(القسم الثاني)"أسباب هذا الواقع

- ‌أولا: جهل الأمة بدينها:

- ‌ثانيا: الغزو العسكري لبلدان المسلمين:

- ‌ثالثا: الغزو الفكري:

- ‌(القسم الثالث)" أسس الوحدة الإسلامية

- ‌أولا: وحدة الغاية

- ‌ثانيا: وحدة العقيدة:

- ‌ثالثا: وحدة القيادة:

- ‌رابعا: وحدة التشريع:

- ‌(القسم الرابع)" وسائل تحقيق الوحدة

- ‌أولا: التعليم الموجه

- ‌ثانيا: الإعلام الهادف الملتزم:

- ‌ثالثا: الاقتصاد المستقل:

- ‌رابعا: الاكتفاء الذاتي:

- ‌خامسا: إيجاد مراكز علمية:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

- ‌العز بن عبد السلام مفسرا

- ‌ترجمة العز بن عبد السلام:

- ‌التعريف بتفسيره المختصر

- ‌دراسة تفسيره

- ‌مصادر تفسير العز

- ‌طريقة عرضه للقراءات

- ‌جمعه بين أقاويل السلف والخلف

- ‌نقله لأقوال الصوفية

- ‌ترجيحه لبعض الأقوال

- ‌عنايته باللغة وأسلوبه في التعبير

- ‌طريقة عرضه لآيات الأحكام

- ‌موقفه من الإسرائيليات

- ‌نتيجة هذه الدراسة

- ‌المصادر

- ‌الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى

- ‌دعوة عالمية بلغت ذروة الكمال:

- ‌خاتم النبيين:

- ‌دعوته ناسخة للرسالات السابقة:

- ‌القرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة:

- ‌معنى هيمنة القرآن على ما سبقه:

- ‌وجوه هذه الهيمنة:

- ‌ليظهره على الدين كله:

- ‌دعوة أهل الكتاب للإيمان بمحمد:

- ‌تهديد ووعيد

- ‌مواقف إيجابية حكاها القرآن الكريم:

- ‌لا يتحقق إيمان اليهود والنصارى إلا بإيمانهم بمحمد عليه السلام:

- ‌الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شرط للإيمان بنبوة الأنبياء جميعا:

- ‌لو لم يظهر محمد لبطلت نبوة الأنبياء:

- ‌عهد وميثاق

- ‌بشارات الكتب السابقة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌ملاحظات بين يدي البشارات:

- ‌البشارة الأولى:

- ‌البشارة الثانية:

- ‌البشارة الثالثة:

- ‌البشارة الرابعة:

- ‌بشارات إنجيل برنابا:

- ‌فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به بغيا وحسدا:

- ‌نصيحة إلى حجاج بيت الله الحرام

- ‌قرار هيئة كبار العلماء رقم 138في حكم مهرب ومروج المخدرات

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌المرحلة الثانية: فساد السلوك:

يكاد القابضون على الأمر يحسون بما يعانيه أهل الحق القابضون على الجمر، وتنقطع الجسور بين أولي العلم وأولي الأمر، فلا يبقى إلا الصراع الخافت والظاهر، وتتعرض السفينة الاجتماعية كلها للضلال والضياع.

إن التمزق الفكري الداخلي للأفراد أو للأمم هو أول داء تصاب به، وعن طريق هذا الخلل الفكري تدخل صنوف الخلل السلوكية نتيجة حتمية لخلل الفكر؛ لأن سلامة الفكر هي الضامن لسلامة السلوك، وهي السور الذي يحجز ويمنع، أو كما يقول أحد الفلاسفة:(إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح).

ولن تستطيع الحواجز القانونية أو عوامل التخويف الأخرى أن تقف طويلا أمام عواصف الغرائز، بل إن هذه القوانين البشرية سوف تضعف وتضعف لدرجة أنها - في مرحلة من المراحل - لن يكون لها عمل إلا أن تبرر الفساد وتقننه بل وتجعله حقا من حقوق الفرد وتعبيرا من تعبيراته عن حريته (الحيوانية)!!.

ص: 179

‌المرحلة الثانية: فساد السلوك:

إن الآيات القرآنية حاسمة الدلالة في ترتيب السلوك السيئ على الفكر السيئ، كما أنها حاسمة الدلالة على أن شيوع الآثام ليس سببا، وإنما هو عقوبة يصيب الله بها الأمم والأفراد تمهيدا لأخذها وهلاكها، إنه الاستدراج الإلهي الذي يحقق الله به ناموسه الكوني في أن لا يأخذ الناس بظلم وهم مصلحون، ولا يأخذهم إلا بعد أن يمتعهم بنصيبهم المقدر من المتعة؛ حيث تتاح الفرصة لمن يريد أن يتمادى وتعميه فرص المتعة المتاحة، وتتاح الفرصة أيضا لمن يبصر من وراء الحجب المادية والاجتماعية الحقيقة الأزلية فيئوب إلى رشده، ويعود إلى

ص: 179

الحق قبل اللحظة الفاصلة.

إن الله تعالى يجيبنا بوضوح على (السبب الأساسي) لظهور الفساد في الأرض يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1).

فبسبب ما كسبه الناس من جنوح عن العدل وميل إلى الظلم انتشرت موجبات الفساد والانحراف عقوبة لهم، تمهيدا للساعة المرتقبة ويقول تعالى في آية أخرى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2).

ويقول تعالى في آية ثالثة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (3).

والسؤال الوارد هنا: لماذا يريد الله إهلاك القرية؟ والإجابة أن أهلها - بالضرورة - قد أصبحوا أهلا لإرادته تلك بما استوجبوه من ضلال في فكرهم، وتبرير لترفهم وشعور منهم بأنهم إنما أوتوا ما أوتوا على علم عندهم، (كما هي فلسفة قارون) وليس بفضل الله وعونه، أو كما توضح آية قرآنية آخرى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (4) فهذه هي عادة المترفين في التاريخ، إنها مواجهة الهداة (بالكفر)، وعند ذلك يستدرجهم الله إلى المرحلة الثانية وهو (الفسق) الذي ولغوا فيه معتمدين على الأموال والأولاد التي يملكونها:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (5)!!

(1) سورة الروم الآية 41

(2)

سورة الأنفال الآية 53

(3)

سورة الإسراء الآية 16

(4)

سورة سبأ الآية 34

(5)

سورة سبأ الآية 35

ص: 180

وذلك دون استفادة من دروس التاريخ الماضية، فضلالهم الفكري يعميهم عن رؤية كبريات الحقائق الكونية والتاريخية::

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (1).

وفي آية أخرى يكرر القرآن المعنى نفسه مقدرا معطيات جديدة: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2).

وهذه الآية تعالج بإيجاز المعالم الكبرى لمرحلة (الفسوق) وما يعتورها من فتن وأخلاق، ثم تنتهي إلى المصير الحتمي الذي يئول إليه أمر هذه المرحلة، وهو الإحباط الكامل، والخسران الدائم.

ويقدم لنا (القصص القرآني) - الذي لم يفقهه المسلمون الفقه الحضاري الكامل - عددا من التجارب البشرية التي دخلت مسيرتها إلى مرحلة (الذنوب) فكانت عاقبتها وخيمة.

فقوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (3) وحتى ابنه أصابه الغرق لأنه: {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (4).

(1) سورة الأنعام الآية 6

(2)

سورة التوبة الآية 69

(3)

سورة نوح الآية 25

(4)

سورة هود الآية 46

ص: 181

وعاد قوم هود أصابهم الريح العقيم حتى صاروا موتى كأنهم أعجاز نخل خاوية لأنهم: {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (1).

وثمود قوم صالح أرسل الله عليهم الصيحة بسبب عصيانهم أمر نبيهم وعقرهم الناقة خلافا لأمره: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (2)، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (3).

وجريمة قوم لوط التي عرفوا بها، معروفة، وهي من الخبائث المنكرة التي لا تليق بالجنس البشري، بل إن الحيوانات تعف - بفطرتها - عنها، وقد أثبت الطب الحديث الآثار المدمرة لهذه الجريمة وعلى رآس آثارها الصحية مرض (الإيدز) أي فقدان المناعة الجسدية، أما أمراضها الحضارية - اجتماعيا وأخلاقيا - فهي لا تقل خطورة عن (الإيدز) إذ هي تفقد الحضارة مناعتها - أيضا - في تحمل أعباء صناعة الحضارة، وفي خلق (الرجولة) و (الجد) اللازمين للبناء، يقول القرآن عن قوم لوط:{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} (4){فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} (5){مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (6).

وأما مدين قوم نبي الله شعيب فقد ابتلوا بذنب آخر، لقد كان دأبهم بخس الناس أشياءهم ونقص المكيال والميزان، وهو ظلم مبين، وقد حاول شعيب إصلاحهم لكنهم رفضوا فحقت عليهم عقوبة الله:

(1) سورة هود الآية 59

(2)

سورة هود الآية 65

(3)

سورة هود الآية 67

(4)

سورة هود الآية 78

(5)

سورة هود الآية 82

(6)

سورة هود الآية 83

ص: 182

{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (1){كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (2).

وكانت عاقبة فرعون وأتباعه الغرق لكفرهم وانغماسهم في المعاصي، ويعقب القرآن على هذه الأمم وما أصابها بعد أن تسردها علينا سورة هود في إيجاز وتعاقب تاريخي بليغين يعقب القرآن (بالعبرة) العامة التي انتهت بهذه الأمم وتجاربها إلى نهاية واحدة، هي السقوط في هاوية الهلاك الشامل والدمار الكامل، يقول القرآن:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} (3){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (4){وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (5).

إن السلوك الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، وليس الضعف المادي أو (التقني)، فالأخلاق القائمة على أساس عقدي وفكري سليم - وليس الأخلاق النفعية (البرجماتذم) - هي الطريق الصحيح للحضارة، ولقد أشار العلامة ابن خلدون إلى هذا الأمر، وذكر أن رقي الأمم لا يتحقق بتوافر القوة المادية أو رقي العقل (العلمي أو العملي عن المرتبط بفكرة أخلاقية) بل بتوافر الأخلاق الحسنة (6).

ويوضح الفيلسوف (غوستاف لوبون) قيمة المعيار الأخلاقي فيقول: إن الانقلاب يحدث في حياة الأمم بالأخلاق وحدها، وعلى الأخلاق يؤسس مستقبل الأمة وحياتها الحاضرة، وخط العقل والقلب في بقاء الأمة أو سقوطها قليل جدا، وعندما تذوى أخلاق الأمة تموت مع وجود العقل والقلب اللذين ربما يكونان متقدمين في نواح عملية كثيرة. . . فعلى

(1) سورة هود الآية 94

(2)

سورة هود الآية 95

(3)

سورة هود الآية 100

(4)

سورة هود الآية 101

(5)

سورة هود الآية 102

(6)

المقدمة

ص: 183

الأخلاق وحدها يقوم نظام الجماعة الإنسانية، وهي - أي الأخلاق - أساس الدين.

وقد ساق الدكتور (لوبون) عددا من الأمثلة لبيان تأثير الأخلاق في قيامها أو سقوطها، من بينها حال الأمة الرومانية التي سقطت وهي أقوى من أسلافها في الناحية العقلية إلا أنها أضعف في النواحي الأخلاقية.

وأيضا فقد استطاع الإنجليز بجيش قدره ستون ألفا استعباد ثلاثمائة مليون هندي لاستقامة أخلاقهم [فيما بينهم فقط!!] مع أن كثيرا من سكان الهند كانوا يشبهون الهنود في النواحي العقلية، بل كان البعض يرجمهم في المباحث الفلسفية، [بل والدينية].

وقد نسي (لوبون) أن يقدم النموذج الإسلامي الذي قضى على الروم وفارس، ولم يكن له من سلاح في النصر إلا إيمانه ورسالته الأخلاقية، أما حالته العقلية (أي التقدم المادي والفني) فلم يكن يصل إليهم بالتأكيد. . .

ويذكر لنا أحد علماء الهند (1) الأفاضل الفرق بين الأخلاق التي يقصدها (غوستاف لوبون) وبين الأخلاق الإسلامية. . . فالأخلاق القرآنية التي يريد الإسلام إحداثها في الأمة لا ينحصر أثرها في نطاق تلك الأمة، بينما تعامل الأمم الأخرى بوحشية، بل على الإنسانية العامة والرحمة الشاملة.

وفي هذه المرحلة. . . . مرحلة (الذنوب والفسوق) كثيرا ما تكون هناك

(1) محمد تقي الأميني (كتاب رقي الأمم وسقوطها)

ص: 184

فسحة من الزمان كي تعطي الأمة أو الجماعة فرصة الرجوع إلى الحق، وتعالج أسباب انهيارها. . . . فإذا ظهر أنها وصلت إلى مرحلة الانغلاق الكامل، والطمس على القوى الواعية فيها، واختلاط المعايير في أيديها. . . فقد تعطي فرصة أخرى استدراجية لتقع أكثر في الأوحال، وتستحق الأخذ الأليم الشديد.

ويعبر القرآن عن هذه الحالة. . . يقول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} (1).

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2).

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (3).

وتتميز سلوكيات هذه المرحلة ببعض الأخلاقيات المسيطرة على الناس:

* فمن أخلاقيات هذه المرحلة (عدم التفرقة يبن الحلال والحرام). . . «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام (4)» .

(1) سورة الأنعام الآية 44

(2)

سورة آل عمران الآية 178

(3)

سورة الأنعام الآية 6

(4)

رواه البخاري (كتاب البيوع).

ص: 185

* ومن الأخلاقيات السائدة (محاباة الكبار) وعدم خضوعهم لشريعة الله العادلة وكثرة الوساطات والرشاوي «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد (1)» .

* ومن الأخلاقيات السائدة (التجرؤ على الفتوى) في دين الله بلا علم ولا هدى «يأتي آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم (2)» .

* ومن أخلاقيات هذه المرحلة العكوف على (وسائل الترف) واستحلالها «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (3)» .

* ومن الظواهر الشائعة (عدم البركة في الأعمار) والأوقات وقلة الإنتاج والشح والاستهانة بالدماء الإسلامية حتى تكون أرخص الدماء في الأرض «يتقارب الزمان وينقص العمل ويلقى الشح ويكثر الهرج. قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل القتل (4)» .

* ومن الظواهر (سيادة بعض المجرمين) السفهاء الذين ينتسبون إلى قريش، ويعتبرون هذه النسبة سندا يملكون به الأمة الإسلامية ويلعبون بحاضرها ومستقبلها «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش (5)» .

(1) رواه البخاري (كتاب بدء الخلق)

(2)

البخاري باب علامات النبوة

(3)

البخاري كتاب الأشربة

(4)

البخاري كتاب الأدب

(5)

البخاري كتاب الفتن

ص: 186

* ومن الظواهر (الإعلان) بالخمور والزنا - تحت حماية القانون الوضعي السائد - وارتفاع كفة الجهلاء وانزواء العلماء «من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا (1)» .

* ومن الظواهر بروز (السناء متبرجات) سافرات مستعلنات بالإثارة «أيما امرأة استعطرت فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية (2)» .

إن هذه المرحلة هي المرحلة التي يقل فيها العمل ويكثر الجدل، وتقل فيها الصراحة والوضوح، ويسود الملق والنفاق ومظاهر الشرك المختلفة، ويكون اتباع الباطل وأهله هو الغالب حتى على كبار العلماء والمفكرين، إذ إنهم يخضعون لضغوط المناصب والأموال. . .

إن الناس جميعا قد يسلمون بصحة أصولهم الفكرية لأمتهم لكن لا يوجد لديهم اليقين القلبي ولا الاستعداد للتضحية، إنهم أقرب إلى النفاق، وهم يريدون إيمانا لا يدفعون له أي ثمن ولا يعوقهم عن أي مصلحة مادية أو معنوية (3). . . وإلا فالصمت أو ممالأة الفاسقين والضالين هو الطريق. . . أو البحث عن مخرج لوضعهم بإخضاع النصوص للباطل، وتلفيق آراء وتبريرات لوضعهم المزري، وهكذا تظهر صور كثيرة من سيطرة العادات والتقاليد القديمة، واتباع هوى النفس والتعلق باللذات الدنيوية وعدم الانضباط والتذبذب الدائم بين القول والفعل. . . وهذه الحالة أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله:«أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر (4)» .

(1) البخاري، كتاب العلم

(2)

رواه النسائي

(3)

محمد تقي الأميني، سنن الله في الرقي والانحطاط (بالأوردية)

(4)

رواه مسلم

ص: 187

ولئن كانت المرحلة الأولى (وهي مرحلة الفساد الفكري والخلل العقدي) تتميز بالضلال وظهور أئمة الفساد الذين يدعون الناس إلى الباطل ويبررون كل منكر ويخضعون مبادئ الصراط القويم للمسار المنحرف بواسطة التأويل. . . فإن مرحلة الذنوب تتميز بأنها مرحلة انتشار وسائل الترف. وخضوع الأفكار للأشياء، وبروز العوامل المادية التي تهوي بالمجتمع إلى قاع الاستهلاك، حتى تصبح الثانويات والكماليات جزءا أساسيا في حياته.

وفي هذه المرحلة يتبلد الإحساس: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ} (1) وتنغمس القيادات والشعوب في ترف مزر، وتتحول العلاقة بين الحكام والمحكومين إلى (علاقة مادية مطلقة) فما دام الحكام يوفرون للشعوب حاجاتها التي يطمعون فيها فهي عنهم راضية حتى ولو دمروا الأخلاق وكانوا يمشون سيرة معوجة. . . وفي مثل هذه الحياة المترفة يكثر المفلسفون للفساد والمبررون له. . . وأكثر الفلسفات التي تنتشر تؤيد إشباع الغرائز، وتدعو إلى الانفتاح على الترف المادي، وتزين للناس توفير كل سبل الحياة المادية، ولا مكان في هذه الحياة للآخرة، ولا لعالم القيم العليا، ولا لدعوات التسامي والتضحية والإيثار والجهاد بل تقف الماديات وحدها هي الأمل وهي القيم العليا والغاية المرجوة، يقول القرآن مصورا هذه الحياة المادية بكل أبعادها.

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (2).

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (3){وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (4).

(1) سورة يونس الآية 101

(2)

سورة آل عمران الآية 14

(3)

سورة سبأ الآية 34

(4)

سورة سبأ الآية 35

ص: 188

إنها مرحلة (سيطرة الأشياء على القيم والأفكار)، وهي مرحلة التردد والتذبذب في كل شيء، فالحق قد يكون معروفا بوضوح، لكن الأمة المنغمسة في الترف لا تعطي الحق إلا بعض الكلمات في بعض المناسبات، أو تجعله أشبه ما يكون (بالشعارات)، لكنه بعيد عن عالم التطبيق، إن ضغط (الأشياء) وشتى مظاهر الترف على العقول والسلوكيات تحول دون تطبيق الحق المعروف، وإن السواعد المترفة تضعف عن تحمل واجبات الحق المعروف والواضح، وتظهر في الطريق فلسفات تحاول تبرير هذا الوضع، بل والنظر إليه على أنه (التقدم) فتصبح المهرجانات والمباريات والمسابقات والاحتفالات وما يصحبها من صور البذخ والإسراف واللهو وتمجيد التافهين. . تصبح أكبر وسيلة للتعبير عن حالة (التحضر)، وقد يخدع بعض العقلاء أنفسهم فيحاولون مهادنة هذه الأوضاع أو الرضا بها وتبريرها، وتعلمنا مسيرة الرومان أن حضارتهم في عصر النشأة والقوة كانت تتميز بقلة الرغبات والحاجات، وكانت عقيدتهم قوية لدرجة أن كل أفرادهم كانوا مستعدين للتضحية؛ لأن قيمة الحياة (مع قلة الحاجات والرغبات) تصبح لعينة، وترتفع أسهم القيم العليا. . .

ومن خصائص هذا الوضع جفاف منابع الإرادة، وقلة الخيال السامي الذي يحدو بناة الأمم عادة وصناع الحضارات، وتنحصر الآمال في (اللحظة) وفي إطار (العمر الممدود) الذي يراد الاستفادة منه في المتعة إلى أقصى الحدود دون تفكير في المستقبل، حتى في المستقبل القريب، ودون تفكير حتى في الأقطار المحيطة بالأمة، والتي عادة ما تكون قوية جدا في مثل هذه الظروف.

(لنتذكر حالة ملوك الطوائف في الأندلس وتربص نصارى الشمال الأسباني بهم ولنتذكر قبلهم حالة الرومان كما صورها جيبون أثناء سقوط

ص: 189

الإمبراطورية الرومانية، وإحاطة الحرمان بها، ولنتذكر حالة معاصرة وهي حالة العرب والمسلمين الآن وإحاطة القوى اليهودية والصليبية والشيوعية والهندوسية بهم).

ومن السمات المميزة لهذه الحالة أيضا ظهور فجوة كبيرة بين الطبقات، ففي ظل الترف تظهر طبقة تصل إلى تكديس معظم الثروة، ويبدو الفرق شاسعا بينها وبين سائر المجتمع، وتظهر طبقة قادرة على أن تعيش بلا عمل طول حياتها، لأن تكديس الثروة ينتهي إلى أن هناك أجيالا من أبناء أو أتباع المترفين تكون قادرة - ومقبلة - على الحياة المترفة دون جهد لعشرات السنين أو لأكثر من ذلك.

ومثل هذه الثروة لا يمكن أن تمتلك بالعمل، بل تكون لها طرق من الحيل الشرعية المبغوضة أو غير الشرعية، وهي تجنح إلى الاكتناز أو التكديس (وأكل الأموال بالباطل) على غرار ما كان يفعله الأحبار والرهبان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1).

ومن خصائص هذه المرحلة ذهاب روح الإخلاص والصدق، وفقدان قوة الإرادة واستسهال الطريق السريعة الوصول، صحيحة كانت أو غير صحيحة، ومع ذهاب الإخلاص والإرادة يغلب الشكل على المضمون، ويصبح المجتمع مهتما بالنواحي الشكلية على حساب الجوانب الحقيقية، وحتى التدين يصبح شكلا ومظهرا أكثر منه حقيقة ومخبرا، بل يصبح وسيلة لكسب الدنيا وليس لإصلاحها، وتظهر النواحي الطائفية (2)، ولا تصبح العقيدة والعمل النافع هما ميزان الخير

(1) سورة التوبة الآية 34

(2)

سنن الله في التقدم والتخلف، محمد تقي الأميني (بالأوردية)

ص: 190

والشر، بل يصبح الانتماء الطائفي أو العرقي أو الحزبي أو العنصري أو الوطني هو الأصل، وهو يغفر لأصحابه كل زلاتهم وإهمالهم.

ومن آثار مرحلة الترف على الكيان الإنساني تدمير العاطفة البشرية والابتلاء بقسوة القلب وغلظته، وعندما تصل القلوب في أمة إلى مرحلة غلظة القلوب وقسوتها تفقد الأمة كثيرا من وشائج الرحمة وأواصر التراحم، ولا يستجيب الناس للحق إلا على مطارق الموت لغرورهم وفساد قلوبهم، ويتجرأ السفلة القساة على المصلحين الهداة، ولربما يبحثون لهم عن مثالب وتهم يسكتونهم بها، وينتشر العناد والمكابرة ومظاهر الصراع الغليظة، وينزوي الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وتصبح (القوة) و (الثروة) و (الأنانية الفردية) و (الأثرة) هي القيم المسيطرة، ويضطر الضعفاء - وهم الغالبية تحت ضغط هذه القيم الغابية - إلى الملق والنفاق والكذب والسلبية.

وهذه هي قيم (الوهن) التي يدفع إليها هذا الوضع المزري، وتدفع إليها غريزة «حب الدنيا وكراهية الموت (1)» كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فتسود المجتمع روح الاستهانة والاستكانة وكراهية العمل، ويصبح أفراد المجتمع «غثاء كغثاء السيل (3)» ولا ينجو أحد - إلا قلة قليلة - من هذه الروح العامة، حتى العلماء والمفكرون لا يتورع بعضهم عن تطويع الدين لتبرير الأموال وتحريف الكلم عن مواضعه، وهكذا تصبح النظرة (المادية والنفعية والحسية) هي سمة هذه المرحلة البارزة، وهي الروح العامة المهيمنة على الحياة الفردية والاجتماعية، وتحاصر - في المقابل - الاتجاهات الأخلاقية والروحية، ولربما سخر الناس من

(1) سنن أبو داود الملاحم (4297)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 278).

(2)

رواه أبو داود

(3)

سنن أبو داود الملاحم (4297)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 278).

ص: 191