الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان الباعث إلى ذلك: أني رأيت أقوال أهل العلم اختلفت في تفسيرها مع ظهور معناها بينًا بحيث يستبعد أن يكون اختلاف، فعزمت على كتابة هذه الدراسة لإقرار الصواب الذي لا خطأ فيه من معناها بوجوهه اللغوية والشرعية، وجعلتها على مباحث:
المبحث الأول: علاقة الآية بسياقها.
المبحث الثاني: معاني ألفاظ الآية.
المبحث الثالث: دلالات التراكيب في الآية.
المبحث الرابع: معنى الآية والأقوال فيه.
والعزم مني والتوكل على الله والتوفيق منه سبحانه لا شريك له وصلى الله على النبي وسلم تسليمًا.
المبحث الأول: علاقة الآية بسياقها:
الآية واردة في ثلاث مراتب من السياقات، فهي واردة في سورة الذاريات، مما نزل في مكة، في القرآن الكريم. فهذه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: علاقة الآية بسياقها في السورة:
هذه الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} إحدى آيات سورة الذاريات التي عددها ستون آية رقم هذه الآية فيها "56" أي في أواخر السورة.
وسياق السورة في مخاطبة الرب سبحانه المشركين معه غيره في
ألوهيته، الذين عرفوه سبحانه بآياته ومخلوقاته ولم يشركوا معه غيره في خلقه وربوبيته، ولكن شغلتهم الأسباب المباشرة ففروا إلى شواخص محسوسة يشاهدونها أمام أعينهم يظنون أن النفع يحصل من قبلها، وأن الضر يدفع من قبلها، فتوجهوا لها بطلب جلب النفع ودفع الضر، وانهمكوا في تقديم القربات إليها لأجل ذلك فاتخذوها معبودات من دون الله الذي يعرفون أنه خالقهم ومعبوداتهم، يملكهم ومعبوداتهم، ومكَّن هذا المنهج فيهم أنه إرث ورثوه عن آبائهم، فستر داعي تقليد الآباء داعي المعرفة التي يعرفون والفطرة التي فطروا عليها، إلا أن المركوز في فطرهم من معرفة ينازعهم فيرفع عنهم تمام الثقة في هذه المعبودات، فيباشرون أسبابا أخرى تنبئ عن ذلك، فهم مثلاً يطلبون من معبوداتهم من دون الله الرزق ويتقربون إليها بالقربات لأجله، ثم يمارسون أسبابًا أخرى تدل على أنه لم ينزل في جذر قلوبهم الاطمئنان التام اليقين إلى هذه المعبودات فيقتلون أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، ويمنعون السائل والمحروم، فهم عابدون لغير الله قلقون غير مطمئنين في معيشتهم.
وجاءهم الرسول مذكرًا فكذبوه وآذوه ولم ينتفعوا بتذكيره، فأنذرهم عذاب الله وعقابه الذي جعل له أجلاً في يوم الدين، فقابلوا النذارة بيوم الدين بمجرد الاستبعاد واستمروا يغمرهم اللهو.
والسورة في معالجة هذه الحال، ابتدأها الرب سبحانه بالقسم بشواهد ربوبيته مخاطبًا معرفتهم وما يقرون به من الربوبية وهو أسلوب يحمل جلال الربوبية وكبرياءها وهيبتها وعظمتها، يقرع النفوس العصية ويردها إلى رشدٍ غفلت عنه، وكرر القسم بربوبيته في ثنايا السورة فقال في الآية "23":{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وهذه الأقسام: أقسم بها على أن يوم الدين واقع وفيه يذوقون فتنتهم على النار إن بقوا على شركهم، أو متعتهم بالجنات والعيون إن هم اتقوا ربهم وأفردوه بالقربات، فهي قضية محسومة ليست محل جدل واختلاف. والقسم بالربوبية وارد هنا ورود الدليل والبرهان، فإن الرب الذي خلق ويدبر الأمر قادر على البعث والجزاء، وهذا أمر لشدة ثبوته وتأكده يصح القسم فيه بالدليل على مدلوله وبالشيء على لازمه.
فهو قسم يحمل قوتين عظيمتين مهيبتين: قوة الحجة وهيبتها، وقوة المحتج وهيبته، وهذه الهيبة تقرع القلوب ولا ريب، وتقمع نوازع المراء وشبهات الباطل، فإذا وقع هذا القرع والقمع استيقظت القلوب وتحفزت لجدٍّ لا لهو فيه، واستشعرت الصرامة والحزم، وتهيأت لعقل حجة الحق والركون إليه.
وهنا يردهم ربهم سبحانه في تربية مهيبة جليلة إلى طمأنينة تنزع منهم قلقهم، وتخلِّصهم مما قد يشغب على تلقيهم الذكرى بفهم وحضور عقل وانشراح صدر، فيعالج قضيتين نفسيتين يعانون منهما.
الأولى: قضية الرزق: فيقول لهم ربهم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ويقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ويحكي لهم أنموذجًا من رزقه عباده ليس كأي أنموذج، فهذا إبراهيم تبشره رسل ربه بغلام عليم من امرأته العجوز العقيم، فتأمل أي طمأنينة تبثها هؤلاء الآيات للثقة برزق الله وسكون النفس بها، حتى تهيأ الحال لأن يخبرهم سبحانه أن من صفات المتقين الموعودين بالنعيم في الآخرة أن يتقربوا إلى الله بحق في أموالهم للسائل والمحروم شأن من لا يخشى الفقر، لا كهيئة المشرك القلق المتوتر الضنك الذي يمنع الحق من ماله خشية الفقر.
الثانية: قضية تقليد الآباء وحفظ إرثهم: فيذكر لهم ربهم قصة قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وما حل بهم من عقوبات فهؤلاء آباؤهم الأوائل وأصحابهم في المنهج الذي هم عليه من الشرك بالله لم ينفعهم شركهم ولا آلهتهم شيئًا حين تعصبوا لها وتمسكوا بها فلم تغن عنهم من الله شيئًا.
وبعد هذه اللفتة التربوية البديعة يأتي عرض الذكرى، وهي ذكرى ليس إلا، إذ لا جديد فيها عليهم، فهم مفطرون على معرفتها وأحكام هذه المعرفة ولكنهم مأفوكون عنها، ولذلك قال:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} أي العارفين ربهم الموقنين به
المستحضرين ربوبيته الذين لم يؤفكوا عن لازم ما يعرفون.
وموضوع هذه الذكرى هو: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالقربات والعبودية وعدم اتخاذ إله آخر معه قط.
وقد ابتدأ سبحانه في عرض الذكرى بإقامة الحجة والدليل والبرهان لموضوعها ثم أمر به، فقال:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فذكر حجة استحقاقه الإفراد بالعبادة، فذكر ربوبيته الشاملة العامة التي انفرد بها بلا شريك، فذكر خلقه للسماء والأرض وكل شيء ثم قال {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي هذه حجتنا نذكركم بها لعلكم ترجعون لما تقتضيه فطرتكم وعقولكم من أنه لا يستحق العبادة إلا الرب الذي خلق؛ ولذلك أمر عقب ذلك مباشرة بلازم هذه الحجة ومدلولها فقال:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} وقال: فروا ولم يقل: اعبدوا؛ لأنه أراد منهم تحقيق إفراده بالعبودية بالانعتاق من عبادة غيره إلى عبادته وحده؛ ولذا أكد معنى الفرار بقوله عقبه: {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وفي سياق عرض الذكرى ورد قوله سبحانه في الآية التي ندرسها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وفيه الحجة ومطلوبها والدليل ومدلوله.
فقوله: {خَلَقْتُ} هو الحجة والبرهان وقوله {لِيَعْبُدُونِ} هو المطلوب والمدلول. فإن انتفعوا بهذه الذكرى، وعبدوا ربهم وحده لا شريك له فقد أدوا ما خلقوا له، وإن لم ينتفعوا وبقوا على شركهم فقد خالفوا ما يجب أن يقع منهم - وهذه علاقة خاصة للآية بالآيات القريبة منها في السورة، في شأن عرض الذكرى على المخاطبين، ولها علاقة بعموم السورة يأتي ذكرها قريبًا -.
ثم بعد عرض الذكرى بحجتها الدامغة التي لا دافع لها والموجبة للانتفاع والاهتداء، يشخص الرب سبحانه حالهم إن لم ينتفعوا بها في أمرين: الأول: أن هذه طريقة المكذبين المعاندين من قبل، الذين عوقبوا، لم ينتفعوا. الثاني: أنه لا حجة لهم يدافعون بها الحجة القائمة وإنما عندهم مجرد القذف والشتم والإفك والعدوان شأن الخلي من حجة إذا قامت عليه الحجة، كما عند المكذبين قبلهم، كأن بعضهم أوصى بعضًا بهذا، قال سبحانه:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ} ثم أعلن سبحانه نتيجة التشخيص وحقيقة حالهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: متعدون طغاة عن أمر ربهم؛ غطاهم العصيان فلا يأتمرون بأمر ربهم ولا ينتهون عن نهيه متجاوزين الحد في ذلك (1)(2)
(1) انظر تفسير الطبري، 27/ 6.
(2)
انظر تفسير الطبري، 27/ 6. ') ">
وهنا تأتي لفتة تربوية حازمة يعالج الرب بها عدم انتفاعهم بالذكرى بعد ظهور حجتها وأخذهم فيها بما يزيل القلق والهوى، فيقول لرسوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي: أعرض عن تكذيبهم ولا يصدنك عن الاستمرار في التذكير فإنه تكذيب لا حجة معه ولا وجه له، فإني لم أخلق الخلق إلا لعبادتي، ولذلك أمره بالمضي في التذكير بعد هذه الآية بقوله:{وَذَكِّرْ} ثم يقول فيهم مهددًا ومتوعدًا: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وعلاقة الآية التي ندرسها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} بعامة سياق سورة الذاريات، أن المتأمل يرى فيها تلخيصًا بديعًا دالاً لجميع ما ورد في سياق السورة، ووجه ذلك: أن هذه الكلمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} . فيها تعليل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يذكر بها والرسل قبله الذين قص بعضهم في السورة؛ فلأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه بعث إليهم الرسل تخاطب بعبادته وتأمر بالفرار إليه.
وفيها تعليل خلق يوم الدين والجزاء فيه، فلأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه رتب على عبادته الجزاء، وخلق الجزاء لذلك؛ ولأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه أهلك الأمم الذين عتوا عن أمر ربهم، وتوعد من فعل فعلهم بالمصير الذي أصابهم؛ ولأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه وعد من أجابه لمراده وأتى بالواجب عليه بالنعيم في الآخرة
ورزقهم من النعم في الدنيا.
فعبارة الآية فيها إيجاز بليغ جمع القضية وحجتها في كلمات معدودة، فهو إنما استحق العبادة؛ لأنه هو الذي خلق؛ ولأن الحجة فيها غير مدفوعة فإن المعاندين لا حجة لهم فهم {طَاغُونَ} {الْخَرَّاصُونَ} {هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} مأفوكون عن الحق أفكًا لا لحجة، وما داموا كذلك ففي الآية استهجان لحالهم، وتعريض بخروجهم عن الأصل الذي كان يجب أن يكونوا عليه.
وفي هذه الآية سر الأمر كله، وعلة الأمر كله، وحجة الأمر كله، وعليها مدار الأمر كله. قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن استعرض ما أورده الله في مجمل سورة الذاريات:" فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كان هذا مناسبًا لما تقدم مؤتلفًا معه: أي هؤلاء الذين أمرتهم إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك، لا رزقًا ولا طعامًا"