الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا فإن المظاهر الخارجية لا تعكس حقيقة الأمر من زهد أو عدمه، ولو فقه بعض العباد هذا المنهج، لكانوا في غنية عن إيذاء أنفسهم بأحوال، غاية ما فيها أنها إيذاء للنفس بما لا يحقق لها ما تصبو إليه من سعادة، والله المستعان.
المبحث الثامن: التكلف في العبادة
تتناقل كتب السير أحوالا لبعض العباد يوردها بعضهم على وجه المدح والثناء، كمن يقال عنه إنه يصلي كل يوم ألف ركعة (1)(2) أو إنه يصلي الصبح بوضوء العشاء (3) أو إنه لا يضع في الصلاة يدا على يد منعا للرياء (4) أو إنه يصوم ويواصل حتى يعجز عن القيام، فكان يصلي الفرض جالسا (5) أو يحرم من مكان بعيد، فيقدم مكة وقد أصابه الجهد، وهو سيئ الحالة (6) أو إنه لا ينام (7) أو لا يكلم
(1) ينظر: تفسير سورة النصر ضمن مجموع الرسائل 2/ 523.
(2)
ينظر: تفسير سورة النصر ضمن مجموع الرسائل 2/ 523. ') ">
(3)
ينظر: لطائف المعارف 94، ومقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام ضمن مجموع الرسائل 2/ 545. ') ">
(4)
ينظر: كشف الكربة ضمن مجموع الرسائل 1/ 301. ') ">
(5)
ينظر: لطائف المعارف 447، والمصنف، لابن أبي شيبة 19/ 282 - 283 رقم 46047. ') ">
(6)
وينظر: لطائف المعارف 447. ') ">
(7)
ينظر: لطائف المعارف 321، ونزهة الأسماع ضمن مجموع الرسائل 2/ 470، ويراجع: حلية الأولياء 8/ 30. ') ">
الناس يوم العيد بدعوى أن كل يوم عنده هو عيد (1) أو إنه قضى ليلة زواجه يصلي وترك زوجته (2) أو إنه لا يدعو يوم عرفة (3) أو لا يرفع رأسه إلى السماء (4) أو إنه لم يقدر أن يكبر للصلاة، أو إنه يتغير حاله عند الذكر، ويقف إلى الصباح يحاول أن يقول لا إله إلا الله؛ كل ذلك إجلالا لله تعالى (5) أو إنه يأمر بتقييد يديه عند الموت (6) وهكذا في مظاهر تدور كلها في تكلف في العبادة يريد صاحبها منه الأجر والثواب، وتساق على أنها محل للثناء.
وهذه المظاهر وإن كان ابن رجب قد يورد بعضها دون تعقب، إلا أن له رحمه الله من التأصيلات العلمية، المبنية على النصوص الشرعية ما توزن به مثل هذه الأعمال.
(1) ينظر: لطائف المعارف 509، وفتح الباري، لابن رجب 1/ 162، 163. ') ">
(2)
ينظر: لطائف المعارف 541. ') ">
(3)
ينظر: لطائف المعارف 497. ') ">
(4)
ينظر: شرح حديث (لبيك اللهم لبيك) ضمن مجموع الرسائل 1/ 129، ويراجع: صفة الصفوة 4/ 482. ') ">
(5)
ينظر: جامع العلوم والحكم 2/ 520. ') ">
(6)
ينظر: تفسير سورة النصر ضمن مجموع الرسائل 2/ 523. ') ">
فقد قرر رحمه الله أن ما يذكر كثيرا في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به، والثناء على فاعله.
وقد دل على هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر» (1) فإن المراد بهذا الحديث الاقتصاد في العمل، والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله ما دام صاحبه عليه وإن قل (2)
وكل من تكلف من العبادة ما يشق عليه حتى تأذى بذلك جسده، وتضرر به في جسمه، أو منع به حقا واجبا عليه، فإنه غير مأمور بذلك، وينهى عن ذلك، وأما إن كان بدنه يحتمل ذلك، ولم يمنعه من حق واجب عليه، ولا عما هو أفضل من النوافل، فلا ينه عن ذلك، وأحوال الناس تختلف فيما تتحمل أبدانهم من العمل (3)
ولم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه رضوان الله عليهم بكثرة الصوم والصلاة، بل ببر القلوب، وطهارتها، وسلامتها، وقوة تعلقها بالله، خشية له، ومحبة، وإجلالا وتعظيما، ورغبة فيما
(1) رواه البخاري في صحيحه 10 رقم 39.
(2)
ينظر: فتح الباري 1/ 150. ') ">
(3)
ينظر: لطائف المعارف 446، 447. ') ">
عنده، وزهدا فيما يفنى (1)
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرا منكم، قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة (2)
وقال الفضيل (3) لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام، ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة (4)
وقد وقعت بعض من صور التكلف في العبادة في عصر النبوة، فكان الهدي النبوي واضحا في التعامل معها، مما كان يلزم منه عدم تكرارها فيمن بعده من أتباعه، فكيف بأشد منها وأعسر، ومن ذلك (5)
ما جاء عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها
(1) ينظر: لطائف المعارف 448. ') ">
(2)
ينظر: لطائف المعارف 448، والأثر تقدم تخريجه. ') ">
(3)
تقدمت ترجمته. ') ">
(4)
ينظر: لطائف المعارف 448، وجامع العلوم والحكم 1/ 72، ويراجع: طبقات الصوفية 10، وحلية الأولياء 8/ 103.
(5)
ساق ابن رجب هذه النصوص ردا على صنيع هؤلاء المتكلفين. ينظر: لطائف المعارف 446 - 448، وفتح الباري، لابن رجب 1/ 150 - 151.
وعندها امرأة، فقال:"من هذه"؟ فقالت: فلانة تذكر من صلاتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا» (1)
ففي الحديث نهي لعائشة عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها، وأنها لا تنام الليل، وأمر لها بالكف عما قالته في حقها.
وسياق الحديث يدل على أن النهي إنما هو لمدحها بعمل ليس بممدوح في الشرع (2)
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا يمشي في الحج وقد أجهد نفسه، قال صلى الله عليه وسلم «إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، فمروه فليركب» (4)
وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم
(1) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه 10 رقم 43، ومسلم 318 - 319 رقم 1834.
(2)
ينظر: فتح الباري، لابن رجب 1/ 150. ') ">
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند 33/ 432، رقم 20323.
(4)
رواه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية 1156 رقم 6701، ومسلم 721 رقم 4247.
ولما بلغه صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه أنه قال: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر منهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال آخر منهم: أنا لا أتزوج النساء، فخطب، وقال:«ما بال رجال يقولون كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (2)
والحاصل مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن التعسير، ويأمر بالتيسير، ودينه بعث باليسر (3)
والأصل الجامع أن الاقتصاد في الأمور كلها حسن حتى في العبادة، ولهذا نهي عن التشديد في العبادة على النفس، وأمر بالاقتصاد فيها، والأخذ منه بما يتمكن صاحبه من المداومة عليه،
(1) رواه البخاري: كتاب التهجد 184 رقم 1153، ومسلم 475 رقم 2738.
(2)
رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 906 رقم 5063، ومسلم 586 رقم 3403.
(3)
ينظر: لطائف المعارف 448. ') ">
فأحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل (1)
ثم إن الاقتصاد في العبادة هو الموافق لطبيعة الإنسان، فإن "الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه، من مأكل، ومشرب، ومنكح، وملبس، وأباح له من ذلك كله ما هو طيب حلال، تقوى به النفس، ويصح به الجسد، ويتعاونان على طاعة الله عز وجل، وحرم من ذلك ما هو ضار خبيث؛ يوجب للنفس طغيانها، وعماها، وقسوتها، وغفلتها، وأشرها، وبطرها، فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه مما حرمه الله عليه، فقد تعدى وطغى، وظلم نفسه، ومن منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك، فقد ظلمها، ومنعها حقها، فإن كان ذلك سببا لضعفها وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه، ومن حقوق الله عز وجل، أو حقوق عباده، كان بذلك عاصيا، وإن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا، مغبونا، خاسرا"(2)
وإذ تمهدت تلك الأصول بأدلتها، فإنه ينهار أمامها كل
(1) ينظر: شرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 169، وفتح الباري 1/ 150، وحديث (أحب العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل) عند البخاري: كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه رقم 10 رقم 43، ومسلم واللفظ له 318 - 319 رقم 1834.
(2)
لطائف المعارف 446 - 447. ') ">
ما يقف عليه الناظر في سير بعض العباد والمتصوفة من أحوال يرونها، أو يراها فيهم من قل حظه من ميراث النبوة على أنها من صفات الكمال، ومواطن المدح والثناء.
وإن كان في هؤلاء من هو من أهل الصدق والجد والاجتهاد، فإنه لا يقتدى بهم، وإنما يقتدى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، ومن أطاعه فقد اهتدى، ومن اقتدى به وسلك وراءه وصل إلى الله عز وجل (1)
وانظر إلى فقه ورثة الأنبياء في إنكارهم لهذه الأحوال، فقد رأى عمر رضي الله عنه أحد من كان يحرم من مكان بعيد، فيقدم مكة وقد أصابه الجهد، وهو سيئ الحالة، فأخذ عمر بيده، وجعل يدور به الحلق، ويقول للناس: انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه، وقد وسع الله عليه (2)
ولما ذكر لعمرو بن ميمون (3) أن رجلا كان يصوم ويواصل
(1) ينظر: لطائف المعارف 447. ') ">
(2)
وينظر: لطائف المعارف 447. ') ">
(3)
أبو عبد الله عمرو بن ميمون الأودي المذحجي الكوفي، المتوفى سنة 75 هـ. أخباره في: حلية الأولياء 4/ 148 - 154، وصفة الصفوة 3/ 24 - 25، وسير أعلام النبلاء 4/ 158 - 161.