الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقفة السابعة: التيسير في الفتوى
.
من المتقرر في شرعنا أن أحكامه أمرًا ونهيًا؛ إيجابًا وتحريمًا جارية على سنن من اليسر والسهولة والتخفيف، فلا آصار ولا أغلال، ولا عنت ولا مشقة؛ وفي التنزيل جاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وفي آية أخرى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . وفي ثالثة يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وفي رابعة يقول عز شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} .
وفي الصحيحين عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَاّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا
كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ» (1)
وروى البخاري في صحيحه عن أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولَا تُنَفِّرُوا» (2)
وفي رواية لهما: «يَسِّرُوا ولَا تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولَا تُنَفِّرُوا» (3)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَاّ غَلَبَهُ» (4)
إذا تقرر ذلك وعلمنا أن اليسير مقصد شرعي فليس معناه التفلت والتخلص من ربقة الأحكام الشرعية، ولا التشهي في الأخذ من الأحكام بما يوافق الأهواء والرغبات الشخصية، بل معناه أن ديننا بأحكامه وتشريعاته منطلق من قاعدة اليسر والسماحة؛ مراعيًا مصالح
(1) صحيح البخاري، باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللهِ، من كتاب الحدود، حديث رقم 6786، صحيح مسلم، أبواب الفضائل حديث رقم 6190.
(2)
صحيح البخاري، باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا، من كتاب بدء الوحي، حديث رقم 69، ورواه مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه، كتاب الجهاد والسير حديث رقم 4525.
(3)
صحيح البخاري، باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، من كتاب الأدب، حديث رقم 6125، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، حديث رقم 4626.
(4)
صحيح البخاري، باب: الدِّينُ يُسْرٌ، من كتاب بدء الوحي، حديث رقم 39.
العباد وأحوالهم؛ فلم يقع التكليف بما لا يطاق، ولا بما مشقته غالبة لا تحتملها نفوس عامة المكلفين كما حصل في الشرائع السابقة؛ ولو تأملنا في الآية المقررة ليسر الشريعة؛ وهي قوله سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لوجدنا أنها جاءت بعد تكليف الصيام، وهو حبس للنفس عن مشتهياتها زمنًا معينًا؛ ثم رخص للمريض والمسافر في الفطر إلى بدل. ومن المتقرر أن حبس النفس عن مشتهياتها نوع تكليف يتضمن مشقة؛ لكنها في مقدور عامة المكلفين.
بل إن من أنعم النظر في قوله عز شأنه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
يتبين له أن الحكم الشرعي يتضمن اليسر مع اشتماله على التكليف؛ فقد جاء نفي الحرج والمشقة بعد التكليف بفريضة الجهاد وهي من أعظم أنواع التكاليف وأشقها؛ بل جاء في وصف هذا التكليف خاصة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
إذًا ليس معنى اليسر في الشريعة انفكاك الأحكام من الجهد والمشقة؛ بل المراد تحصيل الغاية الشرعية، والمقاصد الربانية بأقل جهد وأيسر سبيل؛ وهو متحقق في تطبيق الشريعة بأحكامها وتشريعاتها على وفق التشريع الرباني والسنن النبوي دون تشدد يبلغ بصاحبه تحريم الحلال، وتقييد المباح؛ ولا تَفَلُّتٍ وتمييعٍ يفضي بصاحبه للتساهل في الواجبات؛ أو تحليل الحرام والتحايل عليه بدعوى التيسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} قال: "فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها، وأنها داخلة تحت تكليفه، فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم، فهذا هو البيان الذي قال فيه ابن عباس وغيره: فنسخها الله عنهم بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ، وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم
ما لا يطيقون، وفي ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
والله تعالى أمرهم بعبادته، وضمن أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يسعونه، وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فتكليفهم يسعونه، وأرزاقهم تسعهم، فهم في الوُسْع في رزقه وأمره؛ وسعوا أمره؛ ووسعهم رزقه، ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول: إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يطيقونه، ثم يعذبهم على ما لا يعملونه".
ثم قال رحمه الله: "وتأمل قوله عز وجل: {إِلا وُسْعَهَا} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أنّ ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع، وذلك منافٍ للضيق والحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، بل يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. قال سفيان بن عيينة في قوله:{إِلا وُسْعَهَا} : إلا يسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها
طاقتها لبلغ المجهود.
فهذا فَهْم أئمة الإسلام، وأين هذا من قول من قال: إنه كلفهم ما لا يطيقونه البتة، ولا قدرة لهم عليه؟، ثم أخبر تعالى أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم، وأنه تعالى يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم، بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، بل رحمة وإحسانا وتكرما، ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم، بل حمية وحفظا وصيانة وعافية". انتهى كلامه رحمه الله (1)(2)
وبهذا يعلم أن رفع شعار التيسير إن لم يكن بحق؛ ويستند لدليل، فهو تمويهٌ لتمرير الأهواء والرغبات لا يمت للشرع بنسب؛ ولهذا قال قتادة رحمه الله تعالى:"ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم"(3)
فقيدها رحمه الله بما كتب الله؛ لا بما تهوى الأنفس دون حجة ودليل.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق، أو رجح لغير معنى معتبر فقد خلع الربقة؛ واستند
(1) مجموع الفتاوى 14/ 137 - 138.
(2)
مجموع الفتاوى 14/ 137 - 138. ') ">
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير 1/ 509. ') ">
إلى غير شرع عافانا الله من ذلك بفضله. فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع والمحدثات في دين الله تعالى، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقًا محدث " (1)
ومن درره رحمه الله تعالى قوله في السياق نفسه: "المفتي البالغ ذِروة الاجتهاد هو الذي يحملُ الناسَ على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهبُ بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، فإذا خرجَ عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذمومًا عند العلماء الراسخين"
وليعلم أن الاستطراد في باب التيسير دون قيد قد يوقع صاحبه في مجاراة أهواء الناس، وتطويع الشرع وفق شهواتهم ورغباتهم؛ بل وإعطاء الفرص للتفلت من ربقة الأحكام الشرعية بدعوى مرونتها وقابليتها للتطويع، وهذا قرين التنطع والتشدد فيما ورد يسره في الشريعة بالدليل، وعليه فلا بد من الانضباط والاتزان في الأخذ بأحكام الشرع؛ والسير فيها من منطلق القواعد الشرعية والنصوص المرعية.
(1) الاعتصام 3/ 139. ') ">