الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالواجب على من تجشم الفتيا؛ وانتصب لها عدم التضييق على الناس والمشقة عليهم فيما جاء الشرع بالتوسعة فيه، والحذر كل الحذر من الانزلاق في السير وراء الأهواء والنزوات؛ وتمييع الشريعة بدعوى التيسير والتخفيف على المكلفين؛ أو تطويعها لمواكبة العصر وموائمة الأحوال.
الوقفة الثامنة: تتبع الرخص
(1)
وهذه الوقفة من نتاج الوقفة السابقة، فقد يظن البعض أن من مسالك التيسير تتبع رخص العلماء، وما جرى في فتاويهم من التسهيل في الأحكام دون نظر إلى صحة المأخذ الذي أنيط به الحكم. وهذا الأمر وإن كان مما تحبه النفوس؛ وتميل إليه الأهواء، ويستجلب به رضا العامة والدهماء؛ إلا أنه مسلك مرفوض شرعًا. لأن التسهيل في الحكم دون دليل صرف للحكم عن مراد الشارع؛ وهو مرادف للتنطع والتشديد دون دليل. والعدل هو الأخذ بمدلول نصوص الشرع. وهذا المسلك هو الوسط العدل
(1) المراد بها رخص الفقهاء وزلاتهم في فتاويهم، وكل ما كان خلاف الراجح بالدليل، وليس المقصود بالرخصة ما كان في مقابل العزيمة من الرخص الشرعية الثابتة بدليل.
الخيار المتضمن لمصالح المكلفين في معاشهم ومعادهم.
وما جرى في فتاوى الأئمة والعلماء المتقدمين منهم والمتأخرين من الرخص غير المستندة إلى دليل هي من الزلل الذي لا يتابعون عليه، ويغفر الله لهم ما أخطأوا فيه، ويثيب من صحت نيته على اجتهاده.
وقد جاء التحذير من زلة العالم فضلاً عن تتبعها، والقصد إليها.
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم» (1)
وجاء في حوار عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه قال له: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟! "، قال: قلت: لا، قال:"يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"(2)
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس: "الله حكم قسط، هلك المرتابون - الأثر .. وفيه -
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير 20/ 138 - 139 رقم 282.
(2)
رواه الدارمي في سننه 1/ 295، رقم 220.
وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق". فقال يزيد بن عميرة – الراوي عن معاذ -: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؛ وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟، قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات - وفي رواية المشتبهات - التي يقال لها ما هذه؟، ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا" (1)
وقد عد السمعاني رحمه الله تعالى شروط المفتي وذكر منها: الكف عن الرخص والتساهل. ثم قال: "وللمتساهل حالتان:
إحداهما: أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام؛ ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفِكَر. فهذا مقصر في حق الاجتهاد، ولا يحل له أن يفتي، ولا يجوز أن يستفتى.
والثانية: أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة. فهذا متجوِّز في دينه، وهو آثم في الأول" (2)
(1) سنن أبي داوود، باب لزوم السنة، من أبواب السنة 5/ 15 حديث رقم 4611. قال الشيخ الألباني: صحيح. ') ">
(2)
ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه 6/ 305. ') ">
ولسوء هذا المسلك أغلظ العلماء في وصف فاعله، والتشنيع عليه، حتى اشتهر بينهم القول بأن:"من تتبع الرخص تزندق".
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: "من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رَقّ دينه"(1)
وقال إسماعيل القاضي رحمه الله تعالى: "دخلت مرة على المعتضد فدفع إلي كتابًا، فنظرت فيه؛ فإذا قد جُمِعَ له فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق!، فقال: ولِمَ؟، قلت: لأن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه؛ فأمر بالكتاب فأحرق"(2)
وجاء عن الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى أنه قال: "من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر. وكذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسع فيه، وشبه ذلك فقد تعرض للانحلال"(3)
(1) سير أعلام النبلاء 8/ 90. ') ">
(2)
ينظر: البحر المحيط 6/ 326 - 327. ') ">
(3)
ينظر: سير أعلام النبلاء 8/ 90. ') ">
وقال سليمان التيمي رحمه الله تعالى: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"(1)
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: "هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا"
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: "لو أنّ رجلاً عمل بكل رخصة؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ؛ وأهل المدينة في السماع - يعني الغناء -؛ وأهل مكة في المتعة؛ كان به فاسقًا"(2)
ونقل عن بعضهم قوله: "من أراد أن يتعطّل ويتبطّل فليلزم الرخص"(3)
وقال آخر: "أصل الفلاح ملازمةُ الكتاب والسنة؛ وترك الأهواء والبدع؛ ورؤية أعذار الخلق؛ والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات"(4)
(1) ينظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 185. ') ">
(2)
مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله 449. ') ">
(3)
ذكره الذهبي وغيره عن إبراهيم بن عثمان القِرْمْسِينِيّ، سير أعلام النبلاء 15/ 392. ') ">
(4)
ينظر: مدارج السالكين 2/ 350. ') ">
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى في بيان طبقات المختلفين: "وطبقة أخرى؛ وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى؛ إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم، مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم"(1)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: "من وضح له الحق في مسألة؛ وثبت فيها النص؛ وعمل بها أحد الأئمة الأعلام؛ كأبي حنيفة مثلاً؛ أو كمالك؛ أو الثوري؛ أو الأوزاعي؛ أو الشافعي؛ وأبي عبيد؛ وأحمد؛ وإسحاق؛ فليتبع فيها الحق؛ ولا يسلك الرخص، وليتورع؛ ولا يَسَعُهُ فيها بعد قيامِ الحجةِ عليه تقليد"(2)
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى - بعد أن ساق شيئًا من النصوص في هذا الباب -:"هذا إجماعٌ لا أعلم فيه خلافًا (3)
قال الشاطبي رحمه الله تعالى: "وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم؛ وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 5/ 68. ') ">
(2)
سير أعلام النبلاء 18/ 191. ') ">
(3)
جامع بيان العلم وفضله 2/ 185. ') ">
مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه؛ والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد؛ وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم" (1)
وليعلم أن عامة ما يدعو إلى التعلق برخص الفقهاء والمفتين؛ وتتبع زلاتهم هو السعي لتحقيق شهوات النفس؛ واستجلاب رضا العامة والخاصة؛ وقد قال الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقال عز شأنه:{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي} .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى: "فالحذر يا عبد الله أت تبني مجدك وحياتك على العز الكاذب؛ بنشر الشذوذ والترخص الفاسد؛ مبررًا للواقع الآثم سعيًا وراء الحظ الزائل. فقد نزل أناس عن كراسي العزة وزالوا، وكأنهم ما كانوا، وبقيت واقعاتهم على اختلاف طبقاتهم قصصًا تتلى للاعتبار. فاحذر أن تطوى في
(1) الموافقات 5/ 135 - 136. ') ">