الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذ تبين الوجه الصحيح في مسألة تمني الموت شوقا إلى الله تعالى، وأن الكمال ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه، من الأنس بربهم، والتلذذ بطاعته، فإن ما يقابله مما يقع من بعض العارفين من دعوى أنهم لا يشتاقون إلى الله عز وجل في الدنيا؛ لأنهم يشهدونه بقلوبهم حاضرا، وتباشر أنواره، ويتجلى لها فيستأنسون به، ويطمئون إليه.
فهذه الدعوى غلط أيضا، ولعلها صدرت من قائلها في حال استغراقه في مشاهدة ما شاهده، فظن أنه ليس وراء ذلك مطلب، ومعلوم أن أهل الجنة في أضعاف أضعاف ما يجده الصالحون من النعيم واللذة في الدنيا، فما يحصل في الدنيا للقلوب من تجلي أنوار الإيمان يدل على عظمة ما يحصل في الجنة، وليس بينهما نسبة
المبحث الرابع: مسألة الرضا بالقضاء
يقف الناظر في سير بعض العباد والمتصوفة على كلام لهم مفاده رضاهم بقضاء الله عليهم أيا كان هذا القضاء، ودعواهم قبول أنواع البلاء والعذاب؛ رضا بقضاء الله وقدره.
قيل لسليمان بن أبي سليمان الداراني: إن أهل النار يقولون: إلهنا ارض عنا، وعذبنا بأي نوع شئت من عذابك، فإن غضبك أشد علينا من العذاب الذي نحن فيه؟
قال سليمان: ليس هذا كلام أهل النار، هذا كلام المطيعين لله، فحُدث بذلك أبوه (1) (2) فقال: صدق سليمان (3)
ويقول أبو سليمان: "إن أدخلني النار أخبرت أهل النار أني كنت أحبه"(4)
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
تقدمت ترجمته. ') ">
(3)
نقله ابن رجب في التخويف من النار 193 - 194، ولم أهتد إلى تخريجه، وقد علق عليه ابن رجب بقوله:"وما قاله حق، فإن أهل النار جهال؛ لا يتفطنون لهذا، وإن كان في نفسه حقا، وإنما يعرف هذا من عرف الله وأطاعه، ولعل هذا صدر من بعض من يدخل النار من عصاة الموحدين".
(4)
ينظر: فضل علم السلف ضمن مجموع الرسائل 3/ 86، ويراجع: حلية الأولياء 9/ 255. ') ">
ولما سأل الجنيد أبا الحسن السري (1) هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا (2)
وقالت رقية الموصلية (3)"إني لأحب ربي حبا شديدا، فلو أمر بي إلى النار لما وجدت للنار حرا مع حبه، ولو أمر بي إلى الجنة لما وجدت للجنة لذة مع حبه، هو - تعني الحب - الغالب علي"(4)
وقالت: "إلهي وسيدي ومولاي لو أنك عذبتني بعذابك كله كان ما فاتني من قربك أعظم عندي من العذاب"(5)
وكان بعض أهل البلاء يقول: لو قطعني إربا إربا، ما ازددت
(1) تقدمت ترجمتهما. ') ">
(2)
نقله ابن رجب في: شرح حديث (لبيك اللهم لبيك) ضمن مجموع الرسائل 1/ 149. ') ">
(3)
رقية الموصلية. أخبارها في: صفة الصفوة 4/ 411 - 412. ') ">
(4)
ينظر: استنشاق نسيم الأنس ضمن مجموع الرسائل 3/ 343، 371، ويراجع: صفة الصفوة 4/ 412. ') ">
(5)
نقله ابن رجب في فضل علم السلف ضمن مجموع الرسائل 3/ 86 (منسوبا لبعضهم)، وفي استنشاق نسيم الأنس ضمن مجموع الرسائل 3/ 343، 372 (منسوبا لرقية الموصلية)، وهو من كلام رقية. يراجع: صفة الصفوة 4/ 411 - 412.
له إلا حبا (1)
وقال الداراني (2) لو أدخلني النار كنت راضيا (3) وقال عتبة الغلام (4) إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب (5)
هذا بعض ما نقله الحافظ ابن رجب في دعاوى القوم رضاهم بالقضاء، والنظر في هذه الدعوى من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا شك في أن الرضا بالقضاء مقام عظيم، من حصل له فقد رضي الله عنه (6) كما قال تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وفي الحديث: «من رضي فله الرضا، ومن
(1) ينظر: شرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 176. ') ">
(2)
تقدمت ترجمته. ') ">
(3)
ينظر: شرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 176، وأبهم ابن رجب نسبته، وهو من كلام أبي سليمان الداراني. يراجع: حلية الأولياء 9/ 263.
(4)
تقدمت ترجمته. ') ">
(5)
ينظر: لطائف المعارف 96، واستنشاق نسيم الأنس ضمن مجموع الرسائل 3/ 371، ويراجع: حلية الأولياء 6/ 235، وصفة الصفوة 3/ 371.
(6)
ينظر: شرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 175. ') ">
سخط فله السخط» (1)
ولكن الشأن كل الشأن هو في الرضا بالقضاء بعد وقوعه، وفي الدعاء المأثور عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أسألك الرضا بعد القضاء» (2)
والقوم إنما تكلموا عن الرضا قبل وقوع القضاء، وهذا في الحقيقة عزم على الرضا، فإذا وقع القضاء فقد تنفسخ العزائم (3)
كما كان سمنون (4) يقول:
وليس لي في سواك حظ
…
فكيفما شئت فامتحني
فامتحن بعسر البول فلم يصبر، وجعل يطوف على المكاتب، ويقول للصبيان: ادعو لعمكم الكذاب (5)
وهذا في عسر بول يرجى شفاؤه، فما الظن بنار تلظى، وبلوى
(1) رواه الترمذي 546 رقم 2396.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده 35/ 520 رقم 21666، وفيه تمام تخريجه.
(3)
ينظر: شرح حديث (لبيك اللهم لبيك) ضمن مجموع الرسائل 1/ 113، وشرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 176، ويراجع: الاستقامة 2/ 86 - 88، 94. وفي (ص 87 من الاستقامة) قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وما أكثر انفساخ عزائم الناس، خصوصا عزائم الصوفية".
(4)
تقدمت ترجمته. ') ">
(5)
ينظر: حلية الأولياء 10/ 309 - 310. ') ">
دائمة، فاللهم لا تبتلنا فتفضحنا، وارزقنا اليقين والعافية، والفقه والسداد (1)
الوجه الثاني: أنه لا ينبغي على العبد أن يتعرض للبلاء، أو يستعجله، بل يسأل الله العافية، وأن يرزقه الرضا بالبلاء إن قدر عليه البلاء (2)
فإذا وقع القضاء فرضي العبد به، فهو دليل على أن المحبة ما زالت به حتى رقته إلى هذه المنزلة العليا (3) فإن الرضا بالقضاء من علامات المخبتين الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت لكل ما يقضيه عليها من مؤلم، وملائم
فإن هذا من أعلى الأسباب التي تحقق الرضا بالقضاء، وهو الاستغراق في محبة المبتلي، ودوام ملاحظة جلاله، وجماله، وعظمته، وكماله الذي لا نهاية له، فإن قوة ملاحظة ذلك يوجب
(1) ينظر: الاستقامة 2/ 88 - 89. ') ">
(2)
ينظر: شرح حديث (لبيك اللهم لبيك) ضمن مجموع الرسائل 1/ 113، وشرح حديث عمار (اللهم بعلمك الغيب) ضمن مجموع الرسائل 1/ 176.
(3)
ينظر: شرح حديث (إذا كنز الناس الذهب والفضة) ضمن مجموع الرسائل 1/ 347. ') ">