الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشريع من خصائصه سبحانه، والبشر مكلفون بتطلب الحكم الشرعي بآلته. وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتبه القيم [أعلام الموقعين عن رب العالمين] أن أول من قام بمنصب التوقيع عن الله تعالى - في هذه الأمة - رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه من بعده، ثم التابعون لهم بإحسان فمن بعدهم
وإذا كانت الفتوى قولاً على الله سبحانه وتعالى، وتوقيعًا عنه، فما حكم التسرع إليها، والمبادرة إلى إصدارها دون علم أو رويَّةٍ؛ كما هو الحال في زماننا وللأسف من كثير من مبتدئي طلب العلم، ومدعي الثقافة من كتاب الصحف ورواد القنوات؛ بل وغيرهم من العامة وأشباههم ممن لا يمت إلى العلم الشرعي بنسب ولا سبب؟.
الجواب في الوقفة الثانية.
الوقفة الثانية: القول على الله بغير علم
.
من القواعد المطردة عند العقلاء أن تحدث المرء فيما لا يعرفه ولا يحسنه ضرب من السفه والحمق. وقديمًا قيل: من تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب!.
والفتيا إنزال حكم شرعي على فرع من مشهور المسائل أو نوازلها؛ فإن كان ممن تأهل بالفقه في الدين على ما أمر الله به في قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ؛ فهو قيام بالواجب وأداء للحق. وإن كان خلوًا من معرفة الحكم الشرعي بآلته فذاك معتد متكلف ما لا يحسن؛ آثم بنص الكتاب قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} . وقال سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وليعلم المفتي بلا علم أنه مع إثمه بفعله يتحمل ضلال من ضل بفتواه. وقد قال الله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفتي بفتيا غير ثَبَت فإنما إثمه على من أفتاه» (1)
قال ابن الأثير في النهاية: "الثَّبَت بالتحريك: الحجة والبينة"(2)(3)
وعند الدرامي من حديث عبيد الله بن جعفر مرسلاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» (4) وفي قصة صاحب الشجة حين سأل أصحابه عن الغسل فقالوا: لا نجد لك رخصة. فاغتسل فمات. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قتلوه
(1) مسند الإمام أحمد 14/ 17 حديث رقم 8266، سنن أبي داود بَابُ التَّوَقِّي فِي الْفُتْيَا، من كتاب العلم 4/ 44 - 45 حديث رقم 3657، سنن ابن ماجه بَابُ اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، من أبواب السنة 1/ 20 حديث رقم 53، سنن الدارمي 1/ 259، باب الفتيا وما فيه من الشدة، من المقدمة حديث رقم 161، مستدرك الحاكم 1/ 172 - 173 حديث 350/ 351. قال الحاكم: والحاجة بنا إلى لفظة التثبت في الفتيا شديدة. والحديث حسن كما قال الشيخ الألباني رحمه الله وغيره. [ينظر: صحيح الجامع حديث رقم 6069].
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر مادة ثبت من باب الثاء مع الباء.
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر مادة ثبت من باب الثاء مع الباء. ') ">
(4)
سنن الدارمي 1/ 258 - 259 حديث رقم 159.
قتلهم الله؛ ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال» (1)
قال ابن مفلح رحمه الله تعالى: "وإن كان من يفتي يعلم من نفسه أنه ليس أهلا للفتوى، لفوات شرط، أو وجود مانع، ولا يعلم الناس ذلك منه، فإنه يحرم إفتاء الناس في هذه الحال بلا إشكال، فهو يسارع إلى ما يحرم، لا سيما إن كان الحامل على ذلك غرض الدنيا"(2)
والواجب على من ولاه الله أمر المسلمين منع من كانت هذه حاله من الفتيا دفعًا للضرر الواقع بقوله؛ وحسمًا لمادة الفساد والإفساد؛ ومن المتقرر شرعًا أن الضرر يزال.
وقد كان الخلفاء ومتقدمو الولاة يرون قصر الفتيا في المسائل العامة؛ أو في بعض التخصصات على بعض العلماء خشية
(1) قصة صاحب الشجة أخرجها الإمام أحمد في مسنده 5/ 173 حديث رقم 3056، وأبو داود في سننه؛ باب في الْمَجْرُوحِ يَتَيَمَّمُ؛ من كتاب الطهارة 1/ 173 حديث رقم 337، وابن ماجه في سننه؛ بَابٌ فِي الْمَجْرُوحِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ، فَيَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إِنِ اغْتَسَلَ؛ من أَبْوَاب الطَّهَارَةِ وَسُنَنِهَا 1/ 189 حديث رقم 572. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني رحمه الله [صحيح الجامع الصغير حديث رقم 7811، 7812].
(2)
الآداب الشرعية 2/ 66. ') ">
التشويش على العامة.
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر بالجابية: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ، فَلْيَأْتِ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ فَلْيَأَتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفِقْهِ، فَلْيَأْتِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَالِ فَلْيَأْتِنِي؛ فَإِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى جَعَلَنِي لَهُ خَازِنًا وَقَاسِمًا"(1)
وذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة عطاء بن أبي رباح أن بني أمية كانوا يأمرون في الحج مناديًا يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح (2)
وروى محمد بن مخلد المروزي؛ عن ابن وهب قال: سمعت مناديا ينادي بالمدينة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس، وابن أبي ذئب (3)
(1) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال 1/ 332 حديث رقم 560، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 210، والحاكم في المستدرك 3/ 330، 331 حديث رقم 5253، 5257.
(2)
سير أعلام النبلاء 2/ 495، 5/ 82. ') ">
(3)
ما رواه الأكابر عن مالك بن أنس ص 61. ') ">
وذكر القاضي عياض؛ عن حماد بن زيد رحمه الله أنه قال: دخلت المدينة ومناديًا ينادي: لا يفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحدث إلا مالك بن أنس (1)
وقد عقب الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله على ذلك لما أورده فقال: "وعليه فيجب على من بسط الله يده أن يقيم سوق الحجر في الفتيا على المتعالمين، فإن الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان والأموال، وإن الوالي إن لم يجعل على الفتيا كبلا فسيسمع لها طبلا، وأن لا يمكن من بذل العلم إلا المتأهل له". أهـ (2)
ودخل رجل على ربيعة الرأي فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟؛ وارتاع لبكائه، فقال:"لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم". ثم قال: "ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السُّرَّاق"(3)
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "ينبغي للإمام أن
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك 1/ 78. ') ">
(2)
التعالم وأثره على الفكر والكتاب ص 54. ') ">
(3)
ينظر: جامع بيان العلم وفضله 2/ 388. ') ">
يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتواعده بالعقوبة إن عاد. وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق بهم" (1)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "من أفتى الناس وليس أهلا للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور فهو آثم أيضًا"
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لا يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين"
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وكان شيخنا – يعني شيخ
(1) ينظر: المجموع شرح المهذب 1/ 73 - 74. ') ">