الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
(الأمن الفكري)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرع ما يحفظ لنا أمننا، وأفكارنا، وجعل ذلك مرهونًا بحفظ ديننا وعقولنا، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وقدوة للعابدين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه .. وبعد:
فإن نعمة الأمن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ومطلب ضروري من ضروريات الإنسان، ولذلك كان من مقاصد الشرائع السماوية المحافظة على الضروريات الخمس وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والعرض، والمال، فإذا حفظ للإنسان هذه الضروريات فقد حصل على أسمى هدف، وأعظم غاية يرجوها الإنسان في هذه الحياة الدنيا وهو الأمن بجميع صوره، ومن فضل الله سبحانه أن هيأ لنا حفظ أمننا، وجعل ذلك مرهونًا ومرتبطًا
بالإيمان، وجعل بينهما ارتباطًا قويًا وتلازمًا ضروريًا فلا أمن بدون تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا يتحقق تمام الإسلام وكماله، والعمل بشعائره، وإقامة حدوده إلا بالأمن، ولا تقوم مصالح العباد إلا بالأمن، فالأمن هو روح الحياة وقلبها النابض ولذلك دعا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما شيد بيت الله الحرام أن يكون آمنا، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ، إنها دعوة مباركة مهمة بدأها بالأمن قبل الدعاء بالرزق لأنه لا يمكن طلب الرزق والعمل إلا إذا تحقق الأمن وقد استجاب الله دعاءه، قال الله تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} ، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} .
من ذلك يتضح أن الأمن بمفهومه الشامل من ضروريات الحياة، وهدف سام لكل مجتمع ودولة إذ هو سبب استقرارها وسعادتها، ومصدر أمنها واطمئنانها، وأساس تقدمها وتطورها، وعنوان رقي حضارتها، وغاية لإقامة دينها ورعاية مصالحها إلا أن من أهم أنواعه وأعظمها تأثيرًا في حياة الأمة هو الأمن الفكري فهو جزء عظيم لا يتجزأ من الإسلام، وهو لب الأمن، وقاعدته الكبرى،
وركيزته العظمى، لا غنى لأي فرد أو مجتمع أو دولة عنه، ولا يتحقق الأمن الشامل المحسوس بدون تحقيق الأمن الفكري إذ هو ثمرة تمسك الأمة بعقيدتها الإسلامية ومحافظتها على مصادر تشريعها وأخلاقها السامية ومثلها العليا.
والمقصود بالأمن الفكري الذي تريده الأمة الإسلامية، وكل مسلم غيور على دينه أن تكون شريعتنا، وعقيدتنا، وثقافتنا الإسلامية، وأخلاقنا وعادتنا الأصيلة محفوظة مصانة ومستمدة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تطبق الشريعة الإسلامية ويمتثلها الجميع عن قناعة وإخلاص لله تعالى، وأن يكون الناس آمنين على دينهم، وعقولهم، وأفكارهم من التهديدات الخارجية، والأفكار الهدامة والمبادئ الوافدة، والثقافات المستوردة، وبذلك يتحقق الأمن الفكري في أعلى مقاماته ويعيش الناس عيشة مطمئنة وحياة سعيدة مستقرة قائمة على المثل العليا، والسلوك السوي المستقيم، ويأمن الناس على أنفسهم، ودينهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وحيث إن نعمة الأمن الفكري يرفل فيها جميع أفراد المجتمع ويتمتعون بها فإن المحافظة عليها ليست مسؤولية السلطات الأمنية فحسب بل يجب أن يشترك فيها جميع أفراد المجتمع، والهيئات، والمؤسسات الاجتماعية التربوية والتعليمية، والدينية، ووسائل
الإعلام بجميع أقسامها يجب أن يكون الجميع قلاع أمن فكري وحصونًا حصينة، ودروعًا واقية تقف سدًا منيعًا أمام تيارات التغريب الفكري، والخلل الفكري التكفيري.
ولكي يتحقق الأمن الحقيقي الشامل لا بد من الأخذ بالأسباب والوسائل التي تحقق الأمن الفكري وتحافظ عليه ومن أهمها:
1 -
التمسك بكتاب الله والسنة النبوية المطهرة وتطبيقهما قولاً وعملاً واعتقادًا والتزامًا وتحاكمًا إليهما وفي ذلك جمع لكلمة المسلمين وعصمة من الوقوع في الضلالة والفتن وصيانة من الوقوع في البدع، فإن الأمن الفكري يضطرب إذا انتشرت البدع.
2 -
طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله وفي ذلك جمع لكلمة المسلمين وقطع للنزاع والشقاق.
3 -
الاهتمام بالناشئة والشباب واحتواؤهم وتربيتهم تربية إسلامية سليمة، وتحصين أفكارهم ضد المفاهيم المنحرفة، والمبادئ الهدامة، ووسائل الإعلام الضارة من القنوات الفضائية الهابطة والانترنت ونحو ذلك مما يضر بهم.
4 -
الاهتمام بمناهج التعليم في جميع المراحل بأن تكون سليمة مما يتعارض مع تعاليم الإسلام السمحة، والاهتمام بإعداد عقول الطلاب والطالبات إعدادًا سليمًا مستمدًا من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتنوير أفكارهم، وتصحيح المفاهيم الخاطئة
حتى لا يقعوا في أوحال التطرف والغلو.
5 -
الاهتمام بمجال الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما صمام أمن وطوق نجاة للفرد والمجتمع.
6 -
أن يرجع الشباب وطلاب العلم إذا التبس عليهم أمر أو نزلت نازلة إلى العلماء الراسخين في العلم المعروفين باعتدال مسلكهم، وأن يأخذوا العلم من مصادره الموثوقة، ويجب على العلماء أن يفتحوا قلوبهم لهم ويزيلوا الشبه العالقة في أفكارهم ويفندوها ويبينوا الحق في ذلك حتى لا يقعوا ضحية في أيدي الأعداء وضعاف النفوس والجهلة قليلي العلم.
7 -
يجب ضبط الفتوى وتضييق دائرتها بحيث لا يتصدر للفتوى إلا المؤهل لها المعروف بغزارة علمه وصحته واعتدال منهجه وسلامة مقصده. ولذلك فإن توسيع مجال الفتوى وتصدي الجهلة وقليلي العلم وحدثاء السن لها سبب لاضطراب الأمن الفكري فتنقلب الحقائق ويلتبس الحق على الناس ويصور الحق باطلاً والباطل حقًا فيحصل النزاع والفتن بين أفراد المجتمع وتحصل الفوضى الفكرية والجفاء بين طلاب العلم والعلماء الموثوق بهم.
8 -
الأخذ على يد السفهاء والمغرر بهم والعابثين بالأمن وردعهم وقطع شرهم.
إننا إذا عملنا بهذه الوسائل وأخذنا بهذه الأسباب فإن الله لا يخلف وعده لعباده فقد وعدهم بتحقيق الأمن الشامل لهم وبذلك تتحقق الحياة الكريمة المستقرة المطمئنة للناس، ويمكن الله لهم بإقامة دينهم الذي رضيه لهم، ويوفقهم لعمارة الكون وفق ما شرعه الله، وتعود للأمة الإسلامية عزتها وهيبتها، ووحدتها، وأمنها وكرامتها وسلطانها بين الأمم، قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
أسأل المولى جل وعلا أن يعز ولاة هذه البلاد، وجميع المسلمين بعز الإسلام، وأن يمكن لهم في أرضه، وأن يذل أعداءهم، ويرد كيدهم في نحورهم، كما أسأل المولى بمنه وكرمه أن يهدي ضال المسلمين، وأن يحفظ لهذه البلاد المباركة أمنها عامة، وأمنها الفكري خاصة إنه سميع قريب مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.