الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحائفهم للمعتبرين"
الوقفة التاسعة: الإفتاء بغير المشهور في البلد
.
تقع الفتوى في بلد على مذهب من المذاهب الشرعية المعتبرة؛ ويجري العمل على وفق تلك الفتوى، ثم ينشأ في البلد أو يطرأ عليها من يرى خلاف ما عليه أهل البلد؛ فهل له أن يفتي العامة بما يراه خلاف ما هو معمول به أم يسكت؟.
أما إن كانت الفتوى في البلد مخالفة لدليل شرعي قطعي الثبوت والدلالة فتبيين خطئها؛ والإفتاء بما يوافق الشرع هو المتعين لأن ذلك من النصح للعامة والخاصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تميم الداري رضي الله عنه:«الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قلنا: لمن يا رسول الله؟، قال: "لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (1). رواه مسلم
ثم إن مخالفة الدليل منكر؛ وإزالة المنكر متعيّنة، ففي الحديث:
(1) صحيح مسلم، أبواب الإيمان، حديث رقم 205، ورواه البخاري تعليقًا مجزومًا به، بَابٌ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ** الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ **، من كتاب بدء الوحي.
أما إن كانت الفتوى في البلد مما يحتملها الدليل باجتهاد سائغ من ذي أهلية معتبر؛ فلا يجوز التشويش على العامة بمخالفة من يقتدى به في البلد لاجتهاد يخالفه فيه غيره.
وعلى هذا فينبغي مراعاة مذاهب الدول والبلدان، وما استقر فيها من عمل؛ إذا كان من الاجتهاد السائغ، فلا يصح أن يأتي من هو خارج عنهم فيُشَغِّب على أهلها وعلمائها، بفتاوى تثير البلبلة والتشويش، فعلماء البلد أعلم بأحوال أهلها، وأعرف بما ينفعهم ويضرهم (2)(3)
وقد ذكر الإمام الذهبي في السير عن علي بن جعفر قال: أخبرنا إسماعيل ابن بنت السدي، قال: كنت في مجلس مالك، فسئل عن فريضة، فأجاب بقول زيد، فقلت: ما قال فيها علي وابن مسعود رضي الله عنهما؟، فأومأ إلى الحجبة، فلما هموا بي عدوت
(1) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، أبواب الإيمان، حديث رقم 186.
(2)
ينظر: بحث د. خالد العروسي الترخص بمسائل الخلاف. المبحث الثامن: ضوابط العمل بمسائل الخلاف.
(3)
ينظر: بحث د. خالد العروسي الترخص بمسائل الخلاف. المبحث الثامن: ضوابط العمل بمسائل الخلاف. ') ">
وأعجزتهم، فقالوا: ما نصنع بكتبه ومحبرته؟، فقال: اطلبوه برفق، فجاؤوا إلي فجئت معهم. فقال مالك:"من أين أنت؟ "، قلت: من الكوفة. قال: "فأين خلفت الأدب؟ "، فقلت: إنما ذاكرتك لأستفيد. فقال: "إن عليا وعبد الله لا ينكر فضلهما، وأهل بلدنا على قول زيد بن ثابت، وإذا كنت بين قوم، فلا تبدأهم بما لا يعرفون، فيبدأك منهم ما تكره"(1) أهـ.
وجاء في المسودة لآل تيمية أن القاضي أبا يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى قصده فقيه ليقرأ عليه مذهب أحمد، فسأله عن بلده فأخبره، فقال له:"إن أهل بلدك كلهم يقرؤون مذهب الشافعي، فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ "، فقال له: إنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت، فقال له:"إن هذا لا يصلح، فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد، وباقي أهل البلد على مذهب الشافعي، لم تجد أحدًا يعبد معك، ولا يدارسك، وكنت خليقًا أن تثير خصومة وتوقع نزاعًا، بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى"، ودلّه على الشيخ أبي إسحاق وذهب به إليه، فقال: سمعًا وطاعة؛ أقدمه على الفقهاء، والتفت إليه،
(1) سير أعلام النبلاء 11/ 177. ') ">
وكان هذا من علمهما معًا (1)
ومما يورد هنا وهو أيضا من باب دفع الخلاف في المسائل الاجتهادية؛ ومنع البلبلة على العامة ما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه صلى الصبح في مسجد أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت؛ ولم يجهر ببسم الله (2)
وفعله رحمه الله مع فقهه - قد اشتمل على الأدب مع أبي حنيفة رحمه الله حيث لم يخالفه في داره ومحل الاقتداء به، ثم فيه ترك البلبلة والتشويش على العامة.
وقد كان الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمه الله يقرر هذا المبدأ؛ ويؤصله؛ ويؤكد عليه؛ لعلمه بالأثر المترتب على إهماله.
قال رحمه الله تعالى في شرحه على فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي: "فالراجح في الدليل فعل ذوات الأسباب كما تقدم.
لكن إذا كان بين أناس فشا فيهم ما عند الأصحاب فترك فعلها أكثر مصلحة، لأن الناس إذا كانوا مستقيمين على طريقة ولو كانت
(1) المسودة 562 - 563. ') ">
(2)
ينظر: الجواهر المضية في تراجم الحنفية 4/ 573. ') ">
مرجوحة خير. الناس إذا اجتمعوا على شيء وألفوه وهو قول طائفة من أهل العلم فلا يشوش عليهم، فوجود التغييرات تشوش على العوام. وبعض الناس قصده خير ولكن قصير معرفة" (1)
وفي تقريرٍ له حول المنع من جمع الظهرين للمطر - كما هو المذهب عند الحنابلة - قال: "ومخالفة ما مضى عليه علماء الوطن المحققون سبب نقص في الدين، لا زيادة ولا ركود، بل يسبب النزاع والشقاق، ويهون عند العوام أمر الدين؛ حتى لا يكتفون أن يسألوا من وجدوا لتحصيل الرخص؛ بل يسلكون بنيات الطريق؛ بخلاف ما إذا ساروا على طريقة بعيدة عن النزاع والشقاق"(2)
وفي جوابِ استفتاء ورد إليه من بعض القضاة عَقَّب بعد الجواب بقوله: "فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة، لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر"(3)
(1) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله 2/ 260 - 261. وهو من تقريراته رحمه الله. ') ">
(2)
المرجع السابق 2/ 239. ') ">
(3)
المرجع السابق 11/ 30. ') ">