الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع حب؛ لأن أصل معنى العبادة في اللغة الذل والخضوع، ولكن العبادة الشرعية تتضمن معنى الذل ومعنى الحب جميعًا، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، فإن من خضع لشيء مع بغضه له لا يكون عابدًا له ومن أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له.
ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، ولا يستحق المحبة والذل التام إلا الله
وما يحبه الله ويرضاه إنما يعلم بأمره ونهيه الذي تبلغه عنه رسله.
وهذا المعنى العام هو المراد من العبادة في الآية وليس المراد أفراد العبادات المأمور بها في شريعة من شرائع الرسل بعينها - لأن شرائع الرسل تتنوع، فما تؤمر به أمة في عصر يختلف عما تؤمر به أمة في عصر آخر مع الاتفاق في الملة والأصول عامة - ولكن المراد هو توحيد الله بأفعال العباد وتقربهم إليه بشرائعه.
المبحث الثالث: دلالات التركيب في الآية:
في الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} تراكيب لغوية لها دلالات معنوية، فتركيب جملة الآية في موقعها من السياق
الاستئناف، ولهذا الاستئناف دلالته، وتركيب عبارة الآية بعضها إلى بعض استثناء من نفي، وهذا التركيب يسمى بـ (القصر) أو (الحصر)، ولهذا القصر دلالته، وفي الآية جمع بعطف الإنس على الجن، ولهذا الجمع دلالته، وفي الآية تعليل في {لِيَعْبُدُونِ} ولهذا التعليل دلالته، فهذه أربعة مطالب.
المطلب الأول: دلالة الاستئناف:
سبق أن ذكرنا أن (الواو) في مفتتح الآية للاستئناف؛ لأنها لو كانت للعطف لم يكن لها دلالة سوى الإشراك في معنى، فالواو العاطفة لا تفيد مع الإشراك دلالة أخرى، والآية لم تسبق بما يشترك معها في معنى لتعطف عليه.
وقول ابن عاشور في تفسير الآية: "الأظهر أن هذا معطوف على جملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} الآية التي هي ناشئة عن قوله {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} إلى {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} عطف الغرض على الغرض لوجود المناسبة"(1)(2) فيه نظر، فإن تقدير ما يعنيه ابن عاشور هو:"ما أرسلنا من رسول إلا ليأمر بعبادة الله وحده وما خلقت اخلق إلا لآمرهم بعبادتي" فيكون خلق الخلق مشتركًا مع إرسال الرسل في الغرض وهو عبادة الله وحده ولذلك عطف عليه،
(1) التحرير والتنوير 27/ 24 - 25.
(2)
التحرير والتنوير 27/ 24 - 25. ') ">
لمجرد الاشتراك لا لمعنى آخر.
وهذا المعنى في هذا التقدير وإن كان صحيحًا إلا أنه ترد عليه أمور:
1 -
أنه غير ملفوظ في الآيات.
2 -
أن حمل الآيات عليه متكلف؛ لأنه جمع لعدة آيات استقل كل منها بمعنى في معنى يفهم منها لتكون آية (ما خلقت .. ) معطوفة عليه، فإن آية {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} أمر عام بعبادة الله وآية:{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أمر بضابط العبادة وأنها مع الشرك لا معنى لها (1) وآية {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} بيان لموقف المشركين من الرسل وما أجابوهم به. فهذه معان متباينة وردت كل آية لتفيد واحدًا منها، ثم يفهم من الآية الأخيرة {كَذَلِكَ مَا أَتَى} أن الرسل جاءت بما في الآيتين قبلها. فالتقدير الذي أراده ابن عاشور فهمٌ غير ملفوظ في الآيات ناشئ عن تقديم وتأخير في الآيات، ومثل هذا وإن صح فهمًا إلا أن الحكم به على الواو بأنها للعطف تكلف، فإن العطف يكون على مذكور منطوق أو محذوف دل عليه مذكور.
(1) انظر حاشية ابن المنير على الكشاف:**الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال** 4/ 31. ') ">
3 -
أن للاستئناف مزيد معنى تدل عليه عبارة الآية لا يكون مع العطف.
4 -
أن المعنى المذكور في التقدير وهو إرسال الرسل للأمر بعبادة الله وحده لا يفوت بالقول بالاستئناف.
وعلى كل حال فإن معرفة الفصل والوصل في الكلام من أعظم أركان البلاغة حتى عرف بعضهم البلاغة بأنها (معرفة الفصل والوصل) وجعله الجرجاني من أسرار البلاغة ومما لا يأتي لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص، والأقوام طبعوا على البلاغة وأتوا فنًا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد (1)
هذا والاستئناف في الآية التفات إلى دلالات مهمة:
أحدها: تبرير ما ذكر في سياق السورة كما تقدم، ومنه إرسال الرسل بالأمر بعبادة الله وحده، فإن الله إنما أرسل الرسل بذلك لأنه خلق الخلق له، وهذا من تدبيره الذي أجرى به قضاءه سبحانه:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} .
ومن دلالات الاستئناف: التعريض بالمشركين إذ خرجوا عما يجب أن يكونوا عليه من توحيد الله وإفراده بالعبادة وتقريعهم وتوبيخهم،
(1) انظر دلائل الإجاز 170. ') ">
وتقدير المعنى: أتشركون وما خلقتكم إلا لعبادتي؟!.
ومن دلالته: تأكيد الأمر بعبادة الله وحده، بأقصى غاية التأكيد وهو تعليل وجودهم به.
المطلب الثاني: دلالة القصر:
في الآية استثناء بعد نفي، وهذا أسلوب من أساليب القصر، يقصر فيه المستثنى منه على المستثنى ويحصره فيه لا غير، والمقصور في الآية هو علة خلق الله الخلق على إرادته أن يعبدوه، ومفهومه أن لا غاية من خلق الخلق إلا هذه.
والقصر نوعان:
حقيقي: وهو تخصيص شيء بشيء بالنسبة إلى جميع ما عداه بحيث لا يتجاوزه على الإطلاق.
وإضافي: وهو تخصيص شيء بشيء بالنسبة إلى بعض ما عداه (1)
ولذلك فإن القصر في الآية إضافي؛ لأن فيه تخصيص العلة من خلق الخلق في إرادته سبحانه أن يعبدوه بالنسبة إلى مراده الشرعي، فلا علة لخلق الخلق من حيث مراده الشرعي عز وجل إلا هذه لا غير، ولكن ثمة علل أخر بالنسبة إلى مراده القدري الكوني منها:
(1) انظر الكليات 716 - 717. ') ">
اختلافهم في الدين وعدم اجتماعهم عليه كما قال سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1) فجعل سبحانه اختلافهم علة خلقهم ثم قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي كلمته القدرية الكونية فعلق العلة المذكورة بإرادته القدرية لا الشرعية.
ومنها التعارف قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . فعلل بـ {لِتَعَارَفُوا} وعلق هذه العلة بكونهم شعوبًا وقبائل فهي متعلقة بصفة وجودهم الذي قدره كونًا لا شرعًا.
وعلل سبحانه خلقه عبده عيسى عليه السلام على الصفة التي ذكر في كتابه بأنه آية ورحمة فقال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} فذكر العلة وعلقها بأمره القدري لا الشرعي.
ويشهد لكون القصر في الآية إضافيًا وأنه قصر بالنسبة لأمره الشرعي سبحانه، قوله في الآية بعدها:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} فنفى أن تكون إرادته القدرية الكونية في رزقهم التي قال
(1) وانظر التحرير والتنوير 27/ 26 - 27. ') ">
فيها في السورة نفسها: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} علة، فظهر أن التعليل في الآية متعلق بإرادته الشرعية لا القدرية.
ثم إن القصر الإضافي ثلاثة أقسام: "قصر إفراد وقلب وتعيين، فقولنا: (ما قام إلا زيد) لمن اعتقد أن القائم هو زيد وعمرو كلاهما قصر إفراد، ولمن اعتقد أن القائم عمرو لا زيد: قصر قلب، ولمن تردد أن القائم هل هو زيد أو عمرو: قصر تعيين"(1) وبالنظر إلى فعل المخالفين في شركهم مع الله غيره في العبادة واعتقادهم أن العبادة لا تكون لواحد بل لا تكون إلا لمعبودات متعددة حتى قالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فجزموا ببطلان إفراد الله في العبادة وحكموا بفساد الدعوة إلى إفراده بالعبادة، وقال قوم شعيب:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فجزموا أن ترك المعبودات إلى عبادة الله وحده ليس من الحلم والرشد، وهذا منهم مع إقرارهم بإفراد الله في خلقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
(1) الكليات 217. ') ">
وظنهم أن عبادة غيره سبحانه من القيام بحقه عليهم فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
بالنظر إلى هذا وهو اعتقادهم أن العبادة تكون لآلهة متعددة لا لإله واحد فإن القصر في الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} قصر قلب، أي إلا ليعبدوني وحدي لا ليشركوا معي غيري في العبادة، فهو إبطال للشرك ورد له.
وينبغي التنبيه إلى أن كل علة يعلل بها خلق الخلق غير هذه العلة المذكورة في هذه الآية {إِلا لِيَعْبُدُونِ} فإن مصير أمرها وغايته ومؤداه إلى هذه العلة في هذه الآية لا غير، فجميع العلل مرتبة على هذه العلة، وعلى سبيل المثال فإن العلل المذكورة آنفا عند ذكر اختلاف الخلق، وخلقهم شعوبًا وقبائل، وخلق عيسى عليه السلام، تعود بالتدبر إلى العلة ذاتها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ، فإن الله خلق الخلق؛ ليختلفوا، فيظهر حقه عليهم في أن يعبدوه في هداية العابدين، وإظهارهم، وإثابتهم، وضلال المخالفين، وكبتهم ومعاقبتهم، فإن الشيء يعرف بضده، وتمت كلمته ليملأن جهنم ليتقرر وجوب أمره أن يعبدوه، وإلا لما عذب من خالفه.
وخلقهم شعوبًا ليتعارفوا فيهتدي العاصي فيهم بالطائع ويأمر بعضهم بعضًا بالتقوى ولذلك قال بعد قوله: {لِتَعَارَفُوا} : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالأعبد لله هو الأتم حالاً الذي يقتضي معرفته الاقتداء به (1)
وخلق سبحانه عيسى؛ ليكون آية للناس، فتتم الحجة عليهم بتمام ربوبيته ووجوب لازمها من أن يعبدوه، فهو آية وعلامة على حقه عليهم سبحانه، فلو لم يكن خلقهم لعبادته لما احتاج الأمر إلزامهم حجة يقيمها عليهم، لا يكون لهم معها مخالفة أمره.
وقد كتب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تنبيهًا لطيفًا في اختلاف المذكور في آيات الكتاب في الحكمة من خلق الخلق، وبين أنه لا يخالف بعضها بعضًا، بل بعضها مرتب على بعض (2)
هذا، وللقصر الذي ركبت الآية عليه دلالة بليغة على أن الواجب على العبد الاشتغال بطاعة الله وحده، فلا يكون منه قصد إلا وجه الله ولا عمل إلا بشرع الله، فيكون هذا دأبه في الحياة في سائر حركته فيها، كل حركة منه عبادة لله، حتى سعيه في مناكب الأرض، لا يكون
(1) انظر التفسير الكبير للرازي 27/ 233. ') ">
(2)
أضواء البيان 7/ 674 - 677. ') ">
إلا عبادة منه لله وطاعة لأمره، لا انشغالاً بالرزق فقد قال:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} أي ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ويطعموا أنفسهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما (1)؛ ولذلك قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فسعيهم لطلب الرزق طاعة لله في قوله: {فَامْشُوا} ولكنهم ليسوا هم من سخر الأرض للغرس والبناء، وأنواع الحاجات بل هو أذلها لهم، ثم ما يحصل لهم من رزق بسعيهم هو رزقه إياهم، لا رزقهم أنفسهم، فالانشغال بالرزق لا يجتمع مع الانشغال بالعبادة، كما ورد في الحديث القدسي، قال الله:«ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك وإلا تفعل، ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك» (2) وهذا معنى ما يروى «يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي
(1) انظر تفسير الطبري 27/ 8، وانظر زاد المسير 8/ 43. ') ">
(2)
أخرجه أحمد 14/ 321 رقم 8696، والترمذي 4/ 554 رقم 2466، وابن ماجه 2/ 1376 رقم 1376، وصححه ابن حبان - الإحسان 1/ 306 رقم 394، والحاكم 2/ 443.
عليك ألاّ تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له» (1) وفي حديث إسرائيلي:«يا ابن آدم خلقتك لعبادتي، فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء» (2) قال صلى الله عليه وسلم: «من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل الإيمان» (3)
المطلب الثالث: دلالة الجمع.
المراد بالجمع في الآية عطف الإنس على الجن كما تقدم، وهو يجمعهما كما تقدم في أمرين:
أن كلاً منهما خلق الله عز وجل.
وأنه خلقهما لعلة واحدة وهي أن يعبدوه.
وها هنا سؤال يوقفنا الجواب عليه على دلالة الجمع في الآية وهو:
(1) أورده ابن تيمية في الفتاوى 1/ 23، ولم أجده في كتب الروايات ولعله كالذي بعده من الإسرائيليات.
(2)
ذكره ابن تيمية في الفتاوى 8/ 52.
(3)
أخرجه أحمد 24/ 383 رقم 15617، والترمذي 4/ 578 رقم 2521، وأبو داود 4/ 220 رقم 4681، وصححه الحاكم 2/ 164، وانظر السلسلة الصحيحة رقم 380.
ما وجه تخصيص الجن والإنس بالذكر في الآية مع كون جميع الموجودات تشترك معهما في الأمرين، فالجميع خلق الله، والجميع خلق لعبادته فإنه قال:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} فكون الجميع مسبحين بحمده ساجدين له أي يعبدونه دال على أنهم خلقوا لذلك، فلماذا لم يجمعوا مع الجن والإنس بالذكر؟! فإن كان الجواب: لأن عبادة كل شيء له بالتسخير لا بالتكليف وعبادة الجن والإنس بالتكليف أمرًا ونهيًا؛ ولذلك خصوا بالذكر، فيقال: فما بال الملائكة لم يذكروا وهم خلق مكلف يؤمر وينهى قال الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) وفي الكتاب: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} والغاية من خلقهم عبادة الله ولذلك قال فيهم: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}
(1) هذا وإن كان في الذين على النار من الملائكة إلا أن جنس الملائكة واحد. ') ">
وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ، فالجواب: أنهم خلق لا تمكن منهم المعصية، عصمهم الله من أن يخالفوا أمره، فتكليفه إياهم ليس على سبيل الابتلاء والامتحان.
وحاصل الأمر أن الجن والإنس إنما خصوا بالذكر لأنهم هم المكلفون بالعبادة على سبيل الابتلاء والامتحان من بين جميع الخلق، وأصناف الخلق غيرهم إما مسخر للعبادة تسخيرًا لا تكليفًا أو مكلفون لا على سبيل الابتلاء؛ لأنهم لا تمكن منهم المعصية.
فتحصل من هذا الجمع دلالته أن معنى: {لِيَعْبُدُونِ} : لآمرهم بالعبادة على سبيل الابتلاء، وهذا المعنى قررته الآيات في كتاب الله، قال الله:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} وقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهؤلاء الآيات مفسرة لقوله في
آية الذاريات {إِلا لِيَعْبُدُونِ} أي إلا لآمرهم وأنهاهم على سبيل الابتلاء، وهذا يختص به الجن والإنس؛ ولذلك خُصوا بالذكر وجمع بعضهم إلى بعض لإشراكهم في الحكم.
وقد يرد سؤال هنا، وهو: لماذا ذكر الجن والخطاب إنما هو للمشركين من الإنس؟!، فالجواب: أن إخباره في الآية عن علة الخلق إنما هو تقرير عام يشمل جميع أفراده، لا يختص بالطائفة المخاطبة؛ ولذلك قلنا في المقدمة من هذا البحث: إن هذا إعلان عام وهو موضوع الهدى الذي تكفل الله أن يجعله في الثقلين من حين أهبطهما إلى الأرض، فلما كان هذا تقريرًا عامًا ذكره على وجهه من العموم مشتملاً على جميع أفراده، خاصة وأن الجميع الجن والإنس مخاطبون بالرسالات نفسها، وهذا من دلالة الجمع أيضًا: أن الجن مكلفون برسالات الرسل كهيئة الإنس وإن تنوعت الشرائع.
وتحصل من ذكر الجن فائدة أشار إليها ابن عاشور (1) وهي تنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله، وجعل ابن عاشور تقديم الجن بالذكر للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن. وهما فائدة تحصل ولكن لا يظهر أن العبارة
(1) انظر التحرير والتنوير 27/ 28. ') ">
ركبت لأجلها كما جزم ابن عاشور. وإنما ذكر الجن للعلة التي ذكرناها، وهي كونهم مكلَّفين على وجه الابتلاء، وقدموا للعلة التي ذكرنا سابقًا، وهي أنهم سابقون في الوجود والله أعلم.
المطلب الرابع: دلالة التعليل.
تقدم أن اللام في: {لِيَعْبُدُونِ} لام التعليل، ومعلوم أن إثبات الشيء معللاً آكد في النفس من إثباته مجردًا عن التعليل. وهذا التعليل واقع بعد استثناء، فهو استثناء من الأسباب عند اللغويين (1)
والعلة عندهم هي السبب لا فرق بينهما (2) والسبب عندهم هو: ما يلزم من وجود الوجود ومن عدمه العدم لذاته. وكونه يلزم من وجوده الوجود لذاته احتراز من الشرطية؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود، وهذا يدل على معنى جليل في هذه الآية وهو: أن الله تعالى يستحق العبادة لذاته عز وجل، لا لكونه خلق الخلق فقط، فليس خلق الخلق شرطًا لاستحقاقه العبادة من غيره بحيث إنه لو لم يخلق لم يكن مستحقًا للعبادة من غيره لذاته، ولكنه سبب استحقاقها.
وكونه يلزم من عدمه العدم احتراز من المانع لأن المانع؛ لا يلزم من
(1) انظر الاستغناء 589 و610. ') ">
(2)
انظر الكليات 504. ') ">
عدمه شيء، وهذا يدل على معنى جليل في الآية وهو أن عدم حصول العبادة من الخلق لا يمنع أن الله هو المستحق للعبادة.
وكونه يلزم لذاته احتراز من أن يخلفه سبب آخر، فيقوم مقامه؛ لأن الأسباب تتعدد ويخلف بعضها بعضًا، فإذا لزم سبب معين لذاته امتنع أن يكون غيره سببًا.
والأسباب المستثنى منها لم ينطق بها في الآية فهي غير مذكورة وهذا يدل على الاستغراق، ففيه استثناء هذا السبب المذكور من جميع الأسباب عامة على الاستغراق.
وكون المستثنى سببًا والمستثنى منه جميع ما يكون سواه من الأسباب فهو استثناء متصل؛ لأن المستثنى سبب من جنس الأسباب واستثناؤه منها يعود عليها جميعها بالنقض، فهو سبحانه لم يخلق الخلق لحاجته إليهم مثلاً ولا لمغالبة نظير، ولا لأي سبب قد يتوهم. وهذا يشهد لما ذكرناه في دلالة القصر من أن ما ذكر في الآيات من علل الخلق مرتب على هذه العلة ودال عليها.
والعبادة سبب لخلق الخلق من جهتين:
الأولى: من جهة مقتضى الحال، فإن مقتضى الحال أن الخالق مستحق للعبادة، لا يجوز صرفها لغيره، وصرفها لغيره أعظم المنكر على المعنى الصحيح الوارد في حديث ضعيف عن أبي الدرداء قال: